“أنا إن قدر الإله مماتي لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي”.

لم يكن ذلك البيت الشعري، الذي كتبه شاعر النيل “حافظ إبراهيم” وتغنت به سيدة الغناء العربي “أم كلثوم”، تحليقا في الإنشاء السياسي بقدر ما كان تلخيصا لحقائق الجغرافيا السياسية في المنطقة.

بصياغة الأكاديمي السعودي “خالد الدخيل” فإن “الحديث عن مصر ليس حديثا عن أية دولة عربية، أو تدخلا في شؤونها الداخلية، فمصر كادت أن تكون في يوم من الأيام هي كل العرب، وتاريخها الحديث يكاد يكون تاريخ كل العرب في طموحاتهم ونجاحاتهم وإخفاقاتهم”.

إنه “المصير المشترك” إذن، “التنوير والحداثة والنهضة في عهدها الملكي قبل ثورة يوليو”.. و”الثورة والتنمية والمكانة الدولية في عهدها الجمهوري” قاصدا فترة حكم الرئيس “جمال عبدالناصر”.

كان ذلك مدخلا للأكاديمي السعودي للتساؤل عن الأسباب التي أوقعت مصر الحالية “في وهدة البطالة وأزمات الاقتصاد والسياسة ومعضلات المجتمع.. ما الذي حدث لمصر الثرية بثرواتها وإمكانياتها؟”.

باتساع العالم العربي يطرح السؤال نفسه وتتعدد الإجابات عليه.

هذا حق مشروع لكل مثقف عربي تعنيه قضية المستقبل.

اجتهد “الدخيل” في فهم أسباب الأزمة الاقتصادية المصرية ودواعي تفاقمها.

باجتهاد ثان حاول أكاديمي سعودي آخر “تركي الحمد” أن يناقش بموضوعية مماثلة الملف نفسه.

بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف في نقطة أو أخرى، فإن مستوى الطرح يستحق التعامل معه باحترام.

كان مهينا لمصر، قبل غيرها، تورط بعض منابرها الصحفية في عبارات هجاء وشتم ومعايرة للأشقاء بالخليج قبل الاعتذار بمبالغات عكسية.

في الحالتين لم تستبن قضية مصر.. ولا طبيعة الأزمة الراهنة مع السعودية.

ضاعت الحقائق في خضم التشاتم والمعايرات المتبادلة على جانبي الأزمة بما كانوا عليه، أو بما أصبحنا فيه.

بتعبير الأكاديمي الإماراتي “عبدالخالق عبدالله” فإن ما جرى “ردح رخيص!”.

مصر ليست دولة صغيرة في محيطها حتى تتعالى على السؤال العربي الشائع بغير منطق.. ولا دولة تجهل كيف تدافع عن مصالحها بتبصر.

التحاور قيمة سياسية والتشاتم بالمعايرات انحدار أخلاقي يضرب في الوشائج المشتركة.

الشعوب لا تعيش على التاريخ، مهما كان مجيدا.

ثم إننا ننسى أن العالم العربي اختلف، وهذه مسألة تستحق التنبه.

في العقود الأخيرة خاصة في عهد العاهل السعودي الراحل “عبدالله بن عبدالعزيز” بالخصوص أرسلت بعثات تعليمية لأعداد كبيرة من السعوديين والسعوديات إلى كبريات الجامعات الأمريكية والغربية.

وفر التعليم الجيد نشوء طبقة وسطى واسعة ومطلة على العصر.

إذا ما جاز تلخيص جانب من الأزمة الحالية، فإنها انعكاس للوقوف في منتصف الطريق بين عصرين وطبيعتين للدولة السعودية.

ما تحتاجه السعودية الطموحة أن تنتقل بنيتها السياسية من القبيلة إلى الدولة، أو أن تكون هناك مشاركة سياسية حقيقية ومؤسسات حديثة.

هناك محاولات حثيثة لبناء قوة ناعمة تستكمل طموحاتها للقيادة، غير أن القوة الناعمة مسألة تراكم وإبداع وانفتاح سياسي وثقافي.

التطلع للعب دور قيادي مسألة سياسات ومواقف، نقطة المركز فيها القضية الفلسطينية.

السعودية تقف هنا مرة أخرى في منتصف الطريق، نصف موافقة ونصف ممانعة في الصلح مع إسرائيل.

أسوأ ما قد يحدث اعتبار الأزمة المصرية السعودية الراهنة “زوبعة في فنجان من القهوة العربية المرة”، كما كان يقال قديما في وصف الأزمات العربية!

نحتاج إلى مصارحات ومكاشفات بالحوار لا بالتشاتم، بما يجوز لا بما لا يجوز.

لا بد من الإقرار هنا في مصر أن السعودية ودول الخليج الأخرى ليست مسؤولة على أي نحو عن الأزمة الاقتصادية الراهنة، ولا عن حلها بالمعونات على ذات النحو الذي أعاد إنتاجها مرة بعد أخرى!

المعونات مسكنات وليست حلولا.

الأزمة وحلها مسؤولية مصرية كاملة بمراجعة السياسات الاقتصادية والأولويات.

التضامن والتكاتف قضية أخرى تقتضيها المصالح المشتركة بين البلدين الشقيقين.

لا يوجد شيئا مجانيا.

الحوار قضية سياسات لا افتراضات، غالبا توصف العلاقات بين البلدين بأنها استراتيجية دون أن يكون هناك ما يدعو للاعتقاد بأن جميع الملفات فتحت وجرى التفاهم فيها بالتعرف على نقاط الاتفاق وكيفية توسيعها ونقاط الخلاف وكيفية حلحلتها.

بصياغة ما فإنه “تحالف افتراضي” لا على أرضية صلبة، وإلا ما اهتزت قوائمه بتفلت من هنا أو هناك.

نحن في حاجة إلى فحص حقيقي لما وراء اللغة المتعالية، التي اتبعها وزير المالية السعودي “محمد الجدعان”، خلال مؤتمر “دافوس” الاقتصادي الدولي من أن بلاده لن تقدم مساعدات مالية بلا شروط في إشارة واضحة لمصر والأردن.

ما معنى أن يقول إن ذلك سوف يحدث بالتوافق مع المؤسسات المالية الدولية متعددة الأطراف قاصدا صندوق النقد الدولي؟!

بظاهر كلامه فإنه استثمار سياسي صريح في الأزمة الاقتصادية المصرية لا يمت بأدنى صله إلى علاقة “التحالف الافتراضي” بين البلدين.

أن تنظر السعودية في آليات واشتراطات مساعداتها المالية، لمصر أو غير مصر، فهذا شأنها.

لكل دولة الحق في إدارة مصالحها.

ما يستحق التحاور بشأنه إذا ما كان ذلك التعريف الجديد للمساعدات المشروطة يدعم العلاقات أم ينسفها من عند الجذور بأن تنتقل وصاية صندوق النقد الدولي إلى السعودية نفسها!

من واجب مصر أن تقرر بنفسها ووفق مصالحها المباشرة.. أين تقف؟.. ومع من تتحالف؟

في أعقاب (30) يونيو (2013) ساندت السعودية الأوضاع الجديدة في مصر لتثبتها بأقصى ما تستطيع دبلوماسيا وماليا.

لم يكن ذلك دفاعا مجانيا عن مصر بقدر ما كان تعبيرا عن فداحة خشيتها أن يفضي تمركز جماعة “الإخوان المسلمين” في أكبر دولة عربية إلى تهديد سلطات الحكم عند مراكز الثروة النفطية.

إذا أردنا أن نتصارح بالحقائق فقد جرى تكبيل السياسة الخارجية المصرية بالعالم العربي وقدرته على المبادرة في ثلاثة ملفات ملغمة بالمصالح والحسابات المتضاربة: إيران وسوريا واليمن.

لم تكن السعودية مستعدة أن تتقبل أي حوار سياسي مباشر، أو غير مباشر، بين مصر وإيران.

حين كانت تجري لقاءات أو تفاهمات على مستوى غير دبلوماسي تنشأ حساسيات مفرطة وأزمات مكتومة.

بالوقت نفسه أبدت برجماتية زائدة في التعاطي مع الملف الإيراني، تحاور وتتفاهم في مفاوضات شبه معلنة معلقة النتائج لحين أن يتضح مستقبل إحياء الاتفاق النووي الإيراني.

في لقاء ضمني إلى مسؤول سعودي رفيع قبل سنوات سألته: “لماذا الحساسية المفرطة من أن تتحدث مصر مع إيران، ألا يمكن أن تكون محاميا للخليج يطلع عن قرب على مناطق الاتفاق والاختلاف وفرص تخفيض مستوى التوتر؟”.

أجابني: “ولماذا مصر؟”.

كانت تلك إجابة صاعقة وكاشفة في الوقت نفسه.

“كدنا أن نصل إلى اتفاق قبل إعدام رجل الديني الشيعي نمر النمر وما تلاه من حصار لمواقع التمثيل الدبلوماسي السعودي في إيران!”.

بقدر آخر وضعت السعودية قيودا على حرية القرار المصري في التعاطي بالملف السوري، حيث عملت أن تضع الملف كله في كفالتها السياسية ممثلة للعالم العربي، لكنها أخفقت فيه بفداحة وخفتت موازين العالم العربي في إدارته وترك الأمر بالنهاية للاعبين الإقليميين الإيراني والتركي يتنازعان على النفوذ من موقعين متضادين.

وصل تكبيل السياسة الخارجية المصرية حده الأقصى في الأزمة اليمنية.

لا بادرت ولا تحركت رغم تمتعها بثقة الأطراف المتصارعة خشية الحساسيات السعودية.

لمرات معدودة حاورت على مستوى غير دبلوماسي الأطراف المتصادمة، وكان ذلك داعيا إلى توتر في العلاقات مع السعودية.

كانت “عاصفة الحزم” عام (2015) نقطة تحول حاسمة في نظرة السعودية إلى نفسها، دورا وحجما.

تصورت أن بوسعها أن تنشئ تحالفا عربيا واسعا تحت قيادتها العسكرية بفوائض قدراتها المالية.

لم يكن هناك تحالفا يستحق هذا الاسم، ولا نشأ تحالفا إسلاميا كما قيل بعد ذلك، لكنه التطلع للقيادة دون مقوماتها.

أجهضت فكرة بناء قوة عربية مشتركة، الذي اقترحته القاهرة، قبل أن يبدأ اجتماعا مقررا لرؤساء أركان الجيوش العربية في مقر الجامعة العربية، ولم يعد إلى ذكر الفكرة أحد.

عندما تبدت ورطة اليمن بكامل حقائقها سحب ذلك على المكشوف من رصيد التطلع إلى لعب دور قيادي سعودي يرث الدور التاريخي المصري، الذي لم يستطع أحد أن يملأ فراغه حتى الآن.

في أي حوار جدي حول جذور الأزمة المصرية السعودية ينبغي أن نراجع القصة بكامل أبعادها الاقتصادية والاستراتيجية حتى لا يتصور أحد بالوهم أننا حصلنا بالمجان على مساعدات مالية سعودية، أو يمكن أن نحصل بالمجان على أية مساعدات أخرى في المستقبل المنظور.

إذا أردنا علاقة صحية واستراتيجية حقا فإن الحوار الدبلوماسي، كما الحوار بين المثقفين على الجانبين، هو المدخل الصحيح.