“ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا

ونرقص بين شهيدين نرفع مئذنة للبنفسج بينهما أو نخيلا”.

كان ذلك تلخيصا شعريا كتبه ذات يوم “محمود درويش” للتراجيديا الفلسطينية بين الحياة والموت.

الحياة بكرامة أو الموت دفاعا عن الحق في الحياة.

“من العار ألا تموت واقفا”.

كان ذلك تلخيصا آخر للمعنى نفسه كتبه شبان فلسطينيين على حوائط البيوت في الضفة الغربية المحتلة.

أرادوا أن يقولوا: لا معنى للحياة تحت قهر الاحتلال وهدم البيوت والتهجير القسري والتنكيل بالأسرى والأسيرات والموت المجاني على نواصي الطرق إذا لم ننهض للمقاومة وإبداء الاستعداد للموت في سبيل اكتساب الحق في الحياة.

هذا هو المعنى الحقيقي لظهور جيل جديد من المقاومين الفلسطينيين انتدبوا أنفسهم للرد على همجية السلاح الإسرائيلي في مخيم جنين.

من قلب المعاناة بدت ردة الفعل طلبا للحق في الحياة، أن يعيشوا أحرارا بلا تمييز وفصل عنصري ضدهم واستباحة حياتهم كلها.

كان مستلفتا أن الفلسطينيين، الذي نفذا عمليتين على التوالي في القدس المحتلة وضواحيها.. أحدهما- في سن الثالثة عشر.. والآخر- تجاوز بالكاد العشرين من عمره.

لم تكن هناك معلومات استخباراتية إسرائيلية مسبقة، ولا الشابين اليافعين معروفان لأجهزة الأمن ولا ينتميان لأية جماعة سياسية أو تنظيم مسلح، كأن كل فلسطيني مشروع قنبلة موقوتة قد تنفجر.

بدت منظومة الأمن الإسرائيلية في انكشاف كامل.

كان ذلك داعيا للتساؤل حول مدى قدرة وأهلية حكومة “بنيامين نتانياهو”، الأكثر يمينية وتطرفا وعنصرية منذ تأسيس الدولة العبرية عام (1948)، في حفظ الأمن الإسرائيلي على ما وعدت مؤيديها بانتخابات الكنيست الأخيرة.

يجد “نتانياهو” نفسه الآن محشورا في الزاوية بين الضغوط الأمريكية التي تطلب وقف التصعيد والضغوط العكسية المتشددة داخل حكومته التي تطالبه بالحد الأقصى من قمع الفلسطينيين.

بقوة رد الفعل قد تلجأ المقاومة الفلسطينيةإلى أساليب مستجدة تتحدى الأمن الإسرائيلي وتدفع به إلى الطرق الملغمة، كما حدث في عمليتي القدس المدويتين.

أمام الآفاق السياسية المسدودة كل السيناريوهات ممكنة.

لا يمكن استبعاد سيناريو واحد.

لا حل الدولتين ممكن.. ولا حل الدولة الواحدة مطروح.

الحل الأول، يكاد أن يتحول إلى مادة إنشائية اعتيادية في الخطاب الأمريكي لا تعني شيئا محددا.

جرت استعادة الكلام الدبلوماسي عن حل الدولتين في جولة وزير الخارجية “أنتوني بلينكن” بالمنطقة، التي استهدفت تهدئة الأجواء المشتعلة ومنع التصعيد في فلسطين المحتلة خشية أن تلحق ببلاده أضرارا استراتيجية لا يمكن التحكم في تداعياتها على خلفية أوضاع التأزم الحالية بالحرب الأوكرانية.

بدت زيارته إلى مصر وإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة أقرب لأعمال “شرطة الإطفاء” دون أي أفق سياسي، أو أية خطة عملية لتسوية ما للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

في مصر، التي مر بها أولا، كان طلبه محددا وواضحا في تطويق أي تصعيد محتمل من الجانب الفلسطيني دون أن يكون هناك وعدا مقابلا بإلزام إسرائيل بتهدئة موازية.

لم تكن القضية الفلسطينية همه الأول في زيارته القاهرية.

ركز في مباحثاتهعلى طلب أن تقوم مصر بنقل رسالة إلى موسكو بخصوص تطورات الحرب الأوكرانية دون أن تتضح معالم تلك الرسالة.

وفي إسرائيل قال ما يودون الاستماع إليه، أكد الالتزام الكامل بأمنها وأولوية منع إيران من حيازة سلاحا نوويا، تعاطف مع ضحاياها ولم ينطق حرفا واحدا عن الضحايا الفلسطينيين، كأنهم ليسوا بشرا يستحقون الحياة وكأن إسرائيل ليست دولة احتلال تبيح كل الشرائع والقوانين الدولية مقاومتها.

وفي الأرض الفلسطينية المحتلة كانت قضيته الأولى منع التصعيد وعودة التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال.

لم تكن هناك مقاربة جديدة للقضية الفلسطينية، كأننا أمام حركة في الفراغ تستهلك الكلام الدبلوماسي عن حل الدولتين دون أن يعني ذلك شيئا محددا، أو له قيمة.

باليقين فإن حل الدولتين تقوض بالتوسع الاستيطاني والإلغاء المنهجي لأي اتصال جغرافي ممكن داخل الدولة الفلسطينية المفترضة.

الحل الثاني، الذي يدعو إلى بناء دولة واحدة، تضم العرب واليهود، أو “دولة كل مواطنيها” يكاد أن يكون وهما من الأوهام.

فهو يناقض تماما المشروع الصهيوني، الذي ينفي الوجود الفلسطيني ولا يعترف به ولا يلتزم معاهدة “أوسلو” بكل ما انطوت عليه من تنازلات.

إذا ما نظرنا إلى التعداد السكاني الحالي في فلسطين التاريخية، الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي (1948)، فإن العرب واليهود يكاد أن يتقارب تعدادهما.

وإذا ما نظرنا في معدلات المواليد فمن المتوقع أن تؤول الأغلبية للعرب في مدى منظور.

بأي حساب يستحيل تمرير حل الدولة الواحدة.

بانغلاق الأفق السياسي على أية حلول، أو شبه حلول، تتزايد احتمالات الانفجار في الأراضي المحتلة.

هناك أكثر من سيناريو للمستقبل المنظور.

الأول، اندفاع أعمال القمع داخل الأراضي المحتلة إلى مستويات غير مسبوقة تتجاوز هدم البيوت إلى ترحيل أسر بأكملها بذريعة أن أحد أبنائها قام بعملية مقاومة ضد الإسرائيليين.

نوع من العقاب الجماعي، أو درجة منذرة من التهجير القسري.

الثاني،اندفاع آخر لإنشاء حرس وطني صهيوني تسند إليه مهمات العقاب الجماعي، إذا ما حدث ذلك تنتفي عن إسرائيل أية ادعاءات تنسبها للدول الحديثة.

بمعنى آخر فإنه إضفاء طابع رسمي على ميليشيات المستوطنات التي تتحرش من وقت لآخر بالمسجد الأقصى وتتبنى فكرة التهجير القسري.

الوضع الدولي لا يسمح بإعادة مشاهد التهجير، التي صاحبت نكبة (1948)، لكنها تظل محتملة جزئيا فالقوى المهيمنة على القرار الإسرائيلي لا تهمها صورة ولا تردعها ضغوط.

الثالث، التحلل الفلسطيني من قيود اتفاقية “أوسلو”، إلغاء السلطة الفلسطينية نفسها.

هذا احتمال لا يمكن استبعاده.

في عام (2010) سألني رئيس السلطة الفلسطينية “محمود عباس” في لقاء ضمنا مع مجموعة من رؤساء التحرير بقصر الأندلس: بمَ تنصحني؟

كان شبه يائسا مما وصلت إليه مراوغات الحديث عن السلام.

قلت: حل السلطة الفلسطينية.

رد بعبارة مقتضبة: موافق.. لكن ليس الآن.

في حوار تال كرر السؤال نفسه وتلقى الإجابة نفسهادون أن يبدي استعدادا لاتخاذ أية خطوة عملية حتى تطرح القضية الفلسطينية على نحوها الصحيح: سلطة احتلال وشعب يقاوم.

الرابع، أن يمضي الصدام بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى مستوى لا يمكن بعده استبعاد حرب إقليمية واسعة خاصة إذا ما جرى عدوانا مدمرا على المسجد الأقصى.

في وجود أمثال “إيتمار بن غفير” خليفة الحاخام “كاهانا” و”سيموتريتش” الصهيوني الديني المتشدد بقلب القرار الإسرائيلي فإن كل احتمال وارد كل سيناريو محتمل.

إسرائيل أسيرة أيدولوجيتها المتطرفة.

ما كان ممكنا في أوقات سابقة بات مستحيلا الآن.

في تسعينيات القرن الماضي أبدى اليسار الإسرائيلي ممثلا في “إسحاق رابين” و”شيمون بيريز” نوعا من الانفتاح على تسوية سياسية ما لتجنب العواقب المحتملة للقنبلة السكانية الفلسطينية.

بتوزيع الأدوار تولى “رابين” مسؤولية الشق السياسي فيما أسندت لـ”بيريز” مسؤولية الشق الاقتصادي، الأول راوغ باسم السلام دون أن يكون ممكنا أن يستكمل مقوماته على أرض الواقع، والثاني ناور باسم التعاون والتطبيع الاقتصاديين وبناء شرق أوسط جديد تندمج إسرائيل فيه.

مشروع “رابين” تقوض باغتياله ومشروع “بيريز” استكمل بعده بإحداث اختراق كبير وصل مداه بما يطلق عليها “الاتفاقيات الإبراهيمية”.

السؤال الرئيسي هنا: هل يمكن الإبقاء على تلك الاتفاقيات إذا ما وصل العنف مداه في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟

على المدى القصير لن تحدث تغييرات كبرى.

على المدى البعيد يصعب الإبقاء عليها.

في لعبة القمع بالحديد والنار يطرح السؤال نفسه: من يحتمل تبعات وعواقب المواجهات أكثر من الآخر؟

الإسرائيليون يطلبون الأمن لكنهم لن يحصلوا عليه أبدا.

والفلسطينيون يطلبون الحياة بكرامة ولن يكون ذلك أمرا متاحا بأي مدى منظور.

السيناريو الأرجح: التصعيد ثم التصعيد إلى حافة الانفجار بامتداد الإقليم كله.

وبالنظر إلى رمزية القدس فإن الصراع عليها سوف يكون نقطة التفجير.