في ظل انشغال الولايات المتحدة بقيادة العالم الغربي وحلف الناتو لمواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا، وفي ظل معركة الطاقة وسعي الغرب للاستغناء عن موارد الطاقة الروسية، وأيضًا في ظل العقوبات الغربية على روسيا وتوريد السلاح لأوكرانيا، كشفت الولايات المتحدة عن وجود منطاد صيني مخصص للتجسس يحلق على ارتفاع 60 ألف قدم في سماء ولاية مونتانا الأمريكية، وأعلنت أنه مر على الأراضي الكندية قبل دخول أجواء الولايات المتحدة.

وبصرف النظر عن قيام واشنطن بإسقاط المنطاد، فقد جاء الكشف عن هذه الحادثة “التاريخية” قبيل ثلاثة أو أربعة أيام من زيارة مقررة ومعلن عنها لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى الصين. وهي زيارة تسبق أيضا زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج إلى روسيا في الربيع المقبل.

ولا شك أن زيارة شي إلى موسكو كانت تحمل قلقا من نوع معين بالنسبة للولايات المتحدة لما تحمله من مؤشرات ورسائل في ظل الوضع العالمي من جهة، والتراشق بين بكين وواشنطن من جهة ثانية، والحرب الدائرة في أوكرانيا من جهة ثالثة، والظروف المتأزمة بين الصين وتايوان من جهة رابعة.

ويبدو أن الصين قد قررت الرد ليس فقط على زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي وما أثارته من أزمات حقيقية، بل وأيضا على “جبروت” الولايات المتحدة العسكري والتكنولوجي.

ملفات زيارة بلينكن المؤجلة إلى الصين

كان من المتوقع أن تتحرك زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى بكين، قبيل زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج إلى موسكو في الربيع المقبل، على ثلاثة محاور أساسية: الشراكة والتنافس دون الانزلاق إلى مواجهات، ووضع الصين أمام مسؤولياتها كقطب عالمي ثاني، وإرسال رسائل مباشرة أو غير مباشرة إلى روسيا.

كما أن هذه الزيارة كانت ستتم في وقت مهم من حيث توتر العلاقات بين الصين وتايوان، ومشهد الحرب الروسية- الأوكرانية التي تشرف على نهاية عامها الأول بعد ثلاثة أسابيع فقط. إضافة إلى ما يتردد عن إمكانية تدهور العلاقات بين الصين والولايات المتحدة.

وبالتالي، فقد كان من المتوقع أن يكون من بين أهدافها، الحفاظ على مستوى معين من العلاقات بين واشنطن وبكين وعدم إغلاق القنوات الدبلوماسية ومنع تدهور الاتصالات إلى حد يمنع تبادل الآراء والتنسيق. إضافة إلى تحذير بكين من الالتفاف حول العقوبات الغربية على روسيا، أو اتخاذ خطوات متهورة في اتجاه تايوان.

هناك أيضا هدف آخر مهم، ألا وهو نقل رسالة ضمنية أو مباشرة إلى موسكو حول موقف واشنطن والغرب عموما بشأن الوجود الروسي في أوكرانيا. والحديث هنا لا يدور حول مفاوضات بين روسيا والولايات المتحدة، بل عن موقف غربي جماعي صارم خلال العام الثاني من تلك الحرب، وتحذير موسكو من تحركات معينة في أوكرانيا أو حولها. وهذا يعني أن واشنطن تخفِّض درجة موسكو الدولية، وتمنح بكين مساحة أكبر كشريك وكوسيط في آن معا.

هذه الزيارة بحد ذاتها كانت تهدف فيما تهدف إلى وضع بكين في مكانة القطب الثاني، واستعادة فكرة (G2) التي تتمحور حول تعاون الصين والولايات المتحدة كدولتين كبيرتين في بحث القضايا العالمية الكبرى الشائكة. وهذه خطوة مهمة وخطيرة من حيث تهميش روسيا، ودفعها إلى مرتبة متأخرة من حيث الشراكات العالمية، ووضعها في مكانة الدول الثالثة والرابعة التي تتحول إلى ملفات للبحث بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين (G2).

هناك قضايا ثنائية مهمة، مثل العقوبات الغربية على الصين في مجال التقنيات الرفيعة والرقائق الإلكترونية، وسحب بعض التوكيلات وحقوق الملكية الفكرية من الصين، وربما التلويح بفرض عقوبات إضافية في مجالات مؤثرة في الصناعات الصينية. مثل هذه القضايا والملفات تهم الصين والولايات المتحدة كقوتين كبريين في الوقت الراهن بعد خروج روسيا، أو بالأحرى إخراجها، من الصفوف الأولى في “التفاهمات الدولية الكبرى”، خاصة وأن حجم التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة يتجاوز الـ 800 مليار دولار، ويميل لصالح الصين. بينما حجم التبادل التجاري بين الأخيرة والاتحاد الأوروبي يتراوح ما بين 750 و900 مليار دولار ويميل أيضا لصالح الصين. ما يعني أنها أوراق مؤثرة في حال قررت بكين أن تغامر بمفردها أو مع روسيا، أو تلتف على العقوبات الغربية المفروضة على موسكو.

زيارة شي جين بينج المرتقبة إلى روسيا

بزيارة الرئيس الصيني شي جين بينج المتوقعة لموسكو في الربيع المقبل ستكون الحرب الروسية- الأوكرانية قد دخلت عامها الثاني. وأجندة روسيا معروفة في هذا الصدد، إذ يقف على قمتها “فكرة العالم متعدد الأقطاب” والتلويح بورقة توريد الطاقة الرخيصة للصين، إضافة إلى التسخين السياسي والإعلامي لدق المزيد من الأسافين بين واشنطن وبكين باستخدام ورقة “تايوان” والأفكار الأخرى المتعلقة بتكوين تحالفات عسكرية وأمنية مناهضة لحلف الناتو، ردا على تشكيل مجموعة (كواد) المكونة من 4 دول هي الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان، ومجموعة “أوكوس” التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا.

ولكن الصين تنظر إلى كل ذلك باعتباره من طبائع الأمور، وأنه لا جديد مفيد لها. وهي تتعامل مع هذه البنود انطلاقا من مصالحها وليس من أجل مصالح روسيا.

سينتظر الرئيس الصيني أن تقدم روسيا المزيد من الأوراق المفيدة للصين، وبالذات في مجالي الطاقة والتقنيات الرفيعة والرقائق الإلكترونية. عدا ذلك لن يحمل الرئيس الصيني معه سوى التصريحات “الساخنة” بعض الشيء أو المرنة والفضفاضة، وكذلك بعض الأفكار حول أهمية المفاوضات لحل الأزمة الأوكرانية. وربما ينتقد الغرب وحلف الناتو لكي يشبع رغبة الكرملين ووسائل الإعلام الروسية والعالمية.

ومع ذلك فواشنطن والغرب عموما ينظران باهتمام إلى أي تحركات وتقاربات روسية صينية. وهذا أمر طبيعي، سواء شكَّل خطورة على مصالح الغرب الأمنية أو الاقتصادية أو لم يشكِّل. وفي العموم، فإن سياسيات الولايات المتحدة والصين هي سياسات براجماتية تماما لا مجال فيها لسياسيات “كيد النسا” أو “تصفية الحسابات قصيرة النظر”. أي أن واشنطن وبروكسل قد تعلنان قلقهما أو حذرهما أو امتعاضهما. لكن العبرة بالواقع وما سيتم طرحه ماديا ويكون قابلا للتحقيق، بعيدا عن البروباجندا السياسية والإعلامية. 

ووفقا للمؤشرات الواقعية، لا يوجد ولا يمكن أن يوجد أي “تحالف استراتيجي” بين الصين وروسيا. قد يكون هناك تعاون وثيق أو شراكة تكتيكية في ملفات بعينها، أو مشاركات في منظمات وهياكل اقتصادية مثل “منظمة شنغهاي للتعاون” ومجموعة “بريكس” أو إجراء مناورات عسكرية بحرية وبرية تكتيكية محدودة. ولكن لا يوجد أكثر من ذلك، لأن طريقي الصين وروسيا مختلفان، وينطويان على الكثير من التناقضات الجوهرية، سواء أمنيا أو اقتصاديا أو من حيث المسؤوليات والواجبات الدولية، وربما أيضا من حيث طريق التطور وأدواته.  

وهنا من الصعب تجاهل رغبة الصين في شغل المرتبة الثانية في العالم. وهي بالفعل تشغلها بقوة وجدارة في السنوات الخمس الأخيرة. وقد ساعدها الغرب في ذلك، سواء في فترة الحرب الباردة، أو عندما بدأت إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تظهر توجهاتها القومية في نهاية فترة حكمه الأولى (2000-2004)، ثم الهجوم على جورجيا في أغسطس 2008، وضم شبه جزير القرم الأوكرانية في عام 2014.

ونجحت الصين في استثمار هذه المكانة عبر مناوراتها الاقتصادية حصرا، وإظهار نفسها كشريك براجماتي موثوق في مجال التقنيات الرفيعة والحفاظ على حقوق الملكية والأصول العلمية. وبالتالي، ليس من مصلحة الصين الدخول في أي مواجهات مع الغرب، لا بسبب تايوان ولا بسبب روسيا. 

الأمر الآخر، هو أن الصين حالتها الاقتصادية صعبة للغاية، وخاصة مع بقاء فيروس “كورونا”، ومع الأوضاع الداخلية التي ليست في أفضل حالاتها رغم التعتيم الصيني. وأي خلل اقتصادي أو مالي إضافي في الصين، سوف يتسبب في مشاكل غير محمودة العواقب بالنسبة لدولة بها مليار ونصف المليار نسمة، بينهم شرائح وطبقات تحت خط الفقر بعشرات الملايين، وعند خط الفقر بمئات الملايين.

كما أن ميزان التبادل التجاري بين الصين من جهة، وبين كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى يميل لصالح الصين التي تصدر لهما أكثر مما تستورد. وبالتالي، فالصين سوف تتضرر كثيرا. غير أن الأهم هنا، هو أن أي صراع اقتصادي مع الغرب، سوف يبعدها عن خطط التنمية الاقتصادية والأهداف الاجتماعية والتعليم والزراعة، ويحصرها في عملية العسكرة. وهذا ما حدث مع الاتحاد السوفيتي “السابق.

قد يكون هناك بعض التنسيق بين موسكو وبكين على مستوى التصريحات لا أكثر. لكن لن تتجاوب الأخيرة مع أي دعوات روسية، لأن الصين في كل الأحوال تمثل قطبا قويا وتشغل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، ومصالحها مع الغرب تمثل مصالحها مع روسيا عشرات المرات. وفي الحقيقة، فمن مصلحة الصين أن تبقى روسيا موجودة وقوية، ولكن ليس بذلك المستوى الذي يؤثر على مكانة الصين الإقليمية والدولية. وهي بالفعل حريصة على عدم هزيمة روسيا، وحريصة أيضا على عدم انتصارها بشكل كامل، سواء في أوكرانيا أو في المواجهات الأخرى مع الغرب.

المنطاد الصيني وإسقاطات المصير التراجيدي للاتحاد السوفيتي

مع تفاعل أنباء وتداعيات ظهور المنطاد الصيني في سماء الولايات المتحدة ورصدها له ومتابعتها إياه، بل وأيضا إسقاطها له، هل يمكن أن يطرح السؤال نفسه بعفوية وميكانيكية رغم اختلاف التفاصيل والظروف وموازين القوى والإمكانيات: ما هو وضع الولايات المتحدة العسكري والتقني في الوقت الراهن أمام تجربة عملية على أرض الواقع، وهل يمكن أن تتكرر مأساة انهيار الاتحاد السوفيتي في شكل ملهاة مع الولايات المتحدة، رغم الجبروت العسكري والعلمي- التقني للأخيرة؟!

لقد أعلنت الصين اعتذارها العلني على هذا “الخطأ”. وأكدت أنه منطاد مدني يعني بجمع مواد عن الطقس والمناخ والأحوال الجوية. بينما رأت وزارة الدفاع الأمريكية ومجلس النواب والاستخبارات أنه منطاد تجسس لجمع المعلومات، خاصة وأن مسار تحليقه كان فوق أهداف عسكرية وحيوية سرية وعلنية، سواء في الولايات المتحدة أو في كندا الحليفة الموثوقة لواشنطن.

ومن جهة أخرى، أعلن بلينكن أنه ألغى بالفعل زيارته إلى الصين، وأكد على أن المنطاد الصيني هو منطاد للتجسس، وأن وجوده انتهاك لسيادة الولايات المتحدة. لكنه في الوقت نفسه، دعا للإبقاء على خطوط وقنوات التواصل مع بكين مفتوحة. وظلت الأمور على هذا المنوال إلى أن قام سلاح الجو الأمريكي بإسقاط المنطاد. وفي الحقيقة، فإسقاط المنطاد أو عدم إسقاطه، ليس هو بيت القصيد، وإنما الأهم هو كيف سيتم تعامل الولايات المتحدة مع الصين التي قامت عمليا بتكرار الحادثة التاريخية “التراجيدية” للاتحاد السوفيتي، خاصة وأن واشنطن أعلنت أنها عثرت على منطاد صيني ثاني يحلق فوق أمريكا اللاتينية؟!

تراجيديا الاتحاد السوفيتي والطائرة الألمانية في الميدان الأحمر

كان الصبي الألماني ماتياس روست (Mathias Rust)‏ في الأيام الأولى من عامه التاسع عشر (ولد في 1 يونيو 1968) عندما هبط بطائرته التدريبية في الميدان الأحمر يوم 28 مايو عام 1987 في الميدان الأحمر، أمام الكرملين مباشرة، حيث مركز القرار السوفيتي. كانت الحادثة مروعة واحتلت الصفحات الأولى في وسائل الإعلام العالمية، والخبر الأول في نشرات الأخبار في التلفزيونات. فقد اخترق كل الدفاعات والرادارات ووسائل الرصد للقوة الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة. وبعد عام أو عامين تم إعلان هزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وانسحاب قواته، وهدم سور برلين لتعود ألمانيا موحدة بعد تقسيمها لمدة 43 عاما. وبعد 4 سنوات تم تفكيك الاتحاد السوفيتي وإنهاء وجوده من خارطة العالم.

لم تكن حادثة الصبي الألماني طعنة غائرة لكبرياء الاتحاد السوفيتي، نظرا لأنه كان في نزعه الأخير، وبكاد يشارف على الغرق. ولكن طعنة المنطاد الصيني تأتي واضحة ومكشوفة لكبرياء وجبروت الولايات المتحدة وهي في أوج قوتها ونفوذها وهيمنتها العسكرية والاقتصادية والعلمية- التقنية.

فهل هي فعلا مجرد “مصادفة” تراجيدية على نسق التراجيديات اليونانية المؤلمة؟! هل هي حادثة عفوية تعيدنا إلى تفاصيل وتداعيات حادثة الصبي الألماني الذي اخترق دفاعات الاتحاد السوفيتي؟! هل انحرف المنطاد بفعل الرياح، أم تدخلت أطراف ثالثة لديها التكنولوجيا اللازمة لحرفه عن مساره نحو الأراضي الأمريكية؟! هل يمكن أن تكون قد حدثت تدخلات أخرى من أطراف أخرى لدق المزيد من الأسافين بين الصين والولايات المتحدة؟! هل يمكن أن يكون كل ذلك مجرد حادث عفوي سينتهي باعتذارات رسمية وإيضاحات مقنعة لكي لا تفتح واشنطن على نفسها جبهات إضافية مضادة، أو تمنح الفرصة الكاملة لبكين من أجل التقارب “الاستراتيجي” مع موسكو؟! إن روسيا تنتظر هذه اللحظة التاريخية، والعالم كله الآن في انتظار رد الفعل الأمريكي. والمقصود برد الفعل الأمريكي ليس بطبيعة الحال إسقاط المنطاد، وإنما رد الفعل بعد أن ألقت بكين ببالون أو “بمنطاد” الاختبار للوقوف على صلابة و”كبرياء” القوة الأكبر في العالم.