في مقابلة له مع برنامج “صباح الخير بريطانيا” في 6 يناير 2023، أعرب “جون بولتون” السفير الأمريكي الأسبق لدى الأمم المتحدة بإدارة “جورج بوش” الأب ومستشار الأمن القومي الأسبق بإدارة “دونالد ترامب” عن رغبته المشروطة في خوض انتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة حيث قال نصًا: “سأترشح في المقام الأول لأننا بحاجة إلى سياسة خارجية أكثر قوة”، ثم أضاف: “لن أخوض الانتخابات كمرشح مُتعالٍ. إن لم أعتقد في إمكانية خَوضِ السابق بجدية، فلن أترشح”. لم تُقَابل تلك التصريحات حينذاك سوى بالامتعاض بريطانيًا حيث جاءت في معرض دفاعه عن رئيسة الوزراء البريطانية “ليز تروس” التي أُطيح بها بعد أربع وأربعين يومًا فقط بسبب سياساتها الاقتصادية التي لم تكن تحظى بشعبية كبيرة، وأمريكيًا لأن الرجل قد قام بالإعلان عن نيته في الترشح من خلال وسيلة إعلام غير أمريكية.
منذ بضعة أيام، ظهر “بولتون” على شاشة شبكة “سي بي إس” الأمريكية ليقول إنه يفكر في الترشح لانتخابات 2024 بسبب ما قاله “ترامب” في العام الماضي عن رغبته في إسقاط أجزاء من الدستور. وهي ليست رغبة عابرة وليدة للحظةِ انفعالٍ مؤقتة. لكنها عن قناعة دائمة أكدتها ممارساته التى تجلت في دعمه وتشجيعه للمشاغبين في أحداث اقتحام الكابيتول في 6 يناير 2021 التى كانت بحقٍ مثيرة للشفقة.
عن رأيه في حملة “ترامب” التي انطلقت في نوفمبر الماضي، قال “بولتون” أن الحملة ستستمر في التراجع والتدهور ليضيف: “أعتقد أن الجمهوريين خصوصًا بعد نتائج انتخابات التجديد النصفي الماضية يعتبرون أن ترامب بمثابة السُم للسباق الانتخابي، وأنه لا يمكن انتخابه رئيسًا -إن كان هو مرشح الحزب الجمهوري- حيث سيقضي تمامًا على فرص الجمهوريين في الحصول على أي أغلبية بمجلسي الشيوخ والنواب، لا أعتقد أنه سيكون المرشح الجمهوري”. في ختام مقابلته مع الشبكة الأمريكية وبعدما حاصره كبير مراسليها المسئول عن تغطية الانتخابات بمزيد من الأسئلة غير المباشرة عن نيته للترشح كان هو يراوغ في إجابتها، ألقى عليه الرجل سؤالًا مباشِرًا وإن كان مُركَبًا نوعًا ما: “على الرغم من أنك لم تحدد موقفك بعد، هل مازلت مستمرًا في النظر بجدية في أمر الترشح؟”، ليتلقى ردًا حاسمًا من “بولتون” هذه المرة: “هذا صحيح تمامًا” That is exactly right.
كان “بولتون” قد أُقصى من منصبه كمستشار للأمن القومي أثناء حُكم “ترامب” في مشهد درامي مُهين يتفق مع طريقة أداء الأخير وأسلوب إدارته حيث أعلن لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية الاستغناء عن مستشاره للأمن القومي من خلال “تويتر” وقت أن غَرَد في 9 سبتمبر 2019 قائلًا: “لقد أبلغت جون بولتون ليلة أمس أن البيت الأبيض لم يَعُد بحاجة لخدماته.
رفضت العديد من مقترحاته بشدة كما فعل الكثيرون في الإدارة، ولأجل هذا طلبت منه تقديم استقالته وقد تسلمتها هذا الصباح”، فما كان من “بولتون” إلا أن أصدر كتابًا بعنوان “الغرفة التي شهدت الأحداث” قال فيه بحق “ترامب” أكثر مما قاله مالكٌ في الخمر بأسلوب شديد العدوانية مُتَهِمًا إياه بالفشل في فهم خطورة وأهمية قرارات الأمن القومي التي كان يجب عليه الاضطلاع بها كقائد أعلى للقوات المسلحة، ما دعى “ترامب” إلى وصف مستشاره السابق بأنه غبيٌ ومُمِل ومهووسٌ بالحروب.
أقامت وزارة العدل الأمريكية حينها دعوى ضد “بولتون” لوقف نشر الكتاب بزعم أنه قد كشف فيه عن معلوماتٍ سرية، إلا أنها قامت لاحقًا بإسقاط الدعوى ليصدر الكتاب في عام 2020.
نعود لمقابلة شبكة “سي بي إس” حيث هاجم “بولتون” الجميع في لهجةٍ شديدة الحِدة لكنها بالغة الرصانة استخدم فيها تكنيكًا انقسم إلى مسارين، خَصص أحدهما لنقد الإدارة الديمقراطية الحالية مُتَهِمًا إياها بالفشل في التعاطي مع بعض الملفات الساخنة بسبب الافتقار إلى استراتيجية واضحة مما نتج عنه ترددًا في استخدام القوة المسلحة ببعض تلك الملفات كالملف الأوكراني، وضعفًا في حسم ملفاتٍ أخرى كالملف الإيراني الذي عبر الرجل بصراحة عن موقفه منه بضرورة دعم الشعب الإيراني في الخلاص من النظام السياسي القائم هناك وكالملف الصيني الذي قال بشأنه إن على أمريكا أن تمنع الصين من الاعتداء على جيرانها بكل الأساليب الممكنة.
أما المسار الثاني، فقد خصصه للهجوم على “مايك بومبيو” وزير الخارجية السابق وهو واحد من أهم المرشحين المُحتملين لخوض انتخابات 2024 ضمن مجموعة من الجمهوريين أعربوا عن رغبتهم في الترشح أتى على رأسهم “مايك” الآخر (“مايك بنس” نائب “ترامب”)، إلا أنه من الواضح أن “بولتون” قد بنى حساباته على أن “بومبيو” هو أكثرهم حظًا لنيل ثقة الحزب فهاجمه بقوله: “إنه ذكي بالقدر الكافي لشغل منصب الرئيس، لكن لدىَّ شعور بالقلق الشديد أن طموحه يسبق مبادئه. أظن أن الطريقة التى كان يتعامل بها، ليس معي فقط ولكن مع زملاء سابقين في الحكومة، تجعل منه غير لائق unfit ليكون رئيسًا”.
وأعتقد “بولتون” كان يسعى من وراء ذلك إلى قطع الطريق مُقَدَمًا على “بومبيو” لأجل أن يستبعده الحزب من السباق فيُخلي بذلك الطريق لنفسه كي ينفرد بخصمه اللدود “ترامب” ثم يقصيه بضربة قاضية أسهل نسبيًا بإعتبار أنه هو (“بولتون”) الصقر العنيد الوحيد بالحزب الجمهوري الذي يمتلك مقومات الإدارة الحازمة بكافة الملفات لكنه في ذات الوقت وعلى خلاف “ترامب”، يحترم الدستور والقانون ويقدس التقاليد الديمقراطية الأمريكية العريقة.
تمر الأيام سريعا، وسَتَحِل قريبًا السنة الأخيرة من حكم الرئيس “بايدن” والمعروفة في الأدبيات السياسية الأمريكية بفترة “البطة العرجاء” Lame Duck التي عادةً ما يُحجِم فيها أي رئيس أمريكي عن الارتباط بأعمال استثنائية -قد تكسبه زَخَمًا مُحتملًا- تلافيًا لانزلاقاتٍ غير منظورة تثير شهية المنافسين في الهجوم الذي يمتد دومًا لما تحت الحزام.
وسيتفرغ الجميع لإتمام الترتيبات وعقد الصفقات، فهل سيؤتي تكنيك “بولتون” ثماره ليصبح الصقر الأمريكي الرصين داعية الحروب وعراب مبدأ إسقاط الأنظمة بالقوة هو مرشح الحزب الجمهوري لخوض السباق الانتخابي في نوفمبر من العام القادم أمام مرشح الحزب الديمقراطي الذي في أغلب الظن لن يكون “بايدن”؟ هذا ما سنعرفه في الأشهر القليلة القادمة.