يستمر الصراع الرواندي الكونغولي بأبعاده الأمنية والجيو استراتيجية في تهديد مجمل الأوضاع في إقليم وسط إفريقيا وتقاطعاته (شرق إفريقيا، وحوض النيل) وإطلاق حلقة جديدة مزمنة من حلقات الصراعات “الإفريقية- الإفريقية” فيما تتمدد التهديدات الإرهابية (على خلفية إسلاموية أو غير إسلاموية) في القارة وتتطابق على نحو مثير للدهشة مع تمدد الاستثمارات القائمة أو المحتملة لاسيما في قطاع الطاقة (كما في موزمبيق والكونغو والكاميرون وتشاد وغيرها) بالغ الأهمية في الأشهر الأخيرة على ضوء الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها.

اقرأ أيضا.. الاقتصاد أولا.. الخليج وأفريقيا خريطة مزدحمة بالمصالح والفرص والنفوذ

ومن هنا فإن الوساطة القطرية والمقاربات الخليجية بشكل عام (لا سيما في ضوء صلة العلاقات العضوية بين الإمارات ورواندا) تظل مفهومة تمامًا وفاعلة ويتوقع تعمقها في المستقبل القريب رغم تأجيل جولة محادثات الدوحة التي جرت يوم 23 يناير/كانون ثاني، بين كيجالي وكينشاسا، والتوتر بين الدولتين عقب مناوشات عسكرية غير مسبوقة في الآونة الأخيرة بعد قرار السلطات الكونغولية طرد الضباط الروانديين المشاركين في القوة الإقليمية المنتشرة في شرق الكونغو من البلاد.

تطور الأزمة الرواندية- الكونغولية

الرئيسان الكونغولي فيليكس تشيسكيدي ونظيره الرواندي بول كاجامي

الرئيسان الكونغولي فيليكس تشيسكيدي “يسار” ونظيره الرواندي بول كاجامي

تصاعدت حدة الصراع الرواندي الكونغولي يدًا بيد مع حراك استثماري أجنبي ملفت في الدولتين في قطاعات الطاقة والبنية الأساسية في النقل والاتصالات وتصاعد الاهتمام الدولي بالإقليم ككل من قبل قوى مختلفة في مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا وتركيا والصين إلى جانب قوى خليجية عربية ذات مصالح اقتصادية صاعدة في الدولتين.

وعلى سبيل المثال أسندت كينشاسا منتصف يناير/كانون ثاني الماضي ثلاثة مناطق استكشاف بترول في بحيرة كيفو (على حدود الكونغو الشرقية والمتقاطعة مع الحدود الرواندية) لشركتين أمريكية وكندية ضمن مزايدة كبرى أعلنتها كينشاسا لمنح امتيازات استكشاف وإنتاج الغاز والبترول في 27 منطقة ساحلية، وتوجد بعض هذه المناطق داخل الغابات، ما أثار مخاوف بيئية عدة.

وحسب وزارة المحروقات الكونغولية Hydrocarbons Ministry فإن التوقيع على العطاءات سيتم في غضون 15 يومًا فقط على أن يبدأ الإنتاج وفق عقود المشاركة في مطلع العام المقبل 2024. وجاءت خطوة كينشاسا لتثير التنافس مع جارتها رواندا في استغلال الكميات الهائلة من الغاز الطبيعي أسفل بحيرة كيفو لتوليد الكهرباء؛ وقدرت مصادر طاقوية أبرزها موقع World Oil احتواء بحيرة كيفو، على كميات من الميثان كافية لإنتاج 700 ميجاوات كهرباء خلال الأعوام الخمسين المقبلة؛ بينما تعتمد الكونغو في خطتها لتطوير إنتاج الكهرباء من البحيرة كجزء لتوسيع استخدام الطاقة من 10% من سكانها إلى 32% بحلول العام 2030.

وفي نفس السياق جددت رواندا قبل نهاية يناير/كانون ثاني 2023 اتهامها لجارتها الكونغو الديمقراطية بعرقلة جهود الوساطة التي بذلها قادة إقليميون لاستعادة السلام والاستقرار في شرق الكونغو بعد اجتماع كان مقررًا عقده في الدوحة بين الرئيسين الكونغولي فيليكس تشيسيكيدي والرواندي بول كاجامي، بعد قرار الأول عدم المشاركة فيه في اللحظات الأخيرة.

ووردت تقارير من مصادر بالحكومة الكونغولية في مدينة جومبي بأن كينشاسا اعتقلت أحد أبرز وسطاء الرئيس تشيسيكيدي مع كاجامي وهو فورتونات بيسيليلي، وتم التحقيق معه من قبل رئيس المخابرات الكونغولية شخصيًا ثم تجريده من صلاحياته في وقت لاحق، ما يثير علامات استفهام مقلقة حول دوافع اعتقال بيسيليلي لاسيما مع احتمالات تورط المخابرات الرواندية في المسألة.

كما تصاعدت حدة التوتر بين البلدين المتجاورين في 24 يناير/كانون ثاني بعد إطلاق القوات الرواندية النار على مقاتلة جوية كونغولية، بحجة انتهاكها المجال الجوي الرواندي، ما وصفته كينشاسا في بيان بأنه عمل عدواني متعمد يرقى إلى كونه عمل من أعمال الحرب.

من ناحية أخرى، يكشف تعقد الأزمة بين البلدين عن تشابك مواقف الأطراف الإقليمية والدولية من الأزمة بشكل بالغ التعقيد وهو ما يلقي ظلالًا على أية نجاعة لجهود الوساطة الإفريقية أو تطبيق شعار حلول إفريقية لمشكلات إفريقية والذي طالما دافع عنه “كاجامي” و”تشيسيكيدي” خلال رئاستهما للاتحاد الإفريقي في دورات أخيرة.

الوساطة الخليجية: دبلوماسية المصالح

أمير قطر تميم آل ثاني ورئيس رواندا بول كاجامي

أمير قطر تميم آل ثاني ورئيس رواندا بول كاجامي

تتمتع قطر بعلاقات متميزة مع كل من رواندا والكونغو؛ فقد استحوذت قطر في العام 2019 على حصة 60% من مشروع تشييد ميناء جوي جديد في رواندا بتكلفة 1.3 بليون دولار (حوالي أربعة أضعاف التدفقات الخارجية المباشرة إلى رواندا في العام 2018)، كما شارك الأمير تميم آل ثاني في قمة دول الكومنولث المنعقدة في كيجالي منتصف العام الماضي، والتي تضمنت مناقشات لتحقيق نمو تجاري متوازن والحفاظ على الموارد الطبيعية، قبل زيارته التاريخية إلى القاهرة مباشرة

كما تحكم العلاقات القطرية الكونغولية اتفاقًا مهمًا للتفاهم وقع أول عام 2021 لحماية الاستثمارات القطرية المرتقبة في الكونغو في مجال المطارات الجوية والتعاون البحري، وقيام قطر بتشييد ثلاثة مطارات كبيرة في الكونغو (نجيلي، وندولو في كينشاسا العاصمة، ولوانو في مدينة لوبومباشي في أقصى جنوب الكونغو) إضافة إلى عدد من مشروعات التعاون الثنائي في قطاعات أخرى مثل الاتصالات والطاقة وغيرهما.

في المقابل تركز الإمارات على الاستثمارات في شرقي الكونغو الغني بموارده التعدينية. ووقع البلدان منتصف يناير/كانون ثاني الجاري اتفاقًا على نقل شحنات كبيرة من الذهب عبر شراكة تصديرية مع الإمارات “من أجل وقف عمليات تهريب الذهب” في الإقليم الذي يشهد وقائع الأزمة مع رواندا والمتمردين الذين تدعمهم، ووصل وزن أول شحنة أعلنت عنها شركة بريميرا جولد Primera Gold DRC المشتركة بين كينشاسا وأبوظبي 28 كيلوجرام، مع ملاحظة أن صادرات الكونغو من الذهب الصنائعي في العام 2021 وقفت عند 26 كيلوجرام فقط حسب التقديرات الرسمية فيما يقدر الإنتاج الذي يستخرجه مهربون في البلاد بنحو 20 طن من الذهب.

وتوضح الإشارات السابقة جانبًا من الاهتمامات الخليجية بدولتي النزاع وما توفره كل منهما من فرص استثمارية هائلة لدى الدوحة وأبو ظبي ومن ثم شواغل للوساطة ومساعي ضبط الأزمة الإفريقية.

بأي حال فقد مضت جهود الوساطة القطرية في الأزمة، بدعم أمريكي تام، للأمام خطوات مطلع العام الجاري بعمل الدوحة الحثيث على ترتيب اجتماع بين رئيسي رواندا والكونغو وسط تكثيف واشنطن والدوحة مساعيهما لتيسير الوساطة بين البلدين الإفريقيين.

وكان البند الرئيسي في اجتماع الدوحة المؤجل هو العودة إلى اتفاق لواندا الموقع بينهما في العام الماضي بوساطة من الرئيس الأنجولي جواو لورنسو. كما شملت الدعوة القطرية للاجتماع مسئولين من أنجولا وبوروندي وكينيا وهي دول نشطت بشكل واضح في التوصل لاتفاق لواندا. كما أن الموعد المحدد جاء بعد 24 ساعة فقط من اجتماع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بنظيره القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في الدوحة ومناقشة جهود الدوحة لتحقيق السلام في الكونغو الديمقراطية.

ورغم التصعيد بين كينشاسا وكيجالي منذ نهاية الشهر الماضي، وآفاق انسداد الجهود الدبلوماسية مرحليًا على الأقل فإن قطر واصلت جهودها لعقد اجتماع آخر بين الرئيسين تشيسيكيدي وكاجامي في فبراير/شباط الجاري وأبدت الدوحة تفاؤلها إزاء إمكان عقد هذا الاجتماع وفق إفادات قدمها مسئولون قطريون لراديو فرنسا الدولي بأن الكونغو طلبت في خطاب رسمي “تمهيدًا” وأن الطرفين اتفقا على على بدء مشاورات تمهيدية في الدوحة، والبناء على المحادثات التي جرت بين مسئولين كونغوليين وروانديين في ديسمبر/كانون الأول الماضي خلال انعقاد كأس العالم في قطر. وفي الوقت نفسه فإن قطر لا تزال حريصة على التوصل لنتائج محددة لتسوية الأزمة بين البلدين بعد عقود من التوتر.

بمعزل عن “العامل المصري”

السيسي ونظيره الكونغولي فيليكس تشيسكيدي
الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره الكونغولي فيليكس تشيسكيدي

تثير الأزمة الرواندية الكونغولية الراهنة، وهما من دول حوض النيل، تساؤلات عن الموقف المصري والتداعيات المرتقبة على مصر في ظل المخاوف البيئية والجيو استراتيجية. وحسب التقديرات المؤكدة فإن بحيرة كيفو، التي تصب في نهر النيل وتبلغ مساحتها نحو 2700 كم مربع، تحتوي على ما يقرب من 55 مليار متر مكعب من الغاز المسال على عمق 300 متر قد تؤثر عمليات إنتاجها على جودة المياه بنسب متفاوتة.

كما تشير التفاعلات الإقليمية المكثفة، من قبيل مشاركة قوات من جمهورية جنوب السودان (فرقة قوامها 750 جنديا من قوات الدفاع الشعبية الجنوب سودانية منذ ديسمبر/كانون أول 2022 إلى جانب قوات من أوغندا وكينيا وبوروندي) التي أثارت احتجاجات كونغولية فيما يؤشر إلى توتر مكتوم حول طبيعة القوة والتفويض الإقليمي المقدم لها وما يعنيه من تحولات إقليمية مهمة في حوض النيل وإعادة تشكيله سياسيًا بمعزل عن “العامل المصري”، خاصة أن الكونغو واحدة من أهم شركاء مصر في القارة الإفريقية في الآونة الأخيرة.

وبشكل عام فإن جهود الوساطة الإفريقية، التي تدعمها مصر، بدت غير واقعية أو قادرة على إقناع تشيسيكيدي وكاجامي بالحلول الوسط، الأمر الذي دفع الوسيط البارز في الأزمة الرئيس الكيني السابق، أهورو كينياتا إلى أن يطالب “كاجامي” نهاية عام 2022 بالمساعدة في جهود الوساطة مع متمردي حركة M23، ما عنى على نحو غير مباشر رؤية “كينياتا” الصريحة بأن “كاجامي” طرف أصيل في النزاع؛ وتجلى ذلك في تصريحات كاجامي بمساعدة جماعة شرق إفريقيا في مهام “حث” حركة M23 على الانسحاب من الأراضي التي سيطرت عليها “التي مثلت تغيرًا كبيرًا” مع حرص المسئولين الروانديين على نفي أي تورط لبلادهم في علاقات مع الجماعة المتمردة.

وفي المقابل فإن الوساطة القطرية، التي تتم بدعم وتنسيق كاملين مع واشنطن، مع إضافتها لجولة وزير الخارجية التركي الأخيرة التي شملت رواندا وعززت التقارب التركي الرواندي في مجالات الدفاع والتعاون الاقتصادي بعد أسابيع قليلة من تقديم تركيا شحنات أسلحة للكونغو، دلالة إضافية على تجاهل أي دور مصري محتمل في واقع الأمر، في دائرة لصيقة من دوائر أمن مصر القومية أو منطقة حوض النيل، والحيلولة واقعيًا دون انخراط القاهرة في أية مساع مستقبلية لتسوية النزاع رغم تعدد الأطراف المنخرطة فيه وتقاطع تصوراتها ومصالحها مع مصر في أكثر من ملف.

الخلاصة

تأتي الوساطة القطرية في أزمة رواندا- الكونغو، والتدخل الخليجي المباشر وغير المباشر فيها، تعبيرًا عن متغيرات إقليمية متزايدة من جهة التعبير عن المصالح الاقتصادية الحاكمة للسياسات والمواقف الدولية بشكل واضح تمامًا، ومدى ضغط أزمة الطاقة في أوروبا على نحو جعلها أكثر انخراطًا في الصراع “الإفريقي/الإفريقي” منذ وقت مبكر وعدم الانتظار لمزيد من تفاقمه كما جرت العادة في أزمات إفريقية سابقة.

ورغم تأجيل اجتماع الدوحة وإطلاق القوات الرواندية النار على طائرة كونغولية، ثم طرد الضباط الروانديين المشاركين في قوة شرق إفريقيا، فإن أهمية الوساطة القطرية تظل قائمة كخيار أول بين الوساطات المختلفة؛ لاعتبارات التنسيق (القطري- الأمريكي) وتأكيدات متواترة من دبلوماسيين منخرطين في الأزمة بأن واشنطن لا تزال تقدم دعمًا كاملًا للدوحة في هذا الملف، واهتمام قطر المعروف بتشبيك دبلوماسيتها بالمصالح الاقتصادية لاسيما في قطاع الطاقة كما حدث في حالات ليبيا والصومال، بالإضافة إلى الترقب وتقديم حوافز لأطراف الصراع تقوم على مبدأ “الفوز للجميع”. ومن ثم فإن التعطل الراهن في التسوية بين رواندا والكونغو، وإحدى مراحلها الوساطة، يمثل في جوهره مساحة أخرى لبذل مزيد من الجهود الدبلوماسية لأن البديل أزمة أمنية وسياسية طاحنة في وسط إفريقيا قد تمتد لتلحق أضرارًا بكافة سيناريوهات التنمية الاقتصادية في الإقليم، التي يقودها مرحليًا عدد من شركات الطاقة العالمية الكبرى، ومن بينها مشروعات خطوط الأنابيب من جنوب السودان وأوغندا إلى سواحل المحيط الهندي.