على مدار ثلاثة أيام زرت معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي توشك دورته الرابعة والخمسين على الانتهاء، ورغم الغربة المكانية بالنسبة لي ولكثير من أبناء جيلنا الذين ارتبط لديهم معرض الكتاب بأرض المعارض بمدينة نصر، إلا أن الارتباط بهذه العادة السنوية لا يزال مستمرا خاصة أنها كان لها دور وفضل رئيسي في أن تجعل القراءة أحد الاهتمامات الرئيسية ومصادر المعرفة لجيلنا، قبل الطفرة التكنولوجية التي واكبها جيلنا في مرحلة شبابه.
اقرأ أيضا.. عن ثورة يناير التي كانت.. وعن أهدافها التي ستظل باقية
لكن اللافت هو استمرار الحضور الشبابي الواسع من الأجيال الجديدة الأصغر سنا في الإقبال الكبير على زيارة معرض الكتاب، رغم تعدد وتنوع مصادر المعرفة والمعلومة حاليا، إلا أن الكتاب لا يزال حاضرا بقوة كأحد تلك المصادر، رغم الكثير مما يقال –وهو صحيح في بعض جوانبه– حول اعتماد الأجيال الجديدة بشكل أكبر على الثقافة المرئية أكثر من المكتوبة، وعلى مصادر المعلومات المتاحة طوال الوقت من خلال شبكة الإنترنت ووسائل التواصل وغيرها من الأدوات المختلفة عن الكتب، ومع ذلك فإن هذا الإقبال الكبير والحضور الواسع للأجيال الشابة يؤشر بوضوح على استمرار الكتاب كأحد مصادر وعى هذه الأجيال.
بالتأكيد هناك سؤال بالغ الأهمية ويحتاج للكثير من الاستقصاء والبحث والمعلومات والبيانات حول ماذا يقرأ هذا الجيل، وما هي اهتماماته في مختلف المجالات، ومن هم كتابه المفضلون وموضوعاته وقضاياه الأكثر حصولا على اهتمامه، وبالتأكيد قد تكون هناك بعض الملاحظات التي تستحق النقاش في هذه المساحة وبعض الظواهر التي تستدعى الوقوف أمام ما تعبر عنه، لكن دون أن ننزلق إلى التعميم الذي يضع الجيل بأكمله في سلة واحدة في ظل تفاوتات واختلافات طبيعية بين أبنائه، وكذلك دون أن نتورط في التسفيه أو التقليل حتى مما قد يكون لدينا ملاحظات حوله لأنه في النهاية تعبير عن نوع مختلف من الاهتمامات والأذواق والطرق والموضوعات التي يرون أنها أكثر تعبيرا عنهم.
لكن ومع ذلك، فإن مشاهد الطوابير أمام بوابات المعرض وداخل قاعاته التي يغلب على كثير منها الحضور الشبابي، وحرص كثيرين منهم على اقتناء كتب في مجالات مختلفة، وتواجدهم الواضح للاطلاع والشراء لكثير من الكتب المهمة في دور النشر الجادة والمعروفة بجودة إنتاجها، كل ذلك مما يقدم إشارات بالغة الإيجابية على وعي هذا الجيل وقدر اهتمامه وحرصه على التعامل مع الكتب باعتبارها وسيلة معرفة رئيسية لا تزال حاضرة.
تعدد وتنوع دور النشر، وإنتاجها بالغ التنوع في مجالاته وذائقة من يكتبون وطبعا من يقرأون، فضلا عن الاتساع الشديد في مساحة الأسماء الجديدة التي تدخل لعالم الكتابة بمختلف مجالاتها وبما فيها الأدبية، كلها تبدو ظواهر إيجابية، لكن في المقابل فإن هناك تراجعا واضحا لحضور (السياسة) بمفهومها الواسع في معرض الكتاب، سواء في المعروض والمنشور من الكتب في غالبية دور النشر، ولا يبدو ذلك محض مصادفة وإنما هو في جانب منه دون شك استجابة للأجواء العامة السائدة على مدار السنوات الماضية، أو في الفاعليات والندوات التي تعقد على هامش معرض الكتاب، أو الشخصيات التي تشارك فيها.
أيضا الظاهرة الأبرز، لا في معرض الكتاب وحده وإنما كجزء من ظاهرة الغلاء المتزايدة والمستمرة، هو الارتفاع الشديد في أسعار الكتب، وهو ما يؤثر بالتأكيد على حجم المبيعات وحجم قدرة من يذهبون للمعرض على اقتناء ما يحتاجون إليه، والقفزات في أسعار الكتب هذا العام تحديدا تبدو أكثر وضوحا وتأثيرا حتى لو لم تنعكس بشكل واضح على حجم الحضور والحرص عليه، وهو أمر يحتاج لحلول حقيقية وعاجلة، فهى ظاهرة إن استمرت بكل آثارها على الناشرين وقدرتهم الاقتصادية على استمرار نشر الكتب، وتراجع قدرة القراء على شراء الكتب، قد تحول الكتاب بعد وقت لن يطول إلى وضع مشابه للصحافة الورقية بأزماتها الحالية التي ترجع في جانب كبير –وليس وحيد– إلى أوضاعها الاقتصادية وقدرتها على تحقيق مكاسب تمكنها من مواصلة الصدور والانتشار، ومن هنا فهناك ضرورة لسياسات أكثر دعما لصناعة الكتاب لا باعتباره رفاهية، وإنما مدخل من مداخل بناء الوعى بمعناه الشامل.
بالإضافة لذلك فإن عودة مبادرات مماثلة وشبيهة وبشكل أكثر عصرية ومواكبة للتطورات الحالية، مثل مشروع القراءة للجميع ومكتبة الأسرة، الذى لا يزال قائما، لكن حجم إصداراته ونوعية عناوينه شهدت تراجعا واضحا، كما أن المؤسسات الرسمية والحكومية تحتاج لتطوير كبير في موضوعات إصدارتها وعناوينها وشكلها، ولا يكفي أبدا أن نعيد إنتاج نفس العناوين كل عام سواء من الكتب المهة التاريخية أو أمهات الكتب أو كبار الكتاب في مختلف المجالات، وإنما هناك ضرورة لإبداعات جديدة وعناوين جديدة واهتمام بمساحات جديدة من المجالات التي تجذب اهتمام القراء بالذات أجيالهم الجديدة، وهناك ضرورة لمبادرات تعاون وشراكات مع دور النشر المهمة والجادة سواء المصرية أو العربية، وهناك أهمية لطرح مشروعات ترجمة للإصدارات الجديدة في مختلف المجالات سياسيا واقتصاديا وثقافيا وأدبيا، وهناك احتياج للانفتاح على الأجيال الجديدة والأسماء الأكثر معاصرة من الكتاب والأدباء.\
بالتأكيد في هذا البلد كثير من الأفكار والمشروعات التي تصلح للتطبيق لدعم صناعة الكتاب، ولتطوير إصدارات وعناوين المؤسسات والجهات التابعة لوزارة الثقافة ومشروعاتها وكذلك إصدارات المؤسسات الرسمية والحكومية، كي يستمر الكتاب مصدرا رئيسيا ومهما بكل ما يمثله ويحمله ويرمز إليه ويقدمه بالفعل من معرفة ومعلومات ونقل خبرات وتراكم وعي.
تبقى ملاحظتان أخيرتان، الأولى فيما يتعلق بوجود عناوين ممنوعة أو إصدارات يتم التضييق على تداولها في معرض الكتاب، وهو أمر تجاوزه الزمن في ظل التطور التكنولوجي الهائل، الذي يجعل كل شيء متاحا وممكنا الوصول إليه، وبالتالي فإن هذه الطريقة لم تعد تحمل سوى جوانبها السلبية التي تشير لضيق الأفق ومحاولات المنع والمصادرة بكل ما تمثله من دلالات سلبية دون أن تحقق هدفها الحقيقي لأن الممنوع في المعرض يظل متاحا خارجه في مساحات مختلفة بل وتلك الممارسات تدفع للمزيد من الإقبال على ما هو ممنوع، والأمر هنا لا يتعلق فقط بوقائع بعينها تم الإعلان عن بعضها من أصحابها، وإنما أيضا بشكل عام فكرة (منع كتاب) مهما كان محتواه وأفكاره صار أمرا باليا من الماضى ولم يعد ممكنا.. أما الثانية فهى غياب بعض دور النشر المهمة وذات الإنتاج الجاد والمتنوع والمختلف، وكلا الظاهرتين بالإضافة لغياب عناوين وشخصيات أكثر ثراءً وتنوعا لمجرد كونهم مختلفين سواء في الكتب المعروضة أو الأنشطة والفاعليات.. أمور تحتاج إلى وقفة جادة ومراجعة حقيقية، لأن أحد أهم مصادر ومظاهر قيمة معرض الكتاب على مدار تاريخه هو حجم التنوع الذي كان دائما حاضرا فيه بكل ما يعبر عنه ذلك من التعدد والتنوع الثقافي والفكري مهما كان حجم التباين والتفاوت والخلاف في المنطلقات والأفكار والمواقف السياسية.