لا أعلم إن كانت هناك أي ضريبة في العالم، على أي سلعة فوق كوكب الأرض، تبلغ حد الـ3000% من ثمن السلعة، لتتساوى مع ثمن الضريبة التي تفرضها مصر على زجاجة الكحوليات/ الخمور المستوردة، كما أفصح عنها وزير المالية دكتور محمد معيط في رسالة إلى الإعلامي الأستاذ خيري رمضان في برنامج “حديث القاهرة” على قناة “القاهرة والناس”، تعليقا على تساؤلات طرحها الإعلامي بخصوص مبلغ 13 دولار أضافتها الجمارك على شراء ما يفوق حد الإعفاء الجمركي من الخمور أثناء دخول المسافرين إلى البلاد.
اقرأ أيضا.. بمَ يخبرنا الإقبال على معرض الكتاب؟
رسالة الدكتور معيط كانت غير سهلة الفهم لمن لم يتابع المسألة من قبل، وتتلخص في إلزام القادم من الخارج حال شراءه من السوق الحرة أكثر من لتر من الكحول، وبحد أقصى لتر واحد إضافي، أن يسدد 1بالمئة من الضريبة الجمركية على اللتر الإضافي، ولكن بحد أدنى 13 دولارا أمريكيا. (ربما تتسائل هنا: أيعقل أن الواحد بالمئة تساوي 13 دولارا؟ يعني هذا أن المئة بالمئة تساوي 1300 دولار، فهل هي زجاجة من الماس والياقوت ليبلغ جمركها هذا الحد؟ ولكن هكذا تعمل حكاية الحد الأدنى للضريبة).
أكاد أسمعك تتذمر قائلا: مالي أنا ومال هذا الحديث عن الخمور والكحوليات؟ اللهم احفظنا واعفينا، فأطلب منك أن تصبر عليّ قليلا. وأن تسمع مني أولا، وثانيا، وربما ثالثا.
أما عن أولاً، فقد تصادف هذا الحديث، وهذه القرارات مع تصريحات وزير السياحة السيد أحمد عيسى، بخصوص الخطة أو الاستراتيجة الوطنية لتنمية السياحة، والتي أعلن فيها هدف اجتذاب 30 مليون سائح سنويا لزيارة مصر، وهو هدف عظيم، كفيل بحل كل مشكلات الموازنة، وتقوية الجنيه أمام العملات الصعبة، فأقصى عدد من السياح زار مصر في تاريخها، بلغ 14 مليون سائح في العام 2010، أي أننا نستهدف جذب ما يزيد عن ضعف هذا العدد الأقصى. وقد ركزت استراتيجية تنمية السياحة على محاور رئيسية، أهمها زيادة عدد مقاعد الطيران إلى مصر، وتحسين مناخ الاستثمار السياحي، وتحسين التجربة السياحية، ولنتوقف قليلا أمام هذه النقطة الأخيرة “تحسين التجربة السياحية”، إذ نتمنى ألا تتوقف عند أمور من قبيل “تطوير المناطق السياحية” و”تدريب العاملين بالمتاحف” وزيادة خيارات الغرف الفندقية، على أهمية كل ذلك. لكن من الضروري أيضا أن يدرك القائمين على ذلك “التحسين”، وقبلهم يدرك المشرعون، ومسؤلو وزارة المالية، أن جزءا أساسيا من “تحسين” تجربة السائح، يكمن في عدم “العكننة” عليه بفرض ضرائب غير معقولة على غرار ضريبة الثلاثة آلاف بالمئة على زجاجة الكحوليات، وأنه إذا كانت ثقافتنا المحلية، تنظر برفض أو اشمئزاز إلى الخمور واستهلاكها، فإن هذا لا ينبغي أن ينعكس في قرارات تكاد تكون انتقامية، ضد مستهلكي هذه السلعة أو تلك، خاصة أن ذلك يؤدي إلى نتائج عكسية، فالضرائب المبالغ فيها، في كل زمان ومكان، تؤدي دائما إلى انتعاش التهريب والمهربين، وهو ما حدث فعلا رغم التحذير منه، كما يتضح في السطور التالية.
قبل أقل من ثلاثة أعوام، في القانون الذي بدأ تطبيقه سبتمبر 2021، خفضت المالية حد الإعفاء الجمركي على زجاجات الكحول إلى النصف، الأمر الذي سبب خسائر فادحة لشركة مصر للأسواق الحرة، التي تعتمد مبيعاتها بنسبة 80% على الكحوليات والسجائر، وأصدر آنذاك، سيد صقر مسؤول علاقات المستثمرين في شركة مصر للأسواق الحرة، تصريحات صحفية قال فيها إن ذلك القرار “سيتسبب فى خسائر فادحة للشركة، وكشف تراجع مبيعات شركته نتيجة تطبيق القرار خلال الفترة من 2 – 4 سبتمبر 2021 إلى 2.9 مليون جنيه، مقارنة مع 4.3 مليون جنيه بنسبة انخفاض %32.5 بالفترة المناظرة من شهر أغسطس، لافتا إلى أن مبيعات السجائر والخمور تعادل %83 من هذه المبيعات”.
هكذا عزيزي القارىء، وفي “عز” احتياجنا إلى العملة الصعبة، وبلا سبب مفهوم، تسببنا في خفض موارد واحدة من أهم مصادر الدولار، ألا وهي السوق الحرة، وهكذا، بالطبع كما كان متوقعا، انتعش التهريب، ما اضطر وزارة المالية قبل أيام، إلى إعادة السماح بلتر إضافي، مع الـ 13 دولارا الإضافية، ربما كي لا يبدو تراجعا كاملا.
كان هذا السرد الطويل هو أولاً، أما ثانيا، وبسرد أقل، فهو أن السيد خيري رمضان، في حديثه التلفزيوني، كان يتكلم باستمرار عن “الأجانب”، كأن يقول من حق “الأجنبي” أن يشتري زجاجة أو زجاجتين..إلخ. ولكن الواقع، أن القانون، وهكذا ينبغي دائما أن يكون، لا يفرق بين أجنبي ومصري. وهو يشير إلى “المسافر” أو “الداخل إلى البلاد”، ولا يميز بينهم حسب الجنسية، فلا ينبغي أن يخجل السيد خيري، ولا أي مسؤول، من أن يقول المسافر ولا يقول الأجنبي، فالناس مختلفون، بعضهم يستهلك الكحول وبعضهم لا يستهلك، بعضهم مسلم وبعضهم غير مسلم، بعضهم متدين وبعضهم غير متدين، ولكل طبيعته ونمط حياته، هكذا هو المجتمع وهكذا ينبغي أن نتحدث عنه بلا حرج لا ضرورة له.
كان يمكن أن تتفادى وزارة المالية كل هذه “اللفة”، من تخفيض الحد الجمركي، ثم العودة الخجولة إليه، لو أنها استمعت من البدء إلى صوت المنطق، كما أن “تحسين التجربة السياحية”، وتلك هي نقطة “ثالثا”، لن تنجح إلا إذا كانت تحسينا للخدمات بشكل عام، من دون استهداف الإنسان حسب كونه محليا أو أجنبيا، فالنصاب والفهلوي والمتحرش لا يطلب الاطلاع على جواز السفر قبل أن يقدم على فعلته، والمطب في الطريق والافتقار إلى دورات مياه عامة والاهتمام بالنظافة والتشجير، لا تتمحور – في أي بلد ناجح سياحيا – حول أناس من دون غيرهم، وفي كل الأحوال، لا يمكن لضريبة تبلغ 3000 بالمئة على سلعة يستهلكها الناس في كل مكان في العالم، أن تكون سوى طريق للتهريب والغش والتلاعب و”العكننة”.