لم أتمكن –للمرة الأولى- من كتابة مقالي السنوي عن ذكرى ثورة يناير، ذلك الحلم الذي لاح في سماء هذا الوطن مشرقًا وواعدًا، وعليّ دائمًا أن أكتب لأُذكِّر الأجيال التالية بهذا الحلم ليبقى في النفوس غضًّا نديًّا.. لقد انشغلت بمرض زوجتي المفاجئ، مما اضطرنا إلى طرق أبواب مستشفيات التأمين الصحي لمعرفة طبيعة المرض الذي ألمّ بها، والاستفادة أيضًا من خدمة التأمين التي تشترك فيها منذ عقد ونصف.
اقرأ أيضا.. قيامة القُــرَّاء
على باب مستشفى كوتشنر
في حي شبرا “العتيق” تقبع مستشفى “كوتشنر”، ذلك المستشفى الصغير الذي تصورنا أنه كافٍ مبدئيًّا لمعالجة ما نشكو منه، كما أنه مستشفى الحيّ الذي تعمل فيه زوجتي.. ولأننا نعلم أن الأمور لا تتم بدون اتصال مسبق بأحد المسؤولين، فقد استبقنا دخولنا بالاتصال بأحد الأصدقاء في الحيّ الذي اتصل بدوره بمدير المستشفى، فدخلنا إلى مكتبه مباشرة، وأحسن استقبالنا، وأرسل معنا أحد الأطباء لعمل اللازم..!
قضينا في مستشفى “كوتشنر” أربعة أيام متصلة، تحاليل متتابعة، وأدوية مختلفة، ولكن الحالة لا تتحسن، والأطباء قليلو الكلام، ولا يمكنك أن تعرف لماذا يضن الأطباء بالكلام مع المرضى في المستشفيات؟ رغم أنهم يسهبون بأكثر مما ينبغي في الشرح والتوضيح إذا طرقت أبواب عياداتهم الخاصة؟!
لم نعرف مثلا لماذا ينخفض الـ”ألبومين” HUMAN ALBUMIN بنسبة كبيرة رغم ضخ أكثر من أربع عبوات في الوريد، وهو ما ترتب عليه ارتشاح الماء في القدمين.. تحاليل متصلة، وأجوبة شحيحة ضنينة، وبسؤال الأصدقاء من الأطباء خارج المستشفى تأكّد لنا أن هناك مشكلة ما، وأننا لا نتلقى العلاج بطريقة صحيحة، وفيما يبدو أن المستشفى –ذات القدرات المحدودة- لا تعرف، فنصحنا أحد الأطباء بها بالانتقال إلى مستشفى أكبر.
أنهت مستشفى كوتشنر إقامة زوجتي، ورغم أن الأطباء أوصوا بضرورة الانتقال إلى مستشفى أكبر، إلا أن “كوتشنر” لم توفر لها سيارة إسعاف لأجل ذلك.. كما أنها لم تعطها تقريرًا علميًّا مفصلا عن حالتها تخاطب به الجهة التي سوف تنتقل إليها، وتوفّر عليهم البدء من الدرجة صفر..!!
كل هذه البدهيات لا وجود لها، وعلى المريض أن يقوم بذلك بنفسه..!!
على باب مستشفى الحسين..!
كان عليّ إذن أن أترك عملي، وأذهب سريعا إلى “كوتشنر” لأنقل زوجتي إلى مستشفى آخر، وفي الطريق لم أتوقف عن الاتصال بالأصدقاء، فنصحني أحدهم بالتوجه إلى مستشفى الحسين الجامعي، ليس لأنها معهدا تعليميا مهما، وإنما لأن لديه أصدقاء بداخلها يمكنهم أن يسهلوا لنا أمر الدخول، وصلنا باب المستشفى، دخلنا قسم الطوارئ مباشرة يوم الثلاثاء 24 يناير، وما أدراك ما قسم الطوارئ..! زحام وصراخ من كل جانب.. مواطنون يتولون بأنفسهم نقل مرضاهم على نقالات متآكلة تئِزُّ عجلاتها المتآكلة فتمنح الصراخ في المكان طبقة غريبة من الأنين الجاف الذي يختلط بأنين المرضى وصراخ ذويهم.. ولا تعرف أين سيارات الإسعاف؟ ولا تعرف أين المسعفون؟
دخلنا حجرة طوارئ الباطنة بعد أن وضعتُ في يد أحد العمال عشرين جنيهًا ليأتيني بكرسي متحرك يمكن الجلوس عليه والتنقل به.. وبعدها طلبت مني إحدى العاملات أن أحضر استمارة دخول، فذهبت إلى شباك صغير خانق، خلفه موظف متجهم يدخن بشراهة.. أعطيته بطاقة الرقم القومي، أخذها في صمت، ثم سجل البيانات، وأعطاني استمارة الدخول.. سألته: بكم؟ رد قائلًا: هذه استمارة مجانية…!!
وقعت الكلمة على قلبي كالماء البارد..!! استمارة مجانية..!! هل يوجد شيء مجانيّ في هذا البلد ؟!!
قوس صغير
( قبل يومين كنت أجدد بطاقة الرقم القومي الخاصة بي، ورأت موظفة الاستعلامات أن اسم جدي لأمي في “قسيمة زواجي” لا يطابق الاسم المكتوب في استمارة تجديد البطاقة، فطلبت مني إحضار استمارة (41) من الشباك المجاور لها لتصحيح الاسم، وقفت على الشباك في طابور طويل وفي مكان خانق، وحين وصلت إلى الموظفة طلبت مني أربعين جنيهًا كاملة، لتمنحني ورقة صفراء كالحة، لا يوجد بها أي جهد بشري أو تقني يجلعها تساوي جنيهًا واحدًا.. فأدركت أن هذه من أمور الجباية ليس أكثر..!)
نعود إلى طوارئ مستشفى الحسين، وقفت أمام الباب، وزوجتي بالداخل، يدخل شباب الأطباء بوجوه شاحبة ونفوس يائسة إلى الغرفة ويخرجون، لا يتكلمون ولا يبدو أنهم مهتمون بما يجري حولهم من الصراخ والعويل..!
شعرت بحاجتي إلى دورة المياه، سألت عنها أحد العمال، أشار قائلًا: إنها أمامك..! كان بابها في مواجهة غرفة الطوارئ مباشرة، حين دخلتها علمت من أين تأتي رائحة القذارة التي تملأ المكان، لا أعرف كيف وضعوا دورة المياه في مواجهة غرف الطوارئ المختلفة، ولا أعرف كيف تترك هكذا دون نظافة ودون صيانة لمواسير المياه المتآكلة بها..؟!!
بعد ثلاث ساعات كاملة، أخبرنا الأطباء المرهقون بأن حالتنا تحتاج إلى حجز ضروري، ولكن ذلك لن يحدث اليوم؛ فالأسرَّة (جمع سرير) كلها مشغولة، ويمكننا أن نأتي غدًا أو بعد غد.. غادرنا المكان حوالي الساعة الثامنة ليلًا، وفي نيتنا التوجه صباح الغد إلى مستشفى آخر..!
لم تتوقف الاتصالات بيني وبين الأصدقاء الأطباء الذين لهم حظوة بالمستشفى، ومنهم علمت أن الأسرّة قد تكون مشغولة كلها على السيستم (هذه الكلمة سيئة السمعة في مصر) ولكنها ليست كذلك في الواقع؛ فالأطباء (النوّاب) بالمستشفى يبقون بعض الأسرّة شاغرة في الواقع، ليس لأنهم يحبون ذلك، ولكن لأنهم قد يتلقون أوامر -من أساتذتهم في أي وقت– بحجز أحد مرضاهم في العيادات الخاصة، وعلى النائب المسكين أن يوفِّر ذلك لأستاذه ومريض أستاذه..!
الأربعاء 25 يناير..!
ظهر يوم الأربعاء 25 يناير (المبارك) اتصل بي أحد نوّاب قسم الباطنة بمستشفى الحسين، وأخبرني أنه وفّر لنا سريرًا وعلينا الحضور إلى المستشفى سريعًا، وبعد ساعة ونصف كنت بقسم الطوارئ مرة أخرى، قابلني طبيب شاحب الوجه، في مقتبل عمره الوظيفي، ذلل لنا إجراءات الدخول التي أخذت حوالي ساعة كاملة.. تعثّر خلالها الطبيب اليافع مع بعض الموظفين المخضرمين بسبب الانشغال الوهميّ (للسيستم)، أخرجت من جيبي خمسين جنيهًا، وضعتها في يد الموظف (هي اليوم تساوي نصف كرتونة بيض فقط) وبعدها تيسرت الأمور، وتمكنا من الصعود إلى حجرات المرضى بقسم الباطنة..!
النهاردة أجازة ..!!
سألت الطبيب المقيم بعد أن أخذ بيانات طبية تفصيلية عن حالة زوجتي، وبعد أن شرحنا له تطور الحالة، وما تناولته من أدوية بمستشفى “كوتشنر” والتاريخ المرضي.. سألته: ماذا سوف تفعلون غدًا..؟! أجاب ببساطة: لا شيء، غدًا الخميس أجازة، وبعد غد الجمعة، وهو أجازة أيضًا..!
عُدتُ إلى منزلي منهكًا، لم أتمكن من الكتابة عن الثورة، فتحت حسابي على “فيس بوك” وجدت تدوينة للدكتور عمار علي حسن تتحدث عن الصورة الشهيرة (للورد اللي فتح في جناين مصر) كان الملصق على الجدار أمام باب شقته، تذكرت أنه كان موجودًا أيضًا على باب شقتي، ولكنه تآكل مع الزمن، تمامًا كما تآكل حلم الثورة المغدورة، فكرتُ في ضرورة وضع صورة جديدة لهؤلاء الذين آمنوا بالحلم، ودفعوا حياتهم ثمنًا له.. وقلت في نفسي: كان يمكن لنا أن نكون اليوم في مكان آخر من التقدم والازدهار، فقط لو لم تُغدر الثورة، ولم يلتف عليها الأفاقون والمرتزقة ويغتالوا الحلم والحالمين.
ختام حزين
لقد أجربت عشرات الاتصالات كي آخذ خدمة طبية عادية بالتأمين الصحي الذي أدفع له من مالي شهريًّا، ولم أفلح..! وأجريت اتصالات أخرى لدخول معهد علمي مثل مستشفى الحسين الجامعي، وتمكنت من ذلك بعد تعب ومشقة.. وأتساءل: ماذا يفعل المرضى الذين لا يعرفون أحدًا وليس لهم من يساعدهم في تذليل هذه الإجراءات؟!!
يردد المصريون -بأسى– تلك العبارة الموجزة التي تلخص لك بؤس الأوضاع في كل القطاعات: السيستم واقع..!!