تتناثر التخمينات حول مدى متانة العلاقات المصرية السعودية، ويجري تفسير وتأويل التصريحات الرسمية بأشكال متباينة من حيث الحدة أو المرونة. وعندما ظهرت “رسائل” الأكاديمي السعودي تركي الحمد وصلت “التكهنات” إلى مرماها، إذ أيقن الكثيرون بأن هناك شيئا يجري بين الرياض والقاهرة أكبر من المساعدات والدعم والاستثمارات.
اقرأ أيضا.. ظهور وسقوط المنطاد الصيني والمصير التراجيدي للولايات المتحدة
النقاط الأساسية التي طرحها الأكاديمي السعودي
الحديث عن مصر ليس حديثا عن أية دولة عربية أخرى، وليس تدخلا في شؤونها الداخلية، فمصر كادت أن تكون في يوم من الأيام هي كل العرب، وتاريخها الحديث يكاد يكون تاريخ كل العرب في طموحاتهم ونجاحاتهم وإخفاقاتهم، لذلك فإن الحديث عنها هو حديث عن مصير عربي مشترك، فماذا يجري في مصر اليوم؟
مصر في الذهن العربي ليست مصرا واحدة، بل هي “مصران”: فهناك مصر “النموذج”، سواء كان هذا النموذج هو مصر التنوير والحداثة والنهضة منذ بدايات مصر الحديثة في عهد محمد علي الكبير، أو كان النموذج الناصري منذ عام 1952، نموذج الثورة والتنمية والمكانة الدولية المميزة. بمعنى أن لدينا نموذجان لمصر: مصر المزدهرة قبل عام 1952، ومصر الطموحة بعد ذلك التاريخ، وينقسم المراقبون إلى مؤيد ومعارض لهذا النموذج أو ذاك.
في المقابل، هنالك مصر بواقعها الحالي، أي مصر البطالة، وأزمات الاقتصاد والسياسة ومعضلات المجتمع وتقلباته الجذرية العنيفة التي لا تنتمي لأي نموذج، ملكيا كان أو جمهوريا.. فما الذي حدث لمصر الثرية بثرواتها وإمكانياتها، والتي كانت تقرض المال وتساعد المحتاج، وها هي اليوم أسيرة صندوق النقد الدولي، مشرئبة العنق لكل مساعدة من هنا أو هناك، وهي أرض اللبن والعسل؟ حقيقة لا يمكن تفسير الحالة المصرية بعامل واحد، وخاصة بعد سقوط الملكية، وبدايات “الصعود إلى الهاوية” بل هي عدة عوامل لعل من أبرزها:
أولا: هيمنة الجيش المتصاعدة على الدولة، وخاصة الاقتصاد، بحيث لا يمر شيء في الدولة المصرية إلا عن طريق الجيش، وبإشراف الجيش، ومن خلال مؤسسات خاضعة للجيش، ولصالح متنفذين في الجيش، كما يرى بعض المراقبين مكامن الأزمة وجذورها، وكل ذلك على حساب مؤسسات المجتمع الأخرى، سواء كنا نتحدث عن القطاع الخاص، أو مؤسسات المجتمع المدني، والذي كان في أقوى حالاته في العهد الملكي.
ثانيا: البيروقراطية المصرية الهرمة المقاومة للتغيير، والتي تقف حجر عثرة في وجه أي استثمار اقتصادي ناجح، سواء داخلي أو خارجي، رغم أن مصر عبارة عن كنز لا ينضب من الفرص الاستثمارية.
ثالثا: الثقافة الشعبية المستسلمة والمستكينة والمنتظرة لكل ما يأتي من “فوق”، سواء كان هذا الفوق هو السماء ومفاجآتها وأبطالها المقبلين من الغيب، أو الدولة بجلال قدرها وفرعونها ذي الصولجان، “المالك” لمفاتيح التغيير وخزائن “المن والسلوى”، مع غياب شبه تام لحس المبادرة المجتمعية المستقلة. هذه الثقافة ريفية الجذور، فرعونية التاريخ، ربما لها علاقة بالنيل في فيضانه وانحساره، وبالفرعون في بسطه وانقباضه. مثل هذه الثقافة كانت شبه قاصرة على القرية المصرية طوال التاريخ المصري، ومعزولة تماما عما تمور به المدن، وخاصة القاهرة والإسكندرية تحديدا، من حركات تحديث وتنوير ومبادرات مجتمعية مستقلة في العصر الحديث، ولكن مع فتح الباب لاجتياح الريف للمدينة في أعقاب حركة يوليو، أصبحت هي الثقافة السائدة كليا في كل مصر تقريبا.
هكذا أجمل الأكاديمي السعودي جانبا مهما وخطيرا من أزمة مصر. ورأى أن البنود الثلاثة الأخيرة تمثل أهم ثلاثة عوامل لا يمكن فهم ما يجري في مصر دون أخذها في الاعتبار. وكان لابد من المقدمة التي سبقتهما، لأنها في الحقيقة تمثل بندا رابعا وخامسا وسادسا أيضا يكشف عن أهمية مصر تاريخيا، بل وفي الوقت الراهن أيضا. ومن فرط أهميتها، أصبحت تشكل خطرا على التحديثات الجارية في السعودية “وأخواتها”.
ماذا تفعل السعودية وماذا تريد؟
إن المملكة العربية السعودية تقوم في الأساس، كما هو واضح، بإصلاحات اقتصادية. وهي إصلاحات اضطرارية، بل وربما حتمية، وإلا ستلقى مصير دول كثيرة لم يعد لها وجود فعلي وعملي على الأرض. أي ببساطة، هي لا تقوم بتحويل البلاد إلى “العلمانية” أو فصل الدين عن الدولة، وإنما تحاول أن تعثر على حلول وبدائل لاقتصادها القائم على تصدير الخامات، التي هي هنا النفط حصرا، وربما بعض مشتقاته أيضا في أضيق الحدود. وبالتبعية، فهي تسعى لتنويع مصادر الدخل وخلق حلول ربما في مجال السياحة وصناعتها. إضافة إلى طرح جملة من المتغيرات المرتبطة مباشرة بالعوامل الاقتصادية، ومن ضمنها إطلاق حرية المرأة ليس في كل شيء طبعا، وإنما على الأقل في مجال الأعمال والتواجد في المحيط العام، بدأ من قيادة السيارات والطائرات إلى تولي المناصب في الداخل والخارج، وتمثيل البلاد في المحافل الدبلوماسية والسياسية الدولية. وبذلك يتم ببساطة تفعيل نصف المجتمع السعودي ولو حتى بصورة أولية قابلة للتطوير.
من الواضح أن ما يجري ليس بالضبط تنويرا ولا حتى منحة أميرية من الأمير محمد بن سلمان، وإنما حتمية وضرورة أملتهما الظروف الاقتصادية، قد تقودان إلى تحولات على طريق التنوير وقد يحدث العكس. لكن المهم هنا هو الحتمية الاقتصادية في ظل تحولات دولية وإقليمية كبرى، لا يمكن للعائلة السعودية الحاكمة التعامل معها بعقلية ثمانينيات القرن العشرين عندما كانت قادرة ماديا على الصرف على هذا المجتمع “البطريركي” المغلق آنذاك. وبالتالي، فمشروعات الأمير، والملك القادم، تتطلب مناخا مرنا متسامحا وليس مناخا أصوليا سلفيا، سواء في المملكة أو في الدول المجاورة. لقد انقلب الحال، وأصبحت النخب السعودية، وعلى رأسها النخبة الحاكمة، لا ترغب في رؤية أي ملامح سلفية أصولية تعوقها عن مشروعاتها، بل وأصبحت المملكة نفسها متوجسة من دولة سنية “أصولية” أخرى مجاورة، ذات كثافة سكانية، بها أكثر من 100 مليون نسمة.
وإذا أردنا الدقة، فإن الحكام الجدد في السعودية “الجديدة” متوجسون من توجهات كل من النظام والمجتمع في مصر السلفية الأصولية من جهة، ومتخوفون من الأوضاع الاقتصادية وارتفاع الأسعار والعشوائية التي يمكن أن تدفع إلى فوضى، تؤدي بدورها إلى عبور “الحالة” عبر قنوات وطرق وبوسائل أخرى من جهة ثانية. وهنا يمكن أن نفهم كلام تركي الحمد بطريقة واضحة وصحيحة. وبالذات فيما يتعلق بمسألة الحريات والمجتمع المدني، وغياب المعارضة المدنية. لقد تم تجريف الشارع السياسي، وهناك حالة من السلفية والأصولية، وأزمات اقتصادية وإدارة اقتصادية عشوائية، وهناك أيضا 100 مليون نسمة في حالة شكوى وانزعاج. وبالتالي، فهناك احتمالات كثيرة غير محمودة العواقب، من بينها استيلاء الإسلاميين على السلطة في ظل غياب أي أشكال أخرى من المعارضة. هذا ما يخيف الرياض، ويجعلها تلح على الإصلاحات الاقتصادية من جهة والسياسية من جهة أخرى، وإلا ستكون هناك مشاكل في الدعم والتمويل والاستثمارات.
الوجه الآخر لكلام تركي الحمد
إن كلام الأكاديمي السعودي الذي يلخص الكثير من نظرة النخبة الحاكمة السعودية إلى الأوضاع في مصر، ينطلق من كون أن السعودية باتت القاطرة التي يهمها أن تكون حالات العربات التي تجرها جيدة. هذا الكلام يذكرنا بهجوم جورج سوروس على المنظومة الرأسمالية التي وصفها بالتخلف. وظل سوروس وعشرات من أفراد النخبة الرأسمالية العالمية يهاجمون المنظومة ويطالبون بسرعة تحديثها وإلا فستسقط، وتسقط معها النخب. في هذا السياق، فإن السعودية تتقدم إلى الأمام، وترى نخبها كل نتائج هذا التقدم مقارنة بالأوضاع الحالية بدول أخرى، من ضمنها مصر. وبالتالي، فتأخر مصر وغيرها يؤثر على مسيرة السعودية ومصالحها وتقدمها.
إن النخب السعودية، ترى أن السعودية تمثل قاطرة التقدم حاليا في المنطقة، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع ذلك ومع معايير التقدم والتخلف في القرن الواحد والعشرين. وبالتالي، ترى هذه النخب أن تخلف الدول الأخرى التي “تحلب” السعودية، يؤثر على وتيرة تقدم بلدهم كدولة، وكقاطرة لدول المنطقة. وهذه رؤية براجماتية ونفعية تماما، لا علاقة لها بكسوة الكعبة والمحمل، وحضارات ما قبل الميلاد. وبكلمات أخرى، فإن النخب السعودية تقول إن قاطرة التقدم والريادة السعودية منزعجة من تخلف المنظومة ككل، وإن بعض الدول باتت عبئا على هذه القاطرة، وإن مصر أصبحت تشكل عائقا على طريق تقدم القاطرة التي تقود المنطقة!
السياسة الداخلية تخصم من رصيد السياسة الخارجية
لا شك أن السياسة الخارجية المصرية نجحت طوال السنوات الأخيرة في تفادي الكثير من المنغصات والأفخاخ التي كان من الممكن أن تتحول إلى حروب في أثيوبيا وليبيا على سبيل المثال، أو تورط في مصائد روسية أو غربية أو حتى صينية. ومع ذلك فالسياسة الخارجية بها الكثير من العطب بنتيجة مشاكل بنيوية وهيكلية في الاقتصاد، وفي الحراك السياسي الداخلي، وفي وتيرة التحديثات القانونية وضماناتها.
الأمر الآخر، هو أن السياسة الخارجية المصرية في السنوات الأخيرة تحاول قدر الإمكان البحث عن مخارج وحلول وتقوم بمناورات مهمة ولو حتى من أجل الإبقاء على الوضع كما هو عليه وعدم الانزلاق في أفخاخ ومصائد يمكن أن تؤثر على علاقات القاهرة الخارجية وتنعكس على بعض الأوراق الاقتصادية التي تسد حرفيا “رمق الجوعى والفقراء والمهانين”. أو بكلمات أخرى، تحافظ على البلاد من الانزلاق إلى مغامرات واحتجاجات وعصيانات. ولكن للأسف الشديد، قد يكون عام 2023 هو عام تجمد السياسة الخارجية أو توقفها عند هذه الحدود، لأنها لا تسير بمعزل عن الأوضاع والأحوال في الداخل. قد تسير بمفردها بعض الخطوات إلى الأمام، ولكنها لا يمكن أن تسير وحدها وبشكل معزول عن الأوضاع الداخلية.
إن العام الحالي، قد يشهد تجمدا أو توقفا للسياسة الخارجية. وللأسف الشديد مرة أخرى، سيكون الوضع مؤسف للغاية، لأن الأوضاع الاقتصادية ليست على ما يرام، والأوضاع السياسية تسير على طريقة “وكأننا نمارس السياسة”. والمسألة هنا تتعلق بالمنظومة الداخلية بكل مساراتها، وتتعلق بالقانون، وبالعشوائية، وبتدهور مستوى التعليم والصحة، والجهل، والجريمة، والانحلال التام في الشوارع والمناطق المحيطة بالعاصمة، بل وبمناطق كثيرة داخل العاصمة، وهي المناطق البعيدة عن المعسكرات والمستوطنات التي يقطنها بعض الأثرياء الذين لا يشكلون إلا 1% من إجمالي تعداد السكان. وبالتالي، فالوضع الداخلي بدأ ينتقص من مكاسب ومنجزات السياسة الخارجية، لأن هذا الوضع الداخلي بدأ يسير في اتجاه ليس حتى النمط الروسي- البوتيني، وإنما يكاد يقترب من النمط الكوري الشمالي، حيث بدأت الدولة تحل محل التنظيمات الإخوانية والسلفية والوهابية، وأصبحت تمتلك الحق في التدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس الشخصية والعامة، مع غياب القانون وانتشار الفساد والعشوائية، وفرض المزيد من الضرائب وغياب الخدمات أو ارتفاع أسعارها.