في تصريح لا يخلو من معايرة ومكايدة سياسية قال وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين بعد عودته من زيارته الخاطفة إلى السودان الأسبوع الماضي إنّ «الخرطوم هي العاصمة التي أعلنت منها الدول العربية اللاءات الثلاث التاريخية.. ونحن نبني مع السودانيين واقعا جديدا تتحوّل فيه الّلاءات الثلاث إلى نعم 3 مرات».

ولأن عراب اتفاقيات إبراهام التي أُبرمت بين بعض الدول العربية ودولة الاحتلال يعلم جيدا القيمة التاريخية للقمة العربية التي عقدت بعد أيام من هزيمة يونيو 1967 بالخرطوم، والتي شهدت إجماعا عربيا على رد الصفعة لإسرائيل والولايات المتحدة ورفض الاستسلام للهزيمة، فاستخدم مفردات البيان الختامي لتلك القمة التي صارت مع الوقت عنوانا لمقاومة التطبيع.

وفي مؤتمر صحفي عقده في مطار بن جورويون فور عودته إلى تل أبيب قال كوهين: عدنا من السودان بـ3 نعم «نعم للسلام والمفاوضات والاعتراف بإسرائيل»، ردا على لاءات قمة الخرطوم الثلاث «لا صلح.. لا تفاوض.. لا اعتراف بإسرائيل».

بيان القمة التي نبذ فيها العرب خلافاتهم، وشهدت صلحا تاريخيا بين الزعيمين الراحلين الرئيس المصري جمال عبد الناصر والعاهل السعودي الملك فيصل، اعتبر أن إزالة آثار العدوان على الأراضي العربية «يقع على عاتق جميع الدول العربية ما يحتم وحدة الصف وتعبئة كل الطاقات العربية»، وهو ما جعل من قرار المواجهة وحرب استرداد الكرامة والأرض قرارا عربيا شارك في الإعداد له وتنفيذه جميع الدول العربية كل حسب إمكانياته.

كوهين الذي نَظر ورَوج لاستراتيجية تغيير عقيدة الشعوب العربية من العداء لإسرائيل إلى القبول بها والتعامل معها كدولة طبيعية وذلك عبر ربط دول المنطقة باتفاقات وعلاقات اقتصادية، حتى يتم فصل فلسطين عن محيطها العربي، يعلم تماما أن استمرار المواجهة والعداء مع كل العرب خُسارة بعيدة المدى لبلاده، لذا وضع مبكرا عندما كان وزيرا للاستخبارات الإسرائيلية مخططا للتسلل إلى عواصم المنطقة.

يعتقد رجل الأعمال والمخابرات السابق ووزير الخارجية الحالي أن مخططه الصهيوني يمضي على قدم وساق، لا يدرك أن حُكام العواصم التي ربطها ببلاده عبر اتفاقات إبراهام في واد وشعوبها في واد آخر، فالشعوب لاتزال على عقيدتها، تسلمت راية العداء للعدو الصهيوني وستسلمها بدورها إلى الأجيال القادمة حتى تُسترد الحقوق كاملة.

لا يؤمن الرجل الذي يقف على يمين «الليكود» بالسلام مع الفلسطنيين ويرى أنه «مجرد وهم»، حسبما قال في تصريحات سابقة، يقيم علاقات قوية مع المستوطنين في الضفة الغربية، ويناصر طلبهم في فرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات، ويعتبر إخلاء المستوطنات «عملية تطهير عرقي» لليهود، ويعتقد بأنه ينبغي منح الفلسطينيين «حكما ذاتيا ولكن ليس دولة»، ويرى أن قادة الأحزاب العربية في إسرائيل «معادين لإسرائيل باعتبارها دولة يهودية ديمقراطية، ومكانهم خارج الدولة».

وفق استراتجية كوهين فالسودان يمكن أن يكون بابا للولوج إلى القارة الإفريقية «توقيع معاهدة السلام مع السودان سيفتح الباب على مصراعيه أمام تأسيس علاقات دبلوماسية مع دول إفريقية أخرى وتعزيز العلاقات القائمة مع الدول في هذه القارة»، ولفت وزير الخارجية الإسرائيلي إلى أن رحلته إلى الخرطوم تمت بموافقة أمريكية، وأشار إلى أنه من المتوقع أن يقام حفل التوقيع على معاهدة السلام، بعد انتقال السلطة في السودان إلى حكومة مدنية، قبل نهاية هذا العام.

لم تكن تلك هي الزيارة الأولى لكوهين إلى السودان، إذ زارها عندما كان وزيرا للاستخبارات في يناير 2021، ووقع مذكرة تفاهم مع وزير الدفاع السوداني ياسين إبراهيم.

وتنبئ هذه الزيارة، وما أُعلن خلالها من خطوات باستمرار مساعي الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني لضمان بقائه في المشهد السياسي في المرحلة المقبلة، وخاصة بعدما وقع على «الاتفاق الإطاري» الذي يهدف بحسب ما جاء في بنوده إلى إبعاد الجيش عن السلطة وإعادته إلى مهامه الأساسية في حماية الدولة.

يُثبت لقاء (البرهان – كوهين) صحة التقديرات التي ذهبت إلى عدم جدية الأول في تعهداته بالانسحاب من العملية السياسية وتركها للمدنيين، بحسب تحليلات مراقبين سودانيين.

ورغم لقاء البرهان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتنياهو في العاصمة الأوغندية كمبالا في أبريل 2020، ورغم الإعلان الأمريكي حينها بوجود اتفاق ثلاثي رعاه رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب، يقضي برفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، إلا أن الخرطوم لم تنخرط بقوة في موجة التطبيع التي شملت عدد من الدول العربية في ذلك التوقيت.

لم تتطور العلاقة السودانية – الإسرائيلية منذ ذلك التاريخ، في ظل الضغوط الداخلية على القيادة السودانية، التي لم تحقق استقرارا سياسيا يتيح لها بسط رؤيتها للعلاقات الخارجية كما فعلت دول عربية أخرى طبعت العلاقات مع إسرائيل في السنوات الأخيرة.

لكن من باب إبداء حسن النوايا وإرضاء الراعي الأمريكي، ألغى مجلس الوزراء السوداني قبل عام قانون قديم يعود لعام 1958 ينص على عدم الاعتراف بإسرائيل، كما حافظت السلطة السودانية على اتصالاتها بالمسئولين الإسرائيليين، والتي كان آخرها تهنئة البرهان لبنيامين نتنياهو بعد نجاحه في تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة.

ويرى مراقبون أن البرهان الذي يعمل على كسب تأييد واشنطن، يسعى إلى تشجيع دول الخليج العربي التي طبعت علاقاتها مع تل أبيب على إعفاء السودان من قروض مستحقة، ودفعها للاستثمار في بلاده التي تعاني من ضائقة مالية شديدة جعلتها من أكثر الدول المديونة للمؤسسات المالية المانحة.

ومع كل الزخم الذي أحاط بزيارة وزير خارجية الكيان الصهيوني إلى الخرطوم يبقى إتمام اتفاق سلام دائم بين السودان وإسرائيل محاطا بالكثير من الشكوك، فالتوقيع على معاهدة سلام يحتاج إلى حكومة مدنية، بحسب ما أشارت وزارة الخارجية الإسرائيلية التي أكدت أنه لم يتم اتخاذ أي قرار حول تبادل السفراء.

ويستبعد الصحفي الإسرائيلي، باراك رافيد، أن يوقع السودان على اتفاق نهائي لإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، في القريب العاجل، شارحا في مجموعة تغريدات له على موقع «تويتر» الأسباب التي تجعل هذا الطرح مستبعدا في المنظور القريب.

وقال رافيد إن السودان انضم بالفعل لاتفاق إبراهام، في 5 يناير 2021 بحضور وزير الخزانة الأمريكي، ستيف منوشين، لكنه لم يوقع بعد اتفاقية لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، مشيرا  إلى أنه في بداية عام 2021، قدمت إسرائيل إلى السودان مسودة اتفاقية لإقامة علاقات دبلوماسية، «كان السودانيون ينتظرون الحصول على دعم إدارة بايدن للاتفاق، وبالتالي لم يوقعوا ولم يرسلوا رسائل نصية».

ويضيف رافيد وهو مراسل لموقع أكسيوس الأمريكي: حاولت حكومة لابيد، التوصل لاتفاق مع السودانيين. وفي سبتمبر 2021، عقدت قمة ثلاثية تقريبا على هامش اجتماع الأمم المتحدة مع بايدن، لكنها لم تنجح مع الأمريكيين، من حيث الجدول الزمني وتم تأجيلها، وفي أكتوبر 2021، زار لابيد واشنطن لإغلاق القضية مع الأمريكيين، لكن بعد أسبوع حدث انقلاب عسكري في السودان.

وذكر رافيد أنه عقب الانقلاب العسكري في السودان، فرض الأمريكيون عقوبات على الفصيل العسكري في الحكومة السودانية بقيادة الجنرال البرهان، وجمدوا المساعدات الأمريكية، وأوضحت إدارة بايدن للسودان وإسرائيل أنه حتى يتم إلغاء الانقلاب العسكري، وحتى وجود حكومة مدنية في السودان، فإن الولايات المتحدة لن تدعم الاتفاق بين السودان وإسرائيل.

وأكد أنه منذ الانقلاب جُمدت كل الاتصالات مع السودان بشأن التطبيع، وفي الفراغ الذي نشأ، دخل الموساد الذي واصل العمل مع جميع أنواع العناصر في الجيش السوداني، على قضايا الأمن والاستخبارات، «بعض أنشطة الموساد في السودان، خلقت فوضى في العلاقات مع إسرائيل، لأن الجنرال البرهان لم تعجبه العلاقة بين الموساد ونائبه حميدتي».

وأشار إلى أن البرهان والجيش بديا أنهما على استعداد للتراجع وإنهاء الانقلاب، من خلال التوقيع على اتفاق إطار سياسي مع الفصائل المدنية، حول مخطط لعودة الحكومة المدنية.

«ماذا بعد؟.. مثل كل شيء في السودان، هناك فجوة كبيرة بين الاتفاق والتنفيذ»، يقول الصحفي الإسرائيلي لافتا إلى أن «العديد من الدول تشارك في المستنقع السوداني، منها، الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، والنرويج، وإسرائيل، والإمارات، والسعودية، ومصر، وكل من هذه الدول تسحب اتجاها مختلفا في محاولة لتشكيل الحكومة المدنية الجديدة».

وتابع: «لكن حتى تكون هناك حكومة مدنية جديدة في الخرطوم، وتكون الحكومة الأمريكية غير متأكدة من إلغاء الانقلاب العسكري، فإن الولايات المتحدة لن تدعم اتفاقا بين إسرائيل والسودان، وبدون دعم أمريكي لا جدوى من الدخول في مثل هذه الخطوة».

خلال المحادثات التي جرت في الخرطوم حاول المسئولون السودانيون تهدئة مخاوف الضيف الإسرائيلي من أن تقوم حكومة مدنية مستقبلية في الخرطوم بعكس مسار التطبيع، وفق ما نقل مسئول سوداني لوسائل إعلام إسرائيلية قبل أيام، فيما نقلت مصادر إسرائيلية أن تل أبيب وواشنطن «تريدان ضمان استمرار الصفقة»، حتى بعد خروج العسكر من السلطة.

ما يجعل صفقة السلام المنتظرة في مهب الريح، هو الرفض الشعبي الجارف لزيارة وزير خارجية الاحتلال للسودان، وهو ما عبرت عنه معظم الأطراف السياسية والهيئات النقابية والدينية، والتي رفضت جميعها تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وأكدت أن البرلمان الانتقالي، الذي لم يتشكل بعد، هو المخول له بالمصادقة على مثل هذا الاتفاق.

ووصفت قوى وأحزاب سودانية اتفاقية السلام المرتقبة بأنها «مذلة وتنفصل عن قيم الشعب السوداني»، مؤكدة أن السودان لن يجني من الصفقة إلا السراب، وشددت على أنه يجب على القيادة العسكرية في السودان وقف العبث بأمن البلاد.

وقال تجمع المهنيين السودانيين إن ما وصفه بـ«النظام الانقلابي» لن تنقذه الاتفاقات مع الأعداء ولا التحالفات المشبوهة. كما شدد تحالف التيار الإسلامي العريض على رفض ما يجري الآن من تعقيدات في المشهد السياسي السوداني لأنها صُنعت خصيصا لتمرير ما وصفها بالصفقات الفاسدة.

ولا يتوقع المراقبون السودانيون توقيع معاهدة سلام بين الخرطوم وتل أبيب في حال رحيل البرهان وتسليم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة، «الحكومات المنتخبة تعبر عن الإرادة الشعبية والإرداة الشعبية في السودان ضد أي اتفاق مع إسرائيل»، وهذا ما يشكك في نوايا البرهان الذي يبحث عن دعم أمريكي إسرائيلي حتى يبقى في السلطة وينقلب على الاتفاق الإطاري.