مع توسع النقاش حول قُرب انتهاء فترة رئاسة محمود عباس للسلطة الفلسطينية، تُطرح في الأوساط السياسية داخل فلسطين وخارجها الأسئلة حول المستقبل السياسي للفلسطينيين، وشكل عملية الانتقال للسلطة دون التسبب في انقسامات في الداخل الفلسطيني.

الورقة التي نشرتها مجموعة الأزمات الدولية (ICG) مؤخرا، تطرقت لهذه الأسئلة، وعلى رأسها: ما الذي ينبغي فعله؟ وقالت :” يتمثل المسار الأفضل -ولو أنه غير محتمل- في العودة إلى إجراءات الخلافة التقليدية. وإذا اتخذت القيادة الانتقالية في مرحلة ما بعد عباس المسار الأكثر ترجيحًا، وعينت خليفة له، ينبغي أن تستجيب للضغط الشعبي بإجراء انتخابات رئاسية إما تصادق على التعيين أو تسمح بظهور مرشح بديل.

تقول الورقة إنه وبعد مرور أكثر من عام على إلغاء الانتخابات وحدوث اضطرابات عنيفة، يواجه الفلسطينيون احتمال انتقال في القيادة يزعزع الاستقرار. ما يزال الرئيس محمود عباس، البالغ من العمر 87 عامًا، يحكم قبضة قوية على السلطة. إلا أن فترة حكمه تقترب لا محالة من نهايتها. وستشكل عملية خلافته تحديًا، بالنظر إلى أن عباس يشغل ثلاثة مناصب قيادية؛ فهو رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية وقائد منظمة فتح، الفصيل الأكبر في المنظمة.

عباس عقد الأمر

تتهم الورقة، عباس بأنه أفرغ أو عطل المؤسسات والإجراءات التي كان من شأنها أن تقرر من يحل محله.

ما يعقد المسائل هو أنه في حين أن عباس هو قائد الفلسطينيين في سائر أنحاء العالم، فإن مركز جاذبية الحركة الوطنية انتقل إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل. وواقع الحال هو أن وحدهم الفلسطينيين الذين يعيشون هناك سيكون لهم صوت في اختيار خليفته.

ومن أجل تفادي مخاطر حدوث فوضى، ينبغي على أي قيادة فلسطينية مؤقتة أن تضمن عملية انتقال مستقرة. عملية يعترف الفلسطينيون بشرعيتها، من خلال السماح بإجراء انتخابات رئاسية من شأنها أن تصادق على خليفة معيّن أو أن تسمح للفلسطينيين بالاختيار بحرية من بين مرشحين، وهو الخيار الأفضل.

اقرأ أيضًا: حسين الشيخ: ملاءة خلافة عباس الواسعة

اضطلع عباس، الذي خلف مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، بمسئولية كبيرة عندما أصبح قائد منظمة التحرير عند وفاة عرفات في عام 2004 ورئيس السلطة الفلسطينية بعد عام من ذلك. وكان اسميًا الممثل السياسي الأعلى للفلسطينيين في سائر أنحاء العالم: في الأراضي المحتلة، وفي الشتات -بصفته رئيسًا لمنظمة التحرير الفلسطينية- بل  حتى للفلسطينيين داخل إسرائيل”الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948″.

تؤكد الورقة أنه لا توجد آلية واحدة تمكن الفلسطينيين المشتتين من انتخاب قادتهم. وبالتالي، فإن منظمة التحرير الفلسطينية طورت إجراءات مختلفة للخلافة في مؤسساتها وأجهزتها المختلفة. فمنذ اتفاقات عام 1993، التي أفضت إلى تأسيس السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، حمل الفلسطينيون البالغ عددهم 5.35 مليون فلسطيني في الضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) وقطاع غزة العبء السياسي لما تبقى من الحركة الوطنية الفلسطينية. إلا أن قادتهم، وبمساعدة إسرائيل، أحبطوا بشكل متكرر تطلعاتهم للتصويت في انتخابات رئاسية وتشريعية كطريقة لإضفاء الشرعية الشعبية عليها.

وفق الورقة، فإن ثمة معضلة عندما يصل الشخص، الذي يجمع كل المناصب القيادية الثلاثة. وهو الذي حكم بشكل استبدادي على نحو متزايد، وتجاوز الإجراءات، وأضعف المؤسسات وأسكت المنتقدين، إلى نهاية فترة حكمه. وما يضيف إلى تعقيد التحدي حقيقة أن عباس لم يعطِ مؤشرًا واضحًا بشأن الشخص الذي يرغب بأن يخلفه، الأمر الذي يحدث فوضى وارتباكاً ويشجع المنافسة خارج المؤسسات بين الخلفاء المحتملين.

ثلاثة سيناريوهات

تشير الورقة إلى ثلاثة سيناريوهات تطرح نفسها. يتمثل الأول في أن يقوم عباس أو خلفاؤه المؤقتون بإصدار قرار بالعودة إلى القواعد، وإحياء مؤسسات الرقابة القضائية التي همشها وإعادة إحداث درجة من الإرادة الشعبية في إجراءات الخلافة. حتى الآن، ما من شيئ يشير إلى أن القادة الفلسطينيين سيختارون هذا المسار، رغم أنه سيكون المسار الأسلم.

أما في السيناريو الثاني، إما أن يعين عباس خليفة قبل مغادرته المشهد أو، إذا لم يفعل ذلك، تختار فتح خليفة بعد ذلك. يمكن لمثل هذه الخطوة أن تحقق استقرارًا أوليًا في العملية الانتقالية. لكن من غير المرجح أن يكون مستدامًا.

ومن المرجح أن تتزايد الضغوط بسرعة بين الفلسطينيين من أجل إجراء تصويت شعبي. علاوة على ذلك، فإن أي خليفة لن يتمتع بسلطة عباس بصفته أحد مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية أو بحكم قبضته على المؤسسات الفلسطينية التي سمحت له بتأجيل الانتخابات.

السيناريو الثالث، وهو بالتأكيد محتمل، يتمثل في انهيار العملية الانتقالية إلى شكل من أشكال الفوضى. وربما العنف بين فصائل مسلحة متحالفة مع سياسيين معينين وتسيطر على أجزاء مختلفة من الضفة الغربية. ومن شأن هذا المآل الأخير أن يلقي بظلال من الشك على بقاء السلطة الفلسطينية.

لا توجد طريقة سهلة

ما تريده الجهات الفاعلة غير الفلسطينية ليس قليل الأهمية أيضًا. فإسرائيل تنظر إلى الوضع في المناطق التي تحتلها بشكل رئيسي بصفتها هاجسًا أمنيًا. وهو السبب الرئيسي لقيامها بتحويل السلطة الفلسطينية من راع ٍومشرف على قيام دولة فلسطينية مستقبلية إلى مساعد فعلي لإسرائيل في فرض سيطرتها.

ومن أجل إدامة الاحتلال وكل ما يأتي معه، تفضل إسرائيل أن تبقى حلقات القيادة الموجودة حاليًا في مواقعها في حقبة ما بعد عباس. لكنها حذرة من المصادقة على أي مرشح بعينه، خشية أن تكون مصادقتها قاتلة سياسياً لذلك الشخص لدى الجمهور الفلسطيني.

الأمر الأكثر إثارة للقلق، هو أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة القادمة من أقصى اليمين من شبه المؤكد أن تتسبب بعناصر جديدة مزعزعة للاستقرار في احتلالها العسكري؛ مثل تسريع التوسع الاستيطاني، والتحرك نحو الضم الكامل، أو أفعال استفزازية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، والتي من شأنها أن تقوض ما تفضله المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ظاهرياً من محافظة على الوضع القائم.

وعلى نحو مماثل، فإن الدول المجاورة مثل الأردن ومصر، ورغم أن مسئوليها يحافظون على صمتهم، فإنهم يفضلون عملية انتقالية لا تغير شيئًا في المعادلة. على الأقل كي لا يحدث شيء مختلف قد يجبرهم على التحرك. وبالنسبة للقوى الخارجية، مثل الولايات المتحدة وأوروبا، فإنها تستمر في التعبير لفظيًا عن دعمها للديمقراطية حتى عندما توحي بأنها ستكون راضية عما يمكن لإسرائيل وجيرانها أن يقبلوه أو يحدثوه.

اقرأ أيضًا: ماجد فرج.. أحلام خلافة عباس قد تعيقها القاهرة

ومن خلال كل ذلك، تؤكد الورقة أنه لا توجد طريقة سهلة لتجديد قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية. سمحت اتفاقات أوسلو للدوائر العليا في منظمة التحرير الفلسطينية بالعودة إلى الضفة الغربية، ولغايات عملية يعود الأمر الآن للفلسطينيين الموجودين هناك الذين قد تتاح أو لا تتاح لهم الفرصة لاختيار قائدهم القادم، على الأقل كرئيس للسلطة الفلسطينية.

وفي حين ينبغي على الفلسطينيين أن يستمروا في السعي لتجديد حياتهم السياسية بشكل عام، فإن العملية الانتقالية الوشيكة في الأراضي المحتلة تشير إلى أن الاستعدادات للخلافة ينبغي أن تبدأ هناك فوراً إذا لم يكن هناك رغبة بجعل وضع متوتر أكثر توتراً.

العامل الخارجي حاسم

ثمة إجراءات دستورية لتحديد الخلافة، والتي ينبغي على القيادة الفلسطينية أن تتخذ خطوات لإعادة توكيدها وإعادة ترسيخها بعد سنوات من الإهمال. إلا أنها من غير المرجح أن تفعل ذلك. كما لا يبدو أن الجهات الفاعلة الدولية الضالعة اسمياً في السعي للتوصل إلى حل عادل ودائم للصراع ستفعل الكثير لدفع عباس في ذلك الاتجاه.

لكن حتى دون استعادة المؤسسات الفلسطينية قبل أن يغادر عباس المشهد، من الصعب تصور سيناريو لا تتصاعد فيه الضغوط من أجل إجراء انتخابات بعد ذلك مباشرة، حتى لو حدثت العملية الفعلية لتسليم السلطة دون مشاكل.

ولذلك من الحيوي أن تفعل الجهات الفاعلة الأجنبية كل ما بوسعها لدعم عملية تجري بعد مغادرة عباس لمنصبه من شأنها أن تؤكد شرعية أي خليفة يتم اختياره من خلال إجراء انتخابات، في الحد الأدنى انتخابات رئاسية، تجرى في جميع الأراضي المحتلة، وبالتأكيد عدم الوقوف في وجه مثل تلك العملية. سيكون ذلك أقل بكثير من تعزيز الجهود المترنحة لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، لكنه سيقلص فرص أن تسبب عملية خلافة فاشلة بالمزيد من الفوضى أو حتى بانهيار السلطة الفلسطينية.