لا يمكننا بحال من الأحوال أن نتحكم في قضية الجوع بشكل مباشر أو مبسط، أو من الممكن أن نعتبرها من القضايا البسيطة، لكن الحرمان من الغذاء يمثل أمرا لا يمكن الاستهانة به في جميع الأحوال، حتى ولو غضضنا الطرف عن مسبباته، إذ إن أهم ما يمكن أن يُبقي على حياة الفرد هو تناوله للغذاء بشكل منتظم وبطريقة تتناسب مع إمكانياته، ومن خلال وفرة للموارد، لا تؤثر على مكنة الحصول عليه بشكل متكافئ يجعل من الإنسان قادرا على العيش وسط أقرانه.
اقرأ أيضا.. المحاماة والحق في الدفاع.. هموم مهنية ومشاكل لا تنقطع
ومفهوم الأمن الغذائي يعني: قدرة كل شخص جسديا واقتصاديا واجتماعيا على الحصول على تغذية كافية وسليمة ومغذية تمكنه من تلبية حاجاته الغذائية ليعيش حياة سليمة ونشيطة، وقد عرفت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) الأمن الغذائي بأنه “توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع بالكمية والنوعية اللازمتين للوفاء باحتياجاتهم بصورة مستمرة، من أجل حياة صحية ونشطة”.
ويرتكز مفهوم الأمن الغذائي على مستوى الاتفاقيات الحقوقية، بخلاف العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أكدت على كونه من أهم مفردات تلك المجموعة من الحقوق، فهناك مرجعيات قانونية وحقوقية متعددة يستمد منها مشروعيته الدولية، منها إعلان روما بشأن الأمن الغذائي العالمي، وهو الإعلان الذي صدر عن اجتماع دولي في العاصمة الإيطالية (روما) في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1996، وقد جاء فيه “نحن رؤساء الدول والحكومات، أو من يمثلوننا، المجتمعين في مؤتمر القمة العالمي للأغذية المنعقد بدعوة من منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، نؤكد من جديد حق كل إنسان في الحصول على أغذية سليمة ومغذية، بما يتفق مع الحق في الغذاء الكافي والحق الأساسي لكل إنسان في التحرر من الجوع”.
ومن هذا المنطلق لا يمكننا بحال من الأحوال اعتبار قضية الجوع وإفقار المواطنين لدرجة عدم القدرة على الحصول على متطلباتهم الأساسية من الطعام أهم مفردات أمن تواجدهم على الحياة، وبالتالي أعلى مراتب الأمن القومي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بشكل عام، ذلك حيث إن الاحتياج إلى الغذاء بشكل أكثر تواترا قد يؤدي إلى نشوب الصراعات والاحتجاجات، وإلى إخلال الأمن الاجتماعي، وعدم استقرار الحكومات، وقد شهدت مناطق كثيرة من العالم توترات وصراعات كان مبعثها الرئيسي هو عدم توافر المتطلبات الرئيسية من الغذاء.
وبالنظر إلى أهمية الأمن الغذائي لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل، فإنه من المهم أن تركز أي عملية لإعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع على العوامل العديدة التي تسهم فيه. فإلى جانب تحسين إدارة المياه، فإن فرص الدخل وشبكات الأمان الاجتماعي الفعالة تتسم بنفس القدر من الأهمية. فبدونها، لن يتمكن الناس من تحقيق الأمن الغذائي، مما يخلق مصدرا للإحباط يمكن أن يؤدي إلى تجدد الاضطرابات. ومع القلق بشأن سبل ضمان إمدادات الغذاء، فإن الحكومات بحاجة أيضا إلى ضمان حصول الناس على وسائل الوصول إليها. إن معالجة هذه المجموعة من العوامل أمر بالغ الأهمية لبلدان المنطقة. وبالنسبة للبلدان الخارجة من الصراع، سيكون استثمارا حاسما لضمان ترسخ السلام.
وقد جاء في تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة لعام 2022، جاء فيه أنه يموت كل عام 11 مليون شخص بسبب الأنماط الغذائية غير الصحية وارتفاع أسعار الأغذية يعني أن الأوضاع ستزداد سوءًا بالتأكيد. وإنّ منظمة الصحة العالمية تؤازر جهود البلدان لتحسين النظم الغذائية من خلال فرض ضرائب على الأغذية غير الصحية ومنح إعانات للخيارات الصحية، وحماية الأطفال من ممارسات التسويق المضرّة، وضمان استخدام بطاقات توسيم واضحة على المستوى الغذائي. ويجدر بنا العمل معًا لتحقيق مقاصد التغذية العالمية بحلول سنة 2030، ولمكافحة الجوع وسوء التغذية، لضمان أن تكون الأغذية مصدر صحة للجميع، وقد أكد التقرير على أنه قد ارتفع عدد الأشخاص المتضررين من الجوع على مستوى العالم إلى ما يصل إلى 828 مليون شخص في عام 2021، وفقا لتقرير للأمم المتحدة يقدّم أدلة جديدة على أن العالم يتحرك في الاتجاه المعاكس مبتعدا عن هدف التنمية المستدامة المتمثل في القضاء على جميع أشكال الجوع وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية مع حلول عام 2030، وهو الموعد الذي يفترض أن تتحقق فيه أهداف التنمية المستدامة.
وعلى مستوى الدول النامية والدول التي تعتمد على الواردات لتحقيق الأمن الغذائي فإنها ستكون في مأزق، خاصة الدول التي تعتمد على الواردات لتحقيق الأمن الغذائي، وفي الوقت الذي تكافح فيه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أجل التغلب على الصراعات الجارية، من الأهمية بمكان أيضا أن تراقب المنطقة تحديات طويلة الأمد أمام الاستقرار كالأمن الغذائي وفي مواجهة المآسي الإنسانية التي تتكشف عنها الحروب الأهلية في كل من سوريا وليبيا واليمن من الصعب التركيز على التهديدات الناشئة وغير التقليدية، إن لم يكن الرد عليها. فهي تشكل تهديدا كبيرا لمستقبل المنطقة، ويمكن أن تؤدي في النهاية إلى تقويض أي مكاسب أمنية حقيقة مادام هناك في الأفق أزمات غذائية.
وإذ إنه من الأسس المتعارف عليها أن الدور الرئيسي للحكومات يتلخص في العمل المستمر لتحقيق احتياجات الشعوب، وإذ إن أهم تلك الاحتياجات هو حق المواطنين في الغذاء بحسبه المقوم الأول للحياة، وأن حفظ المواطنين من التعرض للفقر والاحتياج، ليس فقط سعيا أو مطلبا حقوقيا، إنما هو هدفا رئيسيا لبقاء الحكومات، وليس فقط أن يحصل المواطن على قدر مشبع فقط من الغذاء، بل يجب أن يضمن ذلك الحق ضمن مفرداته المتعارف عليها، أن يكون الوصول للغذاء الكافي متاحا وغير مرهق، كما يجب أن تسعى الحكومة إلى توفير الغذاء الصحي المناسب لكافة الأعمار ولبقاء الإنسان ولنموه وللحفاظ على صحته وعافيته حتى يصير عنصرا نافعا للوطن، وليس ذلك فقط لتعلق الأمر بما أوردته الاتفاقيات الحقوقية أو الالتزامات الدولية، بل لكون الأمر متعلق بالبقاء على قيد الحياة للمواطنين، وهو ما يرتبط بالمهمة الأساسية للحكومات سواء من الناحية النصية الدستورية أو من ناحية البقاء الواقعي للأفراد وللدولة على حد سواء، فمن لا يملك قوته لا يملك قراره ولا ملك حريته، إذن فلا يملك كذلك قدرته على البقاء بين الأمم ولا بين الأفراد.