بخفة ظل وإيجاز، يغرّد الكاتب والأديب والساخر البارز عمر طاهر على موقع تويتر: “النسخة دي من المعرض كل جوايزها تروح للناس اللي زوغت من الكتمة و الزنقة و عرفت تيجي تقوّم صناعة بالكامل على حيلها .. صناعة ماحدش يلومهم لو تجاهلوا إنتاجها في الظروف اللي إحنا فيها”.
اقرأ أيضا.. نحن لا نتحمل ألا ندعم صناعة الكتاب
بهذه الحروف القليلة البليغة التي لا تتجاوز عدد الكلمات التي تسمح بها تغريدات الموقع الشهير، لخّص طاهر الحدث الأبرز في معرض القاهرة الدولي للكتاب، ألا وهو دفعة التفاؤل الهائلة التي منحها جمهور القراءة لصناعة الكتاب. صحيح أن المخاوف لا تزال قائمة، صحيح أن أسعار الورق ما تزال جنونية، صحيح أن قدرة القراء الشرائية تأثرت سلبًا بالتأكيد. لكن القراء ما يزالون يحضرون، بمئات الآلاف، وسيتجاوزون، كعادتهم كل عام، الأرقام المليونية التي تميز معرضنا الذي يجب أن نفخر به، والذي لا يزال – ممثلا لصناعة الكتاب – يقاوم الكثير من المحن والصعوبات التي تعصف بالاقتصاد عامة، عالميا ومحليا، و”الكتاب” خاصة، إن من جهة الأسعار، أو من جهة المقروئية في حد ذاتها، في ظل المنافسة المتصاعدة على “الانتباه” من بقية الوسائط الإعلامية والتعليمية والترفيهية.
وصحيح أن زوار المعرض قد تجاوزوا في الأسبوع الأول وحده المليون ونصف المليون زائر، إلا أن الاهتمام بالأرقام العامة، المليونية، لا ينبغي أن يشتت نظرنا عن المبادرات الفردية، والتفاصيل الصغرى التي تجعل المشهد الكبير ممكنا، فبدون الانتباه لتلك التفصيلات، والاهتمام بها لتنميتها، أو على الأقل، وضعها في الحسبان عند التخطيط للمستقبل، يمكن لنا، أن نخسر ما حققناه أو نحققه، من دون أن نفهم لماذا خسرناه.
ومن تلك التفصيلات، والمبادرات، الرحلة التي قام بها أهالي قرية الشوبك التابعة لمركز شبين القناطر بالقليوبية، إلى معرض الكتاب. والتي قام بتنظيمها طبيب التخدير كمال سالم، الذي يهتم بالنشاط الثقافي لأبناء قريته، والذي اقترح فكرة الرحلة وقرر حجز أوتوبيسين أو ثلاثة، فإذا بالإقبال، من أهالي القرية والقرى المجاورة، والطلبة من مختلف الأعمار والمراحل التعليمية، يصل بالعدد إلى 14 حافلة، وحوالي 500 زائر. في مشهد رائع، أكاد أقول أيضا أنه مشهد مهيب. لخروج الطلبة في حشود للسفر إلى القاهرة ومعرضها للكتاب.
أتكلم عن التفاصيل لأن المسألة ليست إعلان واستئجار حافلات فحسب، إنها تتطلب تنسيقا، ورعاية، وثقة من الأهالي بالمشرف على النشاط، كما تطلبت أيضا، تواصلا مع هيئة الكتاب، منظمة المعرض، ما سمح بالدخول المجاني للأوتوبيسات من بوابة مخصصة لها. وتوفير مكان لها للانتظار بالداخل.
رأينا أيضا المبادرات المتنوعة لصناع الكتب أنفسهم، التخفيضات التي تراوحت بين جيدة وممتازة، عروض التقسيط البنكية، الاهتمام برفع العناوين الجديدة سريعا على المنصات الإلكترونية ذات سعر الاشتراك المعقول. الأنشطة والدعاية وحفلات التوقيع ليلتقي القراء كتابهم المفضلين. المشروعات الحكومية ذات الأسعار الممتازة لكتب طه حسين في ذكراه الخمسين، وغيرها من الكتب القيمة، في سلسلة “الهوية” التي يشرف عليها الشاعر جرجس شكري في هيئة الكتاب.
كل تلك نجاحات مشهودة، على الرغم من الشكوى المحقة للكثير من القراء، بسبب المسافة البعيدة التي تفصل المعرض، في مقره الجديد بالتجمع، عن مراكز العاصمة ومحطاتها الرئيسية، الأمر الذي ولا شك أثر سلبا على الإقبال، الذي كان ممكنا أن يتضاعف، فالمسافة البعيدة تعني تكلفة أكبر في الانتقال، صعوبة أكبر لحركة كبار السن والأطفال، بل حتى انخفاضا في مرات الزيارة لمحبي، بل ومحترفي القراءة. لا يزال العديد من القراء يحلمون بعودة المعرض إلى مكانه الأثير في مدينة نصر، والذي توفرت من أجله يوما محطة مترو، بينما يعتقد آخرون أن ذلك زمن قد ولّى. ويخشى غيرهم، بين الجد والهزل، أن يأتي يوم يبتعد فيه موقع المعرض أكثر!
لا ينبغي أن يشغلنا النجاح والإقبال إذن عن التحديات، والأهم أن نتأمله لنفهمه أكثر. فلماذا يأتى ملايين القراء إلى هذا المكان البعيد، والمزدحم، بينما تتواجد المكتبات وتفتح أبوابها طوال العام، بكتبها المصرية والعربية (في الماضي لم نكن نرى الكتاب العربي والأجنبي إلا فترة المعرض، أما الآن فهو متاح في كل وقت)، وبالطبع فإن تجمع الناشرين في مكان واحد والعروض الخاصة بفترة المعرض وزهوة العناوين الجديدة كلها عوامل جذب، لكن الزيارات المليونية، ليس للقراء المنفردين محبي الكتب فحسب، بل للأسر والعائلات وحتى وفود القرى البعيد، تخبرنا أن المصريين بحاجة للمتنفس الاجتماعي، بحاجة إلى الأماكن الآمنة النظيفة المناسبة لقضاء وقت خارج البيت، بعيدا عن عوادم السيارات والقمامة والقيادة الجنونية ودخان الشيشة، محاطين بالأنشطة المعرفية والموسيقى والفرق الفنية، إنهم يستحقون المزيد من كل ذلك، لأنهم يبرهنون كل عام بزياراتهم المليونية، على أنهم يطلبون المعرفة والثقافة والبهجة والفنون أينما وجدت.