تعاني الدولة المصرية من حالة تصحر سياسي شديدة، بعد أن تم تجفيف مياه السياسة من منابعها، فقد تم منع العمل السياسي في الجامعة تماما، وتم التضييق على الأحزاب السياسية المعارضة، في الوقت الذي رفض النظام تأسيس ظهير سياسي له، أو وجود حزب حاكم.
في غياب السياسة تحولت الدولة إلى عدد من المؤسسات والأجهزة التنفيذية التي لا يجمعها سوى تنفيذ تعليمات الرئيس، فلا يوجد مشروع سياسي جامع يعمل الكل في إطاره، ولا سياسات واضحة بخصوص الاقتصاد والسياسة الخارجية والأوضاع الداخلية، الكل يجتهد لتنفيذ التعليمات، أيا ما كانت تلك التعليمات.
لا أتصور أن النظام كان يخطط منذ 10 سنوات للنتيجة الاقتصادية الحالية، في الأغلب كان ينتظر نجاحات أكبر تمكنه من تبرير طريقة حكمه خلال الفترة الماضية، لا يمكن أن تكون الخطة –غير المعلنة– كانت تقوم على الاستدانة لتأسيس بنية تحتية، ثم بيع أصول الدولة لسداد تلك الديون، لا أعتقد أن الدولة وضعت في اعتبارها أنها سوف تتخارج من الاقتصاد، بينما عملت على مضاعفة الاستثمار الحكومي في المشروعات.
ربما لم يكن غياب السياسة هو سبب الأزمة الحالية، ولكنه بالتأكيد أحد الأسباب، منذ سنوات تحدث بعض المعارضين عن أزمة الديون، وشكك آخرون في جدوى بعض المشروعات القومية، وحذر البعض من خطورة تراجع القطاع الخاص أمام مؤسسات الدولة التي دخلت في أغلب قطاعات الاقتصاد.
كل من شكك وانتقد وحذر قد نالته سهام التخوين والتشهير وربما السجن، ورغم ذلك وصلنا إلى وضع أسوأ مما تصوره الجميع، الدولة تقوم ببيع عشرات من الشركات والمصانع والبنوك، فقط لسداد ديون تم إنفاقها على مشروعات لا تحقق مردود اقتصادي مناسب، صندوق النقد يفرض شروطا قاسية على الحكومة والشعب على السواء، والدولة تعهدت بالتخارج من الاقتصاد في الوقت الذي لازالت عشرات المشروعات الاقتصادية قيد التنفيذ، تنتظر دورها في طابور البيع.
حتى هذه اللحظة لم تقدم الدولة خطة واضحة للتعامل مع الأوضاع الاقتصادية، لا يعلم أحد كيف ومتى تنتهي الأزمة، كل ما قدمته لنا الدولة هو خطة التخارج وبيع الأصول لسداد الديون، ولا نعلم ماذا بعد سداد الأقساط الحالية؟ ببساطة فقدت الحكومة ثقة المواطنين في قدرتها على حل الأزمة، كما فقد الشعب الأمل في تحقيق الدولة لنهضة اقتصادية كما وعده النظام منذ سنوات.
حالة غياب الأمل وفقدان الثقة مؤشرات على أزمة سياسية يعيشها المجتمع، أزمة تجعل الجميع يتساءل كيف يمكن تغيير الواقع؟، تتعاظم خطورة الأزمة مع غياب قنوات التعبير السلمي عن الرأي.
يتوقع المحللون الاقتصاديون أن عام 2023 سوف يكون الأسوأ على الشعب المصري، وهو ما يجعل من احتياج الدولة لخطوات سياسية حقيقية ضرورة ملحة. بشكل واضح ليس لدى الدولة ما تقدمه لتحسين الأوضاع الاقتصادية للمواطنين، ولكن لديها الكثير لتقديمه لتحسين الحالة المعنوية للمجتمع.
أعتقد أن انتخابات 2024 قد تكون فرصة ذهبية لتحرك سياسي يحمي الدولة والمجتمع من مخاطر حالة اليأس التي يعيشها الشعب المصري، مراجعة شكل الحكم باتت واجبة، بعد أن وصلنا إلى النتيجة الحالية، لا أعتقد أن هناك أخطر من استمرار الوضع على ما هو عليه.
أتصور أن هناك طريقين لتحقيق بعض من التغيير خلال 2024، إما أن يتخذ الرئيس الحالي قراره بعدم الترشح لدورة انتخابية جديدة، ويترك الفرصة لآخرين، وهو حل لا تفضله الدولة دائما، ولكنه سوف يعيد الأمل إلى المواطنين، وسوف يمنحهم القدرة على تحمل عدة شهور في انتظار أن ينجح النظام الجديد في ضبط الأمور.
الطريق الثاني إذا قرر الرئيس الترشح للدورة القادمة، على أمل أن ينجح هذه المرة في تحقيق إنجازات اقتصادية حقيقية، وتكون هذه فرصته لنفي فشل سياسات النظام خلال سنوات حكمه العشر، ولكن هذا الطريق يحتاج إلى خريطة جديدة، حتى يحقق الهدف منه.
إذا أراد النظام الاستمرار في الحكم لسنوات ست قادمة، فيجب أن يعيد تقديم نفسه إلى الجمهور، في البداية يجب إعادة الاعتبار إلى السياسة كمسار وحيد لتغيير السياسات والأشخاص، وفتح المجال العام أمام جميع الآراء المعارض منها قبل المؤيد، ويجب إصدار قرارات جذرية بخصوص ملف المعتقلين وحقوق الإنسان، باختصار يجب أن يرى الجميع أن النظام الذي سيحكم من 2024 حتى 2030 يختلف عن نظام 2014-2024.
كلا الطريقين يحتاج الكثير من العمل والترتيبات التي يجب أن تتم الآن، إن لم تكن قد تمت من قبل، والنظام أمام خيارات صعبة بقدر صعوبة الوضع السياسي والاقتصادي المأزوم.
المؤكد أن الاستمرار في السياسات التي وصلت بنا إلى ما نحن فيه بات شديد الصعوبة، وتمرير انتخابات 2024 بالطريقة التي تم تمرير 2018 بها، هو أسوأ السيناريوهات المتاحة.
هذه هي نهاية مسار التفويض، والنظام الآن أمام مفترق طرق جديد، كل المسارات ممكنة، وحده المستحيل هو الاستمرار في المسار الحالي.