“اليوم عدنا بثلاثة نعم.. نعم للاعتراف بإسرائيل.. نعم للتفاوض مع إسرائيل.. ونعم للسلام مع إسرائيل”، هكذا علق وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين على زيارته إلى السودان، في إشارة إلى انتصار دبلوماسي لصالح إسرائيل. إذ التقى وزير الخارجية الإسرائيلي رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان خلال الأيام الماضية، في زيارة غير مسبوقة، أسفرت عن الاتفاق على تدشين علاقات طبيعية بين البلدين خلال العام الجاري. وذلك عقب ساعات فقط من افتتاح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس التشادي محمد ديبي سفارة تشاد في تل أبيب.
الظرف السياسي
تعتبر السودان في مأزق سياسي معقد يؤججه عدم الاتفاق بين القوى السياسية الفاعلة على طبيعة المرحلة القادمة. وهو ما يهدد أسس الاتفاق الإطاري. إذ لا تزال هناك عدم توافق حول القضايا الخلافية الخمسة، وهي العدالة الانتقالية، والإصلاح الأمني، واتفاق جوبا، وقضية شرق السودان، وتفكيك نظام 30 يونيو.
وما زالت الكتلة الديمقراطية والحزب الاتحادي إلى جانب المجلس الأعلى لنظارات البجا تمتنع عن المشاركة في الاتفاق.
وفي ظل ضبابية المشهد السياسي سودانيًا، وعدم وضوح ملامح قيادة حقيقية، يأتي قرار التطبيع بمثابة توظيف للتوترات للحصول على أكبر قدر من الامتيازات، مع الأخذ في الاعتبار رفض قوى مدنية لهذه الاتفاقية.
اقرأ أيضًا: «لاءات الخرطوم» ومكايدة كوهين ومؤامرة البرهان للبقاء في السلطة
كانت السودان شريكًا في اتفاقيات أبراهام بين إسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب. ولكن وقوع الانقلاب العسكري في السودان في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أعاق استكمال المصادقة على اتفاقية التطبيع، لتتعثر الخطوات النهائية.
في مؤتمره الصحفي عقب لقائه البرهان، صرح وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين: “إن زيارته إلى السودان أرست الأسس لاتفاق سلام تاريخي مع دولة عربية وإسلامية استراتيجية. وأن الاتفاقية ستعزز الاستقرار الإقليمي وتسهم في الأمن القومي لدولة إسرائيل”.
الاستقواء بالغرب
كانت السودان ذات يوم أحد أشد منتقدي إسرائيل في العالم العربي. وعبرت عن موقفها من خلال استضافتها قمة “اللاءات الثلاثة” على خلفية هزيمة عام 1967 أو ما عرف بالنكسة. بينما صنفتها الولايات المتحدة كدولة راعية للإرهاب في عام 1993. وبقيت هكذا حتى توقيع اتفاقيات أبراهام مع إسرائيل، حين أزالتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 2020.
لا يمكن تفسير خطوة البرهان في التأكيد على تطبيع العلاقات مع إسرائيل في الوقت الراهن، بمعزل عن طموحاته في السلطة. خاصة وأن زيارة كوهين أتت بموافقة الولايات المتحدة. ويشكل تقارب البرهان مع إسرائيل بمثابة مغازلة للأمريكان والغرب لدعم موقفه أمام المعارضين وشرعنة تصرفاته الأحادية.
كما يمكن أن تشكل اتفاقية التطبيع حافزًا أمام الدول الأجنبية لتقديم الدعم السياسي والاقتصادي. ومن ثم تعزيز موقف البرهان في ظل أوضاع البلاد المتعثرة.
ذكر بيان الزيارة أن كوهين بحث معاهدة السلام مع السودان بالتنسيق مع نظيره الأميركي أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، اللذين أكدا التزام واشنطن بتقديم كل الدعم المطلوب لإنجاز العملية.
يرى الباحث في الشؤون الإفريقية، وائل نصر الدين، أن عودة نتنياهو إلى السلطة تمثل فرصة أمام البرهان لاستكمال مسار التطبيع، كامتياز يقدمه لأجل الحصول على الدعم الغربي، في ظل موقف المعارضة السودانية المتشددة.
وعلى الجانب الإسرائيلي، تعتبر السودان مدخلًا لإسرائيل نحو توسيع انخراطها الأمني في المنطقة. لاسيما في نطاق البحر الأحمر، وفي ظل سيطرة إيران على اليمن وقدرتها على تهديد الملاحة في الخليج العربي.
يقول “نصر الدين” أن السودان تقع في مسرح تنافس إسرائيل وإيران. هذا بالإضافة إلى أن الصراعات المنتشرة في نطاق السودان وإفريقيا الوسطى وتشاد تشكل عامل استقطاب أمام الإسرائيليين للتدخل في عملية صنع القرار الإفريقي.
توسيع دائرة التطبيع
في فبراير/ شباط 2020، التقى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سرا في أوغندا باللواء عبد الفتاح البرهان. وفي اليوم التالي للاجتماع، أعلن نتنياهو أن البلدين اتفقا على العمل معًا من أجل تطبيع العلاقات. بينما في يناير/ كانون الثاني 2021، وقع السودان القسم التصريحي من اتفاقيات إبراهيم مع وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين. لكنه لم يوقع على وثيقة موازية مع إسرائيل.
عمل البرنامج الانتخابي لنتنياهو على الترويج لأهمية توسيع دائرة اتفاقيات أبراهام. وأكد على أن إسرائيل والولايات المتحدة تعملان على تضمين موريتانيا وإندونيسيا. إذ يعتبر ملف السياسة الخارجية لإسرائيل أحد أولويات نيتنياهو لصرف الانتباه عن المشكلات الداخلية.
يشير الباحث في الشؤون الاستراتيجية، عماد بحر الدين، أن مسألة التطبيع مع إسرائيل تعود إلى عهد البشير. إذ فتحت السودان مجالها الجوي للإسرائيليين منذ ديسمبر/ كانون الأول 2018. فيما أشاد بهذه الخطوة نيتنياهو في عهد حكومته السابقة، وصرح بأن الخرطوم صارت أقوى مما سبق.
ويقول “بحر الدين” أن خطوة التطبيع تعتبر امتداد لسلسلة من التفاعلات. إذ التقى البرهان نتنياهو في عنتيبي بأوغندا في فبراير/ شباط 2020، وخلال اللقاء، جرى الاتفاق على بدء حوار من أجل تطبيع العلاقات بين البلدين.
يضيف “بحر الدين” أن زيارة كوهين تأتي في ظل عودة نيتنياهو إلى الحكومة لاستكمال مسار التطبيع. كما تشير إلى أن العلاقات أصبحت في العلن لا خوف بالتعامل مع إسرائيل من الجانب السوداني ومن الجانب الإسرائيلي. كما تمثل دعم كبير لوجود البرهان، وتعكس انتهازية الإسرائيليين في ظل هذا انقسام المشهد السياسي، فهم يجدوا مصالحهم مع النخبة الحاكمة.
كذلك، يشير “بحر الدين” إلى أن خطوات التطبيع تمت بمباركة أمريكية. كما يبحث البرهان عن الحماية من القوى الأجنبية أمام قوى المعارضة. وبالتالي، تشكل خطوة التطبيع حماية واستقواء بالغرب.
الانخراط في أمن البحر الأحمر
تحتل السودان أهمية جيوستراتيجية بالنظر إلى موقعها على البحر الأحمر. ذلك إلى جانب كونها إحدى ركائز القرن الإفريقي. وهي المنطقة التي تحتل أهمية كبيرة بالنسبة لإسرائيل. خاصة في إطار التهديد الذي شكلته إيران من خلال حضورها في مضيق باب المندب ووجودها المتزايد في خليج عدن الفرصة لزيادة مكانتها الإقليمية.
وسعت إسرائيل لتعزيز علاقاتها مع كلا من إثيوبيا وإريتريا. وفي إطار الاهتمام المتزايد من جانب القوى الإقليمية، أصحبت المنطقة محل تنافس من جانب إيران ودول الخليج وتركيا وإسرائيل. وتحرص اتفاقيات السلام بين إسرائيل والدول الإفريقية على التركيز على الجانب الأمني والعسكري، تمهيدًا لتدخل أوسع من جانبها، من حيث نشر قوات وإنشاء قواعد عسكرية.
اقرأ أيضًا: ماذا يعني تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل لمصر؟
تحركات مترابطة
في سياق موازٍ، أجرى الرئيس التشادي محمد ديبي زيارة إلى إسرائيل، أعلن خلالها افتتاح سفارة دولته في تل أبيب. فيما علق نينتياهو: “نعتقد أن تعاوننا يمكن أن يساعد ليس فقط في تعزيز علاقاتنا وتعاوننا، ولكنه أيضًا جزءًا من عودة إسرائيل إلى إفريقيا وعودة إفريقيا إلى إسرائيل.. لدينا أهداف مشتركة للأمن والازدهار والاستقرار”.
في السنوات الأخيرة، بذلت إسرائيل جهودًا كبيرة لتحسين العلاقات الدبلوماسية مع العديد من الدول الإفريقية. حيث عادت العلاقات بين إسرائيل وتشاد في عهد الرئيس السابق إدريس ديبي في 2019 بعد انقطاع استمر نحو 47 عامًا. وتعتبر خطوة تاريخية في صالح الجهود الدبلوماسية لنينتاهو. كما تأتي تمهيدًا للإعلان عن تطبيع العلاقات.
يقول الباحث في الشأن الإفريقي، محفوظ ولد السالك، إن افتتاح سفارة تشاد في تل أبيب، هو امتداد لتطبيع العلاقات بين الطرفين، الذي تم الإعلان عنه عام 2019 خلال فترة الرئيس تشادي الراحل إدريس ديبي الأب.
ويبدو أن محمد ديبي الإبن سار على ذات النهج بالتفعيل الملموس لهذه الخطوة.
ووفق “ولد السالك”، من الواضح أن محمد ديبي كان ينتظر لحظة هدوء محلي مناسبة لاتخاذ مثل هذه الخطوة، باعتبارها فرصة لتنويع الشركاء الخارجيين لبلاده. لكنها في الحقيقية لن تجدي له كبير نفع. إذ أن الإشكالات الداخلية التي تعانيها بلاده متعددة الأبعاد، وكذلك التوترات الإقليمية. هذا فضلًا عن معارضة طيف سياسي واسع وعدد من المنظمات الحقوقية وجمعيات المجتمع المدني، على حد قوله.
ينوه “ولد السالك” كذلك إلى أن هناك تماهي في موقفي تشاد والسودان. فهما يتقاسمان تحديات مشتركة، ومن الواضح أن هناك تنسيقًا بينهما من حيث علاقتهما بإسرائيل. خاصة وأن افتتاح سفارة تشاد جاء بعد أيام من زيارة البرهان إلى نجامينا.
التداعيات المحتملة
يشكل تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل فرصة مثمرة لإقامة علاقات مع دول أخرى في إفريقيا. فضلًا عن تعزيز العلاقات القائمة مع الدول الإفريقية. كما يمثل مدخل آخر للالتفاف على الاستياء من جانب بعض الدول الإفريقي من الحضور الإسرائيلي في القارة. لاسيما الحملة التي قادتها الجزائر وجنوب إفريقيا لأجل تعليق منح صفة مراقب لإسرائيل داخل الاتحاد الإفريقي. وفي الوقت ذاته قد يثير توترات أمنية أو يتطلب إعادة صياغة لمعادلة الأمن الإقليمي.
ويرى “ولد السالك” أن اتفاق السودان مع إسرائيل على توقيع معاهدة سلام لاحقًا ينحصر في كونه محاولة من البرهان لتنفيس الاحتقان وتصاعد الأزمات الداخلية المستحكمة، ومحاولة للتقرب أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية، وأيضًا من بعض البلدان العربية الأخرى. ولكن من غير المتوقع أن يؤتي ثمارًا في المرحلة المقبلة. خصوصًا إذا وصلت السلطة قيادات مدنية، مع وجود رفض شعبي كبير لقرار التطبيع، وإن كان من غير المستبعد أن تسعى إسرائيل من خلال هذين السودان وتشاد، إلى تعزيز علاقاتها مع دول أخرى في المنطقة خلال المرحلة المقبلة.