في إبريل 2023 تكتمل مائة عام من حياتنا الدستورية المستقرة، مائة عام لم تخل في أي فترة من فتراتها من دستور مكتوب أو إعلان دستوري مكتوب أو وثيقة دستورية مكتوبة، سواء صدرت بإرادة عامة أو بإرادة الحاكم. بدأت المائة عام بدستور 1923 الذي أسس لفترة ثلاثين عاما من الملكية الدستورية شكلا مع مناوأة الدستور من جانب الملكين فؤاد ثم فاروق ممارسةً وعملا ومضمونا، حيث كانت إعاقة الحكم الدستوري سياسة ثابتة في القصر الملكي حتى زوال الملكية في 18 يونيو 1953، ثم خُتمت المائة عام بدستور 2014 الذي أسس لحكم الجمهورية الجديدة التي لم تختلف في نظرتها للدستور عما سبقها على مدار المائة عام سواء في العهدين الملكي أو الجمهوري. طوال المائة عام كانت الدساتير تنتمي نصوصها إلى منابعها الأوروبية الليبرالية الديمقراطية لكن كانت روحها وفعاليتها يتم التنازع عليها بين قوى التحرر وقوى الطغيان.

ومصر إذ تبدأ مع ربيع 2023 مائة ثانية من تاريخها الدستوري فإن التنازع مازال قائما ليس على نصوصه بالدرجة الأولى لكن على روحه وتفعيله وعلى احترامه كمرجعية حاكمة للسلطة والمجتمع معا، وهنا يلزمنا – في جرد موجز لتراث المائة عام من 1923 حتى 2023 – أن نبين أن الحقبة تنقسم إلى فترتين: فترة من ثلاثين عاما هي فترة الحكم الملكي 1923- 1953، ثم فترة من سبعين عاما هي فترة الحكم الجمهوري 1953 2023، وهنا يلزم شيء من التفصيل في كلا المرحلتين:

1 – في الفترة الملكية كانت المسألة الدستورية ذات مضمون طبقي حيث طبقة الارستقراطية والأعيان والرأسماليين الزراعيين والعقاريين والصناعيين ومعهم أفندية الطبقة الوسطى الصاعدة، هذه طبقة تبلورت وتشكلت وتكونت على مدى مائة عام سابقة على صدور دستورها في 1923، تكونت من تحديث القرن التاسع عشر، من السماح بتملك الأراضي، ثم السماح بالنشاط الخاص من تجاري وصناعي، ثم من التعليم الحديث، والصحافة الحديثة، والقضاء الحديث، وكل ما جاء به التطور الليبرالي الديمقراطي الذي استوعبته هذه الطبقات من التفاعل مع أورويا على مدار القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فهذه الطبقة مثلها مثل دستورها طبقة ناشئة تبلورت فقط في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وعبرت عن نفسها -بصورة خاطفة- في ثورة العرابيين 1876 – 1882، ثم عبرت عن نفسها بصورة أكثر وضوحا واستمرارية قبل وبعد ثورة 1919 أي على مدار النصف الأول كله من القرن العشرين، وهو أزهى عصور مصر الحديثة من حيث التكوين الكيفي رفيع المستوى للنخب المصرية.

هذه الطبقة أعطت مصر الحديثة محتواها الوطني المستقل عن حكامها وغزاتها على السواء، لكن -في المجمل- كان دستور 1923 دستورها، دستور الطبقة، والطبقة كانت ترى نفسها ولا ترى الشعب أو ترى نفسها هي الشعب وكان ثمة حواجز طبقية يتراكم بعضها فوق بعض تحول دون أن تكون مصر لكل المصريين ومن ثم تحول دون أن يكون الدستور -رغم ليبراليته وديمقراطينه- لكل المصريين، كان الدستور وكانت الليبرالية وكانت الديمقراطية كان كل ذلك يخدم -بالدرجة الأولى- مطامح الطبقة من كان منها في صف الدستور ومن كان منها ضد الدستور، من كان منها مع الملك ومن كان منها مع الشعب، من كان منها مع الاستقلال ومن كان منها مع الاحتلال، كانت التركيبة واحدة والسبيكة -بكل مكوناتها المختلفة- سبيكة واحدة، قامت معا 1923 ثم سقطت معا 1953.

لم تستطع الدفاع عن نفسها، ولم يدافع عنها الشعب الذي -باستثناء الوفد- لم تؤمن به ولم تره ولم تشمله بما تمتعت به من مزايا السلطة والثروة والنفوذ الاجتماعي والتفوق الثقافي. الوفد -وحده- من آمن بفكرة الشعب بمعناه الحديث كمواطن مالك صاحب إرادة وسيادة وحق، لكن تمت محاصرته واستنزافه من خارجه وداخله على مدى ثلاثين عاما، فسقط الوفد من جملة عهد كله سقط مرة واحدة.

2 – في الفترة الجمهورية تحولت المسألة الدستورية من مضمونها الطبقي القديم إلى مضمون عسكري، حيث الجيش ألغى الملكية وسحق الطبقة وألغى دستورها، ثم ورثهم جميعا، آلت إليه كافة التركات، تركات القصر الملكي ونفوذ وسلطة سلالة محمد علي باشا، ثم آلت إليه سلطة الطبقة ونفوذها وهيمنتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ثم آلت إليه صناعة الدساتير، كانت أيلولة كل ذلك ومازالت إلى الجيش وبيد الجيش، بيده القرار السياسي، بيده القرار الاقتصادي، بيده الهندسة الاجتماعية والثقافية والإعلامية والقانونية، سبعون عاما والجيش محيط بكل شيء، الرئيس يأتي من الجيش، الرئيس يشكل البرلمان، الرئيس يشكل الحكومات، الرئيس يوجه الإعلام، الرئيس يسعى لتشكيل الرأي العام، الرئيس حاكم ومالك ووالد وسيد وقائد أعلى وأخ أكبر ومرجع أول وأخير لكل أمر كبير أم صغير.

لذا بات من حق كل رئيس -منفردا- أن يحكم طالما بقي في السلطة بدستور كاتبه بنفسه وبمشيئته وعلى مقاس يتوافق مع أجندته ومطامحه السياسية الفردية، وكل ما للشعب هو الاستفتاء العام على الدستور بنعم أو لا، وسواء حضر المواطن أو لم يحضر وسواء شارك أو تغافل فإن نتائج التصويت تخرج بالموافقة الشعبية على الدستور بأغلبية كاسحة، الرئيس جمال عبد الناصر وضع قواعد هذه التقاليد العسكرية فيما يختص بصناعة الدساتير، كتب بيده عدة دساتير خلال فترة حكمه، وبات هذا التقليد من طبائع السياسة في العهد الجمهوري، يتوارثه عنه كل من جاء للحكم بعده من ضباط الجيش دون استثناء، هذا التقليد المستقر وهذا التوارث المستمر وهذا الخط الثابت هو ما يجعل دولة 23 يوليو مستمرة حتى لو اختلفت ثم تناقضت سياسات الحكام من الناحيتين النظرية والعملية، فأفكارهم وسياساتهم تغيرت وتبدلت من النقيض إلى النقيض لكن جوهر الحكم واحد وهو الرئيس له كل السلطات، وتأمين هذه السلطات يلزمه تمكين الرئيس من رقبة الدستور نصا وروحا وتطبيقا.

3- الخلاصة: الدساتير في المائة عام كانت لمن يملك، للطبقة في العهد الملكي ثم للجيش في العهدين الجمهوريين القديم منهما والجديد، وقد زادت الجمهورية الجديدة بأن نصت -بصراحة ووضوح غير مسبوقين- على أن الدستور والديمقراطية والمقومات الأساسية للدولة ومدنية الدولة ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد من اختصاص الجيش، فالجيش هو من يحافظ عليها ويصونها ويحميها تماما مثلما يحمي البلاد ويحفظ أمنها وسلامة أراضيها. جاء هذه في نص المادة 200 من الدستور إذ تم تعديلها في ربيع 2019، وبهذا يكون الجيش هو في الوقت ذاته مؤسسة ذات مهمتين مزدوجتين: مهمة عسكرية هي حماية البلاد، ثم مهمة سياسية هي الانفراد بالعملية السياسية، بما يلغي السياسة من جذورها، لأنه ليس من الوارد أن يرعى السياسة وهو من أهم خصائصه أن يبتعد عن السياسة لأن الانشغال بالسياسة ينال من حرفية الجيوش وانضاطيتها وتفرغها لمهامها الأصلية. ثم هذا النص المستحدث في دساتير المائة عام ثم في دساتير السبعين عاما ترافق معه -من الناحية التطبيقية- موت كامل للعملية السياسية، ثم سيطرة كاملة من الجيش على تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية، ثم أفول كامل للهوامش المدنية التي كان يحرص عليها الحكام السابقون من ضباط الجيش ولو من باب مراعاة الشكليات واحترام خواطر الرأي العام. المائة عام بدأت بصحوة دستورية وإن كانت طبقية ثم انتهت بموات وتصحر وعدمية دستورية كاملة وإن وضعت الدستور تحت حماية الجيش.

***

– الدساتير بما أنها موازين للسلطة والحق والواجب والحرية هي شأن ملك للشعب كله، لا لطبقة مسيطرة، ولا لجيش مسيطر، إنما هي للشعب كله. ومصر في ذلك لا تختلف عمن سبقها في الكفاح الدستوري من شعوب، فمثلما عرفت أمريكا الدساتير في غمار ثورتها من أجل الاستقلال عن الهيمنة الأجنبية، ومثلما عرفت فرنسا الدساتير في خضم ثوراتها المتكررة على الطغيان والاستبداد، فكذلك عرفت مصر الدساتير في خضم ثوراتها على الخطرين معا، ثورات المصريين على السيطرة الأجنبية، وثورات المصريين على الطغيان والاستبداد الداخلي ، لم تنقطع روح الثورة لدى المصريين من مطلع القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن الحادي والعشرين، من ثورتهم على حكم الترك والمماليك 1803 – 1805 حتى ثورتهم على دولة 23 يوليو في 25 يناير 2011. لكن رغم ذلك الكفاح لم تصل مصر إلى الديمقراطية التي تعني حكم الأمة كلها بالأمة كلها على حد تعبير الدكتور محمود عزمي 1889 – 1954 كما يذكر في مقالاته الواردة في كتاب الدكتور أحمد زكريا الشلق “الحزب الديمقراطي المصري 1918 – 1923″، في هذه المقالات التي يمر عليها الآن مائة عام نجد هذا التعريف الرائق الواضح للديمقراطية، يقول في ص141 وما بعدها من الكتاب “الديمقراطية حكم الأمة كلها بالأمة كلها كذلك، لا بأسرة تستبد بها، ولا بطبقة من الناس تتكاتف لتخلق لنفسها مميزات تتحكم بها في رقاب الناس”. ثم يقول “وليست الديمقراطية أوتوقراطية تنادي بحكم الفرد، ولا أرستقراطية تنادي بحكم طبقة من ذوي الجاه وأرباب المال وحدهم، إنما الديمقراطية أسلوب يريد أن يشترك فيه مجموع مهما تنوعت طبقاته وتعددت”. انتهى الاقتباس. لكن رغم هذا الوضوح الفكري لدى النخبة المصرية فإن حركة الواقع مازالت أبطأ بكثير من بلوغ الهدف.

كل ما أنجزناه في ظل دساتير المائة عام هو الانتقال بالتدريج من حكم الشعب بأسرة محمد علي لصالح أسرة محمد علي، إلى حكم الشعب بالطبقة بما فيها الأسرة لصالح الطبقة والأسرة، ثم حكم الشعب بالجيش لصالح الجيش. ومازال الهدف الديمقراطي الذي هو -بتعريف الدكتور محمود عزمي- حكم الأمة كلها بالأمة كلها لمصلحة الأمة كلها، لم يزل هدفا بعيد المنال. حكم الطبقة كان ديمقراطية ينقصها التطوير حتى تكتمل، بينما حكم الجيش ديكتاتورية ولدت مكتملة مرتين، مرة بعد هزيمة القوى الديمقراطية في مارس 1954 ثم مرة أخرى بعد إخضاع القوى المدنية في صيف 2014.

القرن العشرون كان نصفين: النصف الأول مساع للاستقلال ومعه الديمقراطية، والنصف الثاني إنجاز للاستقلال مع الاستغناء عن الديمقراطية، الروح الليبرالي الديمقراطي الذي ساد النصف الأول من القرن انقلب عليه الطبع الديكتاتوري العسكري الذي ساد نصفه الثاني. أما القرن الحالي -الحادي والعشرون- فقد بدأ بعشر سنوات فيها حيوية شعبية عالية في ظل هوامش ديمقراطية واسعة بلغت ذروتها في الحضور الشعبي في ثورة 25 يناير 2011، ثم جاءت السنوات العشر الثانية من القرن كأنها انقلاب على العشر الأولى منها، في العشر الأولى كلمة مسموعة للشعب في وجه طغيان الدولة ثم انقلبت الآية في العشر الثانية حيث ليس مسموعا غير طغيان الدولة بينما الشعب في صمت عميق طويل.

الشعب المصري سكت وصمت في تاريخه الحديث مرتين: مرة بعد 1914 تحت ديكتاتورية الاحتلال، ثم مرة بعد 2014 تحت ديكتاتورية الجمهورية الجديدة، صحيح أن مصر عرفت ديكتاتورية مماثلة بعد مارس 1954 لكنها كانت من نوع مختلف، كان لها مشروع سياسي اجتماعي اقتصادي ثقافي استوعب الكثير من النشاط العام ولو في اتجاه محدد مرسوم بإرادة السلطة، لكنه كان مشروعا على كل حال وكان يحظى بالرضا والقبول من أطياف اجتماعية واسعة حتى أفاقت على صدمة النكسة صباح خمسة يونيو 1967.

سكت الشعب بعد 1914 بدعوى الحرب العالمية الأولى حيث فرضت الأحكام العرفية -الطوارئ- وأغلقت الصحف أو كممت، وتجمدت الحياة الحزبية أو عطلت، واعتقلت قيادات العمل الوطني أو نُفيت أو شُردت، والأهم والأخطر من كل ذلك هو تحريم السياسة تحريما تاما، وبث الجواسيس في أنحاء البلاد، حتى عزفت النخبة عن السياسة بالكلية، فانصرف منهم من انصرف إلى الأدب والفن والفكر، وربما انصرف بعضهم إلى التلف والسهر والسكر والقمار، ثم تكرر تحريم السياسة تحريما تاما بعد 2014 بدعوى الحفاظ على الدولة مما لحق بدول في الإقليم من جراء ما أعقب ثورات الربيع العربي من فوضى في بعضها أو من حرب أهلية في بعضها الثاني، أو فشل المؤسسات وترهل الدولة في بعضها الثالث، وقد ترافق مع تحريم السياسة قبضة حديدية ألقت الرعب في كافة الأنحاء حتى بات الصمت طبعا وغريزة مستقرة من فرط الخوف في نفوس الأكثرين من الناس، لم تعرف مصر الحديثة قبضة حديدية بهذا المستوى من الشدة مثلما عرفتها في هاتين المرتين: بعد إعلان الحماية البريطانية واندلاع الحرب العالمية الأولى 1914 ثم بعد الجمهورية الجديدة والحرب على الإرهاب وتثبيت أركان الدولة بعد 2014. أما بعد 1954 فصحيح لم تكن هناك سياسة أو نشاط عام بالمعنى الليبرالي الديمقراطي لكن كان فيه مجال عام نشط تقوده الدولة باعتبارها قوة تحرر ثوري كان هو الموجه في الكثير من البلدان الخارجة للتو من حقبة الاستعمار.

الصمت الأول، أي ما بعد 1914 لم ينكسر إلا بثورة عارمة هي من أعظم ثورات الشعوب ضد أعتى امبراطوريات التاريخ وهي ثورة 1919 والتي لم تضع أوزارها حتى انكسر الصمت ثم نالت بعده بعضا من الاستقلال الوطني وليس كله وبعضا من الحرية والديمقراطية وليس كلها. فهل معنى ذلك، أن الصمت الثاني، الذي بدأ من بعد 2014 يلزمه ثورة حتى ينكسر؟.

***

المؤرخ الإنجليزي هربرت فيشر 1865 – 1941 يفتتح الجزء الثالث والأخير من كتابه “تاريخ أوروبا” بالقول “لقد أبان إعلان الحقوق الأمريكي 1776 الطريق الذين يتعين أن يسلكه كل نصير للحرية في العالم، هذا الطريق هو أن ما أنجزه الأمريكيون بالثورة بين عامي 1776 – 1783 يستطيع الأوروبيون أن ينالوا مثله بالإقدام والجرأة”. ولقد وقفت تكرارا ومرارا عند فكرة أن من الممكن بالإقدام والجرأة على فترات معقولة من الزمن أن ننتزع الحق من غاصبيه دون انتظار الثورة التي لا تأتي كل يوم، مصر لم تعرف الثورات إلا على فترات متباعدة، ثورتين في أول وفي آخر القرن التاسع عشر، وثورتين في الربع الأول ثم الربع الثالث من القرن العشرين، ثم ثورة في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فلو اعتمدنا القياس على التاريخ فليس من ثورة في وقت قريب، ممكن يتعثر النظام فلا يستمر، وممكن تحت أي ظرف طارئ يتغير.

لكن هذا ينهي مشهدا دون ضمان بحل ما خلفه هذا المشهد من أزمات في العمق، فليس من اليقين أن يأتي بعده ما هو أو من هو أفضل وأحسن، ومن الوارد أن ننتقل من الأسوأ إلى الأكثر سوءا. ثم ثورة 25 يناير 2011 فيها من مصادر الإلهام الثوري ما يمكن إحياؤه وإعادة الانطلاق منه دون الحاجة إلى تكرار النزول الشعبي الكاسح في الشوارع والميادين، وهي لم تزل حاضرة طازجة في الضمير العام كأن المصريين مازالوا في ميادينهم العامة لم يغادروها بعد. ثورة يناير تحتاج إلى إحيائها في الضمير والوعي والواقع عبر ثورات فكرية وثقافية واجتماعية ودستورية وقانونية دؤوبة جريئة على فترات طويلة من الزمن يتشارك فيها ويتعاقب عليها أجيال من ذوي الفكر والكفاءة والعزيمة من المصريين، ثورة يناير ثمن مدفوع دفعه المصريون ولم يحصلوا على مقابل له، حصلوا على المغارم من تنكيل الثورة المضادة بهم، لكنهم لم يحصلوا على مغانمها، ولم يروا ثمرتها فيما طالبوا به من “عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة انسانية”.

والمطلوب هو أن نحرر ثورة يناير من سطوة الثورة المضادة، وحتى نحررها من سطوة الثورة المضادة يلزم إغناؤها وإثراؤها بعدة ثورات في الفكر والتنظيم والعمل وطرح القضايا وخلق رأي عام مثقف حر ممتاز القلب والضمير والذوق الفردي والجمعي.

وهذا ما يقوله هربرت فيشر عن أوروبا وكيف أنجت بالإقدام والجرأة ما أنجزته أمريكا بالثورة، يقول “وقد اتخذت روح الحرية أشكالا عديدة، فهي دستورية عند ميرابو، وثورية عند دانتون، وشعرية خيالية عند شلر وشلي ولامارتين، ومصدر وحي ونبوة عند ماتزيني، وعقلية عند كوندرسيه وجون ستيوارت ميل، وعملية عند كُبدن وكافور، وحربية مغامرة عند كشراين. ولكن ظهورها اقترن بنضال محتدم الأوار. بيد أنها عمرت بعد جرائم الثورة الفرنسية وإرهاب نابليون، وأفلحت بختام القرن التاسع عشر في تأسيس نظم حكم ديمقراطية برلمانية في جميع ممالك أوروبا العظمى، ماعدا روسيا”. انتهى الاقتباس.

جدوى هذه الفكرة من هيربرت فيشر ومن تاريخ أوروبا يمكن تحديده في أمرين: لا تنتظر وقوع الثورة واعمل -بالإقدام والجرأة- على انتزاع حقوق شعبك من غاصبيها مهما تكن الظروف أي ليكن السعي في سبيل الحرية عملا متواصلا وليس فقط في مواسم الانتفاضات والهبات الثورية المباغتة والتي لا يعلم أحد متى تقع، ثم للثورة أشكال عديدة، فهي ليست فقط في الغضب الجماهيري في لحظة واحدة ضد سلطة ظالمة، لكن الثورة ممكنة في الأدب والمجتمع والفكر والتكنولوجيا والتشريع والعسكرية والمدارس والتعليم والجامعات والأخلاق والإدارة والصناعة وكافة مناشط الحياة، وكل تقدم يتم إحرازه في أي من هذه المجالات بما ينعكس على حياة يتوافر فيها رباعي العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية فهو الثورة بعينها، المهم ألا يتوقف السعي لإنتزاع الحقوق المشروعة من الطغيان الغاصب، هذا السعي -بكل تضحياته- كفيل بإرغام الاستبداد على رفع المظالم وإزالة الحواجز والاعتراف بالشعب سيدا ومالكا وصاحب حق.

ثم في ص 95 وما بعدها من الكتاب المذكور فإن هيربرت فيشر يعتبر الشاعر الألماني جوته 1749 – 1832 قوة تحرر ثورية عظيمة في ألمانيا رغم أنه لم يكن ذا ميول سياسية ولا توجهات ثورية ولا نزعات بطولية دينية أو دنيوية، بل كان مثالا للعبقري النابغ الموهوب الأناني أنانية كاملةً بمعنى أنه متفرغ طول الوقت لتنمية موهبته وصقل شعره وتطوير نفسه والارتقاء بإمكاناته كشاعر، فما قدمه جوتة عندما كتب أشعارا تتسابق أوروبا كلها على قراءتها بشوق ومتعة ولهفة هو أنه أنجز أمرين عظيمين: حرر ألمانيا والشعب الألماني والسياسة والثقافة الألمانية من عقد النقص تجاه القوة الأوروبية الأقوى آنذاك وهي فرنسا، فقد نجح نابليون بونابرت في غزو ألمانيا وإذلالها وكسر نفوس شعبها ومرغ هيبتها في الطين.

وقبل ذلك، أي قبل غزو نابليون، كان الأدب الفرنسي يغزو ألمانية من مائة وخمسين عاما أي من منتصف القرن السابع عشر الميلادي، فأنتج جوتة أدبا ألمانيا يستمتع به الألمان وتزدهر به اللغة والثقافة الألمانية. ثم الأمر العظيم الثاني الذي أنجزه جوته هو أن أدبه أصبح أدبا لأوروبا كلها، فقد أصبح -بفضل تفرغه الكامل لموهبته- أشهر أدباء أوروبا وأعمقهم تأثيرا وأعلاهم مكانة في العقول والقلوب، فكان جوتة بهذا النبوغ بداية التحرر الألماني وبداية الثورة الألمانية وبداية النزوع الألماني للخروج من قفص الإذلال الفرنسي حتى وصلت لحلم السيطرة على أوروبا. أنجز جوتة ذلك لألمانيا وهو غير ثوري وغير سياسي وغير ناشط، لكنه مبدع وعبقري ومؤثر ونافذ الكلمة ورفع رأس ألمانيا بعد انحناء ومنحها سبيلا للفخر بعد إنكسار وهو بهذا كله قوة تحرر مثلما هو طاقة ثورة.

***

السؤال: ونحن نستقبل المائة الثانية من حياتنا الدستورية كيف ندرك ما لم ندركه في المائة الأولي، كيف السبيل إلى دستور يجعل الحكم في يد الشعب، لا في يد طبقة مثلما في العهد الملكي، ولا في يد الجيش كما في العهد الجمهوري، ثم كيف ننتزع هذا الحق دون انتظار ثورة قد تأتي وقد تتأخر، وقد تنجح وقد تفشل، كيف ننتزع الحق بإقدام وإصرار؟

الجواب: في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.