فيما تنشغل مصر بتداعيات الأزمة الاقتصادية، فوجئت بإعلان التفاهم السوداني/الإسرائيلي على استئناف مفاوضات التطبيع، لتنضم الخرطوم إلى اتفاقات إبراهام إلى جانب كل من الإمارات والبحرين والمغرب، ليواصل قطار التطبيع العربي مع الكيان المحتل للأراض الفلسطينية، بلوغ محطة جديدة.

وشهدت الخرطوم لقاءً جمع رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق عبد الفتاح البرهان بوزير خارجية دولة الاحتلال إيلي كوهين، وتم الاتفاق على الخطوط العريضة لاتفاق التطبيع المنتظر التوقيع عليه رسميا بعد عدة أشهر في واشنطن.

اقرأ أيضا.. مصر والسودان إلى أين؟

التطبيع مع السودان بالنسبة لإسرائيل بمثابة خطوة تاريخية واختراق كبير للمنظومة العربية، خاصة أنها الدولة التي احتضنت قمة اللاءات الثلاث بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، وهي نفسها التي احتضنت منظمة التحرير الفلسطينية، وبعدها حركة حماس، وسمحت بأن تكون أراضيها ممرًّا للسلاح الذي يصل لفصائل المقاومة عبر ميناء بور سودان على البحر الأحمر.

زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي المعلنة إلى الخرطوم لاستئناف التطبيع مع السودان، تزامنت مع إعلان تشاد فتح سفارتها في تل أبيب، وهو ما يثير المخاوف بالنسبة للقاهرة نظرا لما يمثله السودان من عمق جيو استراتيجي وأمني لمصر من جهة، ومن جهة أخرى لما تثيره الشراكة الأمنية الإسرائيلية مع بعض دول القرن الإفريقي، من قلق بشأن طبيعتها وما إذا كانت تمهد من خلالها إثيوبيا لتشكيل جبهة مناوئة لمصر في ملف المياه.

السودان ومصر.. تشابك مصالح

الرئيس السيسي ورئيس مجلس السيادة السوداني
الرئيس السيسي ورئيس مجلس السيادة السوداني

تعد السودان بمثابة العمق لمصر والجبهة الجنوبية التي تسعى القاهرة دائما إلى تأمينها حيث تتشاركان في حدود بطول 1273كم، وهو ما يجعل السودان تقع في نطاق الأمن القومي المباشر لمصر في ظل الموقع الجغرافي المشترك ووحدة المصير، ومن ثم فإن أمن السودان واستقراره يمثلان جزءا من الأمن القومي المصري.

وتتشابك العلاقات بين البلدين في عدد من الملفات المشتركة التي تتطلب تنسيقا دائما بينهما، وفي مقدمة تلك الملفات، ملف مياه النيل وأزمة سد النهضة، وهو ما يجعل التنسيق مع السودان له أهمية كبيرة بالنسبة للأمن المائي المصري.

كما أن هناك ملفات أخرى للتعاون بين القاهرة والخرطوم أهمها ملف الأمن والاستقرار في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، ثم ملف التنسيق بشأن القضايا الإفريقية سواء من خلال الاتحاد الإفريقي والمنظمات القارية والإقليمية الأخرى أو من خلال التعامل مع بعض القضايا المؤثرة مثل مكافحة الإرهاب.

التطبيع الإسرائيلي/السوداني.. تحديات وتهديدات

من شأن تطور العلاقة السودانية الإسرائيلية أن يخصم من رصيد مصر ونفوذها، ويضعف دورها في السودان، كما أنه يمثل تهديدا مباشرا لمصالح مصر، حيث إن من شأنه أن يمثل ضغطا على الأمن القومي المصري سواء على المدى القصير أو البعيد، خاصة حال اكتماله والانتقال إلى مستوى التطبيع الكلي.

الأمن المائي في مرمى الخطر

سد النهضة
سد النهضة

أبرز التهديدات التي يمثلها التطبيع بين السودان وإسرائيل لمصر، يتمثل في ملف الأمن المائي، خاصة في ظل تباين الآراء في الداخل السوداني بشأن النظرة إلى سد النهضة الذي تشيده إثيوبيا على النيل الأزرق، ورؤية بعض الأطراف السودانية لمنافع مرتبطة بالسد للسودان، حيث يروّج البعض إلى أن السد سيمكن سدود السودان من توليد المزيد من الكهرباء بالإضافة إلى شراء كهرباء رخيصة ونظيفة من إثيوبيا.

وبالتالي فإن تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسودان قد يجعل تل أبيب تفكر في التأثير على موقف الخرطوم الحالي المتضامن مع مصر إزاء قضية سد النهضة عن طريق استغلال التباين في وجهات النظر السودانية حول ملف السد واستغلال الوضع غير المستقر سياسياً واقتصادياً في السودان لتهديد أمن مصر المائي والتأثير في توجهات السودان، في الوقت الذي تحاول فيه تل أبيب أن تستثمر في الأزمة، وتطرح نفسها طرفا رابعا بجوار مصر والسودان وإثيوبيا، لعلها تحصل مستقبلاً على حصة من مياه النيل.

ولا تقتصر التهديدات الإسرائيلية بشأن ملف أزمة سد النهضة على الجوانب المباشرة فقط، خصوصا أن الشركات الإسرائيلية تجد آفاقا اقتصادية في السودان حيث ترى أن السد يوفر الفرصة لمشاريع تنموية كبرى هناك، إذ سيحسن من تنظيم المياه في نهر النيل ويوفر الكهرباء للدول المجاورة، ما يوسع القدرات الزراعية والصناعية في السودان، وهو ما قد تجد فيه شركات التكنولوجيا والمياه والزراعة الإسرائيلية فرصا استثمارية جذابة، ما يمكنها من السيطرة على اقتصاد البلد المجاور لمصر.

ففي العام 2018 انتهت دراسة أعدها معهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب، إلى أن التعنت الإثيوبي قد يمثل فرصة كبيرة لإسرائيل لإيصال المياه لها عبر مصر من خلال إجبار دولتي المصب.

حصار البحر الأحمر

في إطار مساعيها لمنع تحول البحر الأحمر، إلى بحيرة عربية عمدت إسرائيل عبر وسائل متعددة على تحجيم النشاط العربي في إفريقيا من خلال تطويق الدول العربية بحزام موال لها وتعميق الخلافات بين الدول العربية والإفريقية، والسيطرة على البحر الأحمر كون تواجدها فيه يؤمن لها الوصول للعالم الخارجي بسلاسة.

وما يجعل تطبيع السودان الدولة الجارة لمصر، مع إسرائيل يمثل تهديدا مباشرا، كون البحر الأحمر يمثل نقطة رئيسية في الأمن القومي المصري نظرا لأنه المجال الملاحي المهم لمصر من خلال قناة السويس والسيطرة عليه، تمثل نقطة ضغط كبيرة على القاهرة التي تعول كثيرا ضمن مواردها على القناة، وانتظام حركة التجارة العالمية فيها.

علاوة على ذلك شكّل الموقع الجيو سياسي للبحر الأحمر ومضيق باب المندب أهمية كبرى، ما يجعل إسرائيل حريصة على الحصول على منفذ بحري على هذا البحر الذي يربط قارة إفريقيا بآسيا، كما ظلت سياسة إسرائيل في القرن الإفريقي امتدادًا لسياستها في البحر الأحمر رامية إلى منافسة الأهداف الاستراتيجية العربية، وإنشاء عمق استراتيجي لها في هذه المنطقة للحفاظ على أمنها وضمان تحقيق مصالحها وتطلعاتها للهيمنة وتوسيع الوجود العسكري وترسيخه، بما يتيح لها إمكانية تحجيم خصومها في مضيق باب المندب، وتأمين خطوطها البحرية. كما يفتح التطبيع السوداني الإسرائيلي الباب أمام تل أبيب إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع السودان، وزيادة التبادل التجاري معها ومنافسة المنتجات والاستثمارات المصرية في القارة بشكل عام وفي السودان بشكل خاص.

أبعاد أمنية

الاتفاق الإبراهيمي
الاتفاق الإبراهيمي

المخاوف الكبرى بشأن خطوة التطبيع الإسرائيلي السوداني، تتمثل في كونها قد تكون بداية لعلاقات عسكرية واستخباراتية متبادلة بين الجانبين، كما حدث مع مملكة البحرين التي بات الإسرائيليون متنفذين داخل منظومتها العسكرية في أعقاب التوقيع على اتفاق إبراهيم.

إسرائيل طوال السنوات الماضية تسعى إلى التغلغل الاستخباري والعسكري والأمني في دول القارة الإفريقية، في محاولة لكسب مساحات نفوذ واسعة، تستعيض بها عن العلاقات العربية التي ظلت متوترة لفترة طويلة.

واتخذ التغلغل الإسرائيلي في دول القارة الإفريقية أشكالا متعددة، حيث تشرف على تدريب فرق النخبة والحرس الرئاسي في 12 دولة إفريقية هي إثيويبا، رواندا، وكينيا، وتنزانيا، وملاوي، وزامبيا، وجنوب إفريقيا، وأنجولا، الكاميرون، نيجيريا، ساحل العاج، غانا، وتوجو، وهو ما يعني أن إسرائيل لن تفوت فرصة كتلك للبحث عن موطئ قدم لها في السودان وهو ما يحمل معه رائحة الخطر على الأمن القومي المصري نظرا للموقع الجغرافي المشترك مع السودان. كما أن تاريخ إسرائيل في اللعب على ملفات النزاعات الداخلية في القارة الإفريقية، يمثل مكمن خطورة آخر.

فجهاز الموساد الإسرائيلي والذي يتولى العمليات الخارجية، أصدر كتابا يفتخر فيه بما أسماه الانتصار الإسرائيلي في انفصال جنوب السودان وتضمن الكتاب ملامح وأبعاد الدور الإسرائيلي وأبرز الأدوات التي استخدمتها إسرائيل في انفصال جنوب السودان.

وهو ما يدق ناقوس الخطر بشأن ملف النزاع الحدودي بين مصر والسودان المرتبط بحلايب، والذي ربما تجد فيه تل أبيب فرصة مناسبة لامتلاك ورقة ضغط إضافية على القاهرة، حال استقرت لها الأوضاع في العلاقة مع الخرطوم.

في الخلاصة يجب الإشارة إلى أن على القاهرة أن تستعد لحصار التداعيات المحتملة لتطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل، عبر آليات متعددة من بينها العمل على إعادة صياغة الدور المصري في السودان، وتصحيح صورة القاهرة من الشوائب التاريخية التي علقت بها، ولاتزال تخيم على علاقة القاهرة ببعض الأطراف الداخلية في السودان.