انتهت الانتخابات التشريعية التونسية في ظل مقاطعة معظم الأحزاب والقوي السياسية لها، وتراجعت نسب المشاركة لتصل إلى حوالي 11% وهي أقل نسبة مشاركة عرفتها البلاد منذ ثورتها سواء في الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية أو حتى في الاستفتاء على الدستور الجديد العام الماضي.
وقد بدأت الأزمة السياسية في تونس في نوفمبر 2011 في ظل حكم قادته حركة النهضة مع حزبين مدنيين أضعف منها بكثير، وتمت صياغة دستور هجين أقرب للنظام البرلماني ظل مصدر لأزمات سياسية عرفتها تونس علي مدار ما يقرب من 10 سنوات، وأصاب النظام السياسي بالشلل.
وجاءت انتخابات 2019 البرلمانية والرئاسية وأسفرت عن عدم حصول أي حزب على أغلبية في مجلس النواب، أما الانتخابات الرئاسية فقد اكتسحها الرئيس قيس سعيد إذ حصل على حوالي 75% من أصوات الناخبين وبدت البلاد وكأنها على أعتاب مرحلة استقرار بعد إتمام الاستحقاقات الانتخابية إلا أنها دخلت في أزمات متتالية نتيجة ضعف الصلاحيات الممنوحة للرئيس المنتخب من الشعب، وتنازعها مع صلاحيات رئيس الوزراء المنتخب من البرلمان، وأصبحت السلطة التنفيذية برأسين: رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية مما أصاب النظام بالشلل والعجز.
والحقيقة، أن شعور قطاع واسع من الشعب التونسي بعجز منظومة الحكم الدستورية والسياسية على تلبية احتياجاته الاقتصادية والاجتماعية دفعته لدعم قرارات الرئيس سعيد الاستثنائية في 2021، والتي بدأت بتجميد البرلمان ثم حله، وانتهت بوضع دستور جديد وإجراء الانتخابات التشريعية الشهر الماضي.
وقد شارك حوالي 27% من الشعب التونسي في شهر يوليو من العام الماضي في الاستفتاء على الدستور الجديد، وبلغت نسبه المؤيدين حوالي 94% من إجمالي المصوتين، ثم تراجعت نسبة المشاركة إلى 11% في الانتخابات البرلماانية وفاز العديد من المرشحين بمقاعدهم بالتزكية لعدم وجود منافسين وتحدث الكثيرون عن نهاية تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس بعد أن وضع الرئيس كل السلطات في يده وسيطر على السلطة التنفيذية والتشريعية، ورفض الحوار مع المؤسسات الوسيطة سواء كانت حزبية أو نقابية.
والحقيقة، أن سؤال نهاية تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس مشروع، ولكن إجابته يقينا بالنفي لأسباب عديدة أولها أن الرئيس قيس سعيد انتخب في انتخابات تنافسية حقيقية وحصل على 75% من أصوات الناخبين واتخذ في يوليو 2021 قرارات استثنائية أيدها أغلب الشعب التونسي ثم بدأت شعبيته في التراجع بسبب سوء الأداء وتجاهل كل الوسائط السياسية والنقابية، ومع ذلك لم يلغ المجال العام ولا السياسي وظلت المعارضة تتظاهر ضده وتنقده في وسائل الإعلام غير الحكومية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، صحيح أنهم يتعرضون لمضايقات لكنها لم تصل لحد الإقصاء والاعتقال وإغلاق المجال السياسي.
أما السبب الثاني، فإنه يرجع لوجود كيان نقابي عملاق اسمه الاتحاد التونسي للشغل له قاعدة اجتماعية قوية وحقيقية، أيد قرارات قيس سعيد في البداية واختلف معه حاليا، وهو يمثل رمانة ميزان في المنظومة السياسية التونسية، فهو ليس نقابة تديرها أجهزة الدولة وليس شلة ثوريين يتحدثون في غرف مغلقة عن العمال وهم لا يعرفوهم لكنه يمثل قوة اجتماعية ونقابية حقيقية وصل عدد أعضائها إلى 600 ألف “منخرط” (وفق تعبير الأشقاء في تونس) وموجودين في كل المدن ويتحركون في المؤسسات العمومية و الخاصة، وليسوا كيان وهمي يضم على الورق ملايين الأعضاء.
أما السبب الثالث فيخص الجيش فهو ليس قوة اقتصادية أو عسكرية أو سياسية مهيمنة إنما هو جيش صغير محترف لم يتدخل بشكل مباشر في السياسة منذ استقلال تونس على يد الرئيس الراحل بورقيبة وحتى الآن، كما إنه انحاز لإرادة الشعب عقب الثورة التونسية وليس له طموحات للتدخل المباشر في أي مسار سياسي أو الوقوف عقبة أمام عملية الانتقال الديمقراطي.
أما السبب الرابع فيرجع لكون مؤسسات الدولة لديها حدود في الولاء للرئيس الشرعي فهي تدعمه طالما هو الرئيس المنتخب، لكنها قد تقبل بغيره في انتخابات العام المقبل، ويكفي لمن تابع الشهر الماضي أداء رئيس اللجنة العليا المستقلة التي اشرفت على الانتخابات التشريعية (فاروق بو عسكر) سيكتشف تماسك لغة الرجل، وإنه لم ينافق الرئيس بكلمة واحدة كما إنه لم يزور الانتخابات أو يرفع نسبه المشاركة فيها إلى 40% بدلا من النسبة الحقيقية الهزيلة التي كانت 11%.
في تونس هناك مدرستان في التعامل مع قيس سعيد، الأولي تمثلها حركة النهضة وحلفائها التي تصف إجراء ات قيس سعيد بالانقلاب وتدعوا لرحيله، وهو خيار شديد السوء سيعيد مرة أخري منظومة الفشل التي شهدتها تونس أثناء حكم النهضة ورفضها أغلب الشعب.
أما المدرسة أو التيار الثاني فيمثله الاتحاد التونسي للشغل وبعض القوي السياسية المدنية وهم حريصين على استمرار المسار السياسي رغم معارضتهم لأداء الرئيس، ويتمسكون بالنظام الرئاسي الديمقراطي، حتى لو طالبوا بتعديل بعض مواد الدستور الجديد، ويرفضون العودة للنظام الهجين الذي أفشل تونس 10 سنوات.
ولكي ينجح هذا التيار يجب أن يعمل على تقديم مرشح للانتخابات الرئاسية القادمة قادر على الفوز على الرئيس الحالي، وفي حال حدوث ذلك ستكون تونس حققت خطوة كبري في بناء ديمقراطية ناشئة في المنظفة تؤسس لدولة قانون.