تجاوزت فترة الإعداد للحوار الوطني تسعة أشهر، وهي مدة بالتأكيد لن يستغرقها الحوار في جلساته ومناقشاته حتى صياغة التوصيات النهائية، ولكن بعيدا عن ما شهدته الشهور الماضية من جدال محتدم حول الخطوات الأولية التي من المهم أن تقدمها السلطة، وذلك بهدف إثبات جدية الدولة في رغبتها بالاستماع لأصوات مختلفة، ورغبة الرئيس في مراجعة أولويات العمل الوطني، وتفعيل الشعار الواسع الذي أعلنه بنفسه وهو “الوطن يتسع للجميع”.

ربما تسببت التراكمات المختلفة خلال السنوات العشر الماضية، بين النظام الحاكم والمجتمع المدني في عمومه، وهو ما نتج عنه ما يمكن اعتباره “أزمة ثقة”، في العلاقة بين الدولة والمعارضة، والتي ترجمتها خطوات النظام خلال السنوات الماضية من تضييق على المعارضة والتهوين من الدور الذي يلعبه المجتمع الوطني لخدمة الشعب المصري، كما عبر عن تلك الأزمة الحديث المتواصل سرا وعلنا حول جدوى المشاركة في الحوار، ونية السلطة للاستجابة لما سوف ينتج عنه من توصيات.

خلال الشهور الماضية كان ثمة تساؤل يدور في أذهان المتابعين، وهو “من المستفيد من الحوار الوطني؟”، في الأغلب ما تراه المعارضة في عمومها أن الدولة هي المستفيد الأبرز من دعوة الحوار، ويتم التدليل على ذلك بما تصرح به الدولة للمسؤولين الغربيين، من أن الحكومة تعمل على تنظيم حوار وطني، وهو ما يقابل باستحسان دولي حقيقي، على اعتبارها خطوة على الطريق الصحيح.

على الجانب الآخر، ترى الدولة أن المعارضة مستفيدة من الحوار، بعد أن أتاحت الدولة للحركة المدنية بعض المساحات للعمل السياسي، وتم الإفراج عن العشرات من المحسوبين على التيار المدني المعارض، بالإضافة إلى بعض اللقطات الإعلامية هنا وهناك، على الأقل باتت الدولة تستمع للمعارضة وإن لم تنفذ أغلب ما تطلبه.

وفي رأي عموم المصريين، فإن الدولة والمعارضة كلاهما مستفيد من الحوار، وأن الشعب المصري لن يجني أيا من ثمار الحوار المرتقب.

خلال الخطوات التي مرت من الإعداد للحوار يظهر أن الرأي الشعبي هو الأكثر صدقا، السلطة تتخذ خطواتها التنفيذية والتشريعية بعيدا عن الحوار، والمعارضة مستغرقة في نقاشات نخبوية حول ما يمكن أن تقدمه الدولة من خطوات استباقية ووعود.

أعتقد أن المعيار الرئيسي لنجاح الحوار هو شعور المواطنين بأن ثمة تغيير في واقعهم نتج عن تلك الدعوة، وهو ما يجب أن يبذل المتحاورون جهودهم لتحقيقه، بالرغم من أن الدعوة في قلبها بهدف الاصلاح السياسي، إلا أن الشعب المصري من المفترض أن يشعر بأن السياسة مهمة لتحسين حياته، وأن مطالب المعارضة في مجال عام مفتوح وأمن، سوف يستفيد منها الجميع، وليست بهدف الحصول على نصيب من السلطة.

محاولات تحميل المعارضة المشاركة في الحوار بالمسئولية عن نجاحه، هي محاولات غير مقبولة وتنافي المنطق، فإن الواقع يقول إن ممثلي المعارضة داخل الحوار ليس لهم دور سوى توافق رؤاهم في الملفات المختلفة، وصياغة توصيات تناسب ما يحملونه من أفكار ومبادئ، وقابلة للتطبيق الفعلي، وأن يكون الهدف من تلك التوصيات هو تحسين جودة الحياة لعموم المواطنين.

لن تذهب المعارضة إلى الحوار باعتباره مكلمة، أو بهدف التقاط الصور، أعين المشاركين يجب أن تكون موجهة الى الشعب المصري، الرؤى والمقترحات والأفكار من المفترض أن تكون بمثابة رؤية المعارضة لإصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تلك الرؤى بالتأكيد سوف يتم تقديمها إلى السلطة في صورة توصيات، ولكنها يجب أن توضع أمام الشعب المصري، وهو صاحب التقييم الأول والأخير.

من الطبيعي أن يقدم المجتمع المدني مطالبه وتوصياته الى السلطة، سواء كان ذلك عبر جلسات حوار منظمة، أو في صورة بيانات وأوراق، ولكن المجتمع المدني غير مسؤول عن استجابة السلطة لتلك التوصيات، وهو ما أتمنى أن يستمر بعد انتهاء جلسات الحوار، أنتظر من المجتمع المدني أن يستمر في إعلان مواقفه، وأن يضع السلطة أمام مسؤولياتها في تنفيذ التوصيات، ومراجعة طرق تنفيذها.

تعاني المعارضة المدنية منذ سنوات، دعاوى يطلقها أنصار الأنظمة الحاكمة من أن المعارضة لا تملك سوى الانتقادات، وأن المجتمع المدني عقيم عن تقديم رؤى إصلاحية قابلة للتطبيق، وسياسات بديلة لما تقوم به الدولة، وعدم قدرة المعارضة على التوافق حول تلك الرؤى والسياسات، إن وجدت.

أتصور أن الحوار فرصة ذهبية للمعارضة للتوافق حول رؤية عامة للإصلاح، أتمنى أن تكون مشاركات المجتمع المدني داخل الحوار وما سوف ينتج عنه من توصيات، بمثابة برنامج واضح يتفق عليه ممثلو المعارضة داخل الحوار، ويجمع حوله دوائر المتابعين والمهتمين بالشأن العام.

إذا ما نجح المشاركون في صياغة هكذا برنامج، ربما يكون الإنجاز الأهم لثورة يناير، التي أخذ عليها الجميع غياب الرؤية والمشروع.

لنجعل مشاركات المجتمع المدني في الحوار مسارا آمنا لتحقيق أهداف يناير، ولنجعل من المواطنين ظهيرا شعبيا لهذا المشروع.