الأزمة المصرية / الخليجية الأخيرة، ليست أزمة عابرة وليست سحابة صيف، وليست الأولى -إذا احتسبت الأزمات والمعارك الصغيرة- وسوف تتجدد مرارا وتكرارا مادامت أسباب حدوثها عميقة ومتجذرة، وما دامت أساليب التعامل معها على الجانبين تخرج من أقبية مؤسسات بدون خيال سياسي لا تعرف سوى إفساد خطط الآخرين من جهة أو إطفاء الحرائق من جهة أخرى، مؤسسات تنظر تحت قدميها بشكل ضيق وصلتها محدودة -إن لم تكن مقطوعة- بالسياسة والإستراتيجية وفضائها الرحب.
ستستمر هذه الأزمة في الانفجار في وجوهنا بين فينة وأخرى مادام التعامل معها يتراوح بين إنكارها، أو دفع أذرع إعلامية على الجانبين لتصفيتها بطريقة مؤسفة أخلاقيا تتفق مع مصالح الأنظمة لكنها تتعارض مع المصالح الاستراتيجية الدائمة لشعوب ودول تنتمي لأمة واحدة.
وسوف تكشف عن نفسها ما دامت النهاية المتكررة هي إسدال الستار على كل أزمة تنفجر على طريقة مسرحيات «الفارس» الركيكة بنهاية تلفيقية يتمثل في العودة للتقليد العربي الممجوج في الاعتذار وتبويس اللحى والتضحية بأحد «ميكروفونات» الأزمة من هذا الجانب أو ذاك.
أتفق بداية مع الذين يقولون إن مسار العلاقة المصرية مع منطقة الخليج والجزيرة العربية منذ النهضة العربية الحديثة أي منذ حكم محمد علي هو مسار متعرج لا يسير في اتجاه واحد، فكان يتصف بطابع ودي يصل إلى التحالف في فترات تاريخية أو يتصف بطابع صراعي يصل إلى الحروب المباشرة (محمد علي وابنه القائد إبراهيم مع الدولة السعودية الأولى) أو غير المباشرة (بين فيصل وعبد الناصر في حرب اليمن) في فترات أخرى.
لكن لابد من التشديد هنا على أن نمط العلاقة الصراعي في القرن الـ 19 أي بين (1811 -1818) بداية ونهاية حملة محمد علي لإسقاط الدولة السعودية الأولى، أو في القرن العشرين بحرب اليمن (1962- 1970)، أو نمط العلاقة الودي أو التنافسي الودي الذي تخللها بين الملك عبد العزيز وخلفه الملك سعود لفترات محدودة من الوقت مع مصر الملكية ومصر الجمهورية في سنواتها الأولى، ظل بشكل عام وحتى انتصار حرب أكتوبر 1973 يعبر عن ميل ميزان القوى سواء الصلبة أو الناعمة لصالح مصر.
يعترف بذلك الأكاديمي السعودي د. تركي الحمد نفسه، الذي اعتبرت تغريداته عن مصر ودور جيشها في الحياة العامة المصرية بداية الإعلان عن الأزمة الراهنة -وليس سببها فهي أعمق من ذلك بكثير- فكي يشير إلى أن نقد مصر مشروع من أي مواطن عربي يعترف في بدايتها بأن “مصر كادت في وقت ما أن تكون كل العرب”، وهو يشير ضمنا طبعا إلى هذه المرحلة الممتدة من 1805 إلى 1970.
كانت الدولة السعودية في عهد الملك فيصل تكره المشروع والمد القومي التحرري المعادي للغرب ووظفها الأخير بكل فوائضها لهدمه، وكانت تكره وتسعى لإزاحة قيادة مصر للمنطقة وزعامة عبد الناصر المهيمنة على الشارع العربي في الخمسينات والستينات بما في ذلك قسم مهم من شارعها، ولكنها ظلت بما في ذلك أهم أمرائها تعشق كل ما يأتي من مصر (أم كلثوم، عبد الوهاب، يحيى حقي، وصلاح أبوسيف.. إلخ)، وتعترف لمصر بالتفرد التعليمي والثقافي والقانوني والتكنولوجي، يرسلون أبناءهم للتعلم أو التدريب في مصر ويستعينون بمعلميها ومهندسيها وقضاتها وأطبائها في بناء الدولة الحديثة في الخليج خاصة بعد توفر عوائد النفط وانضمام قطر والبحرين والإمارات كدول مستقلة إلى دول السعودية وعمان والكويت في حقبة ما بعد انسحاب بريطانيا من الخليج وعدن وشرق السويس.
على أن هذا النمط المتأرجح بين التحالف أو التنافس أو الصراع بعد 1973 بات يميل تدريجيا لصالح دول الخليج خاصة المملكة العربية السعودية على حساب مصر، وبات الخليج هو الطرف الأقوى في العلاقة ومصر هي الطرف الأضعف، ويمكن القول عن هذا التحول الاستراتيجي أن مصر فيها كانت «براقش» التي جنت على نفسها، وكان انحدار مكانتها بيدها «لا بيد عمرو».
فهذا التحول الاستراتيجي في نمط العلاقة يعود أولا وأخيرا لاختيار مصر منذ 1974 لسياسات تتناقض مع حقوق شعبها ومع طبيعة دورها. فقد حولتها سياسات الانفتاح السائب بلا ضابط ولا رابط من دولة منتجة إلى دولة مستهلكة ومن دولة صناعية زراعية إلى دولة ريعية تعتمد على مصادر السياحة والبترول وقناة السويس وتحويلات المصريين في الخارج وهي مصادر بطبيعتها متذبذبة ومتأرجحة كطائرة ورقية في ريح عاصفة، فبات لديها عجز مزمن وفادح في الموازنة العامة والميزان التجاري لمدة خمسين عاما.. عجز لعبت دول الخليج الدور الأكبر مع مؤسسات الإقراض الدولية في سد الفجوة الدولارية وصارت جولات الرؤساء المصريين لدول المنطقة منذ هذا الوقت -بالتعبير المهذب الخجول- جولات رجاء ومناشدة لحكومات هذه الدول لضخ أموال في شرايين اقتصاد يختنق حتى يصل إلى عنق الزجاجة بشكل دوري كل فترة ويحتاج فيها إلى عملية إنقاذ سريعة مهما كان الثمن السياسي الذي سيطلبه المنقذ.
اعتمدت مصر منذ الرئيس أنور السادات وحتى الرئيس السيسي على المساعدات والقروض الخليجية بشكل متكرر، ووصل الرئيس السيسي في توصيف وتلخيص هذه العلاقة غير المتكافئة لصالح الخليج في 26 إبريل الماضي إلى حد اعتبر فيه أن مصر كانت ستسقط كدولة ووجود كيان يعبر عن ذلك بقوله «لولا مساعدات دول الخليج لمصر بعشرات المليارات من الدولارات بعد 2013 لما قامت لمصر قائمة».
ورغم أنه لم يسبق لأحد من أسلاف السيسي صياغة الاختلال في العلاقات مع الخليج إلى هذا الحد الموجع، فإن الإنصاف يقتضي القول أن جوهرها كان موجودا وموروثا منذ عهد الرئيس الراحل حسني مبارك الطويل البليد الذي عمق اعتماد مصر على دول الخليج خاصة بعد انتهاء المقاطعة العربية لمصر.
وقد لخص الكاتب الراحل مكرم محمد أحمد أحد كتاب خطب مبارك تلك الحالة في جملة شديدة الدلالة «كان الرئيس مبارك يطلع الملك عبد الله بن عبد العزيز على أي تحرك يقوم به».
لكي نعرف عمق تأثير الاختلال في العلاقة منذ 1974 لصالح الخليج منحا أو منعا لمصر يكفي أن نشير إلى أن واحدا من أكبر دوافع الرئيس أنور السادات في اتخاذ أخطر قرار في تاريخ السياسة الخارجية المصرية بزيارة القدس وإقامة سلام منفرد مع إسرائيل والذي قوض دور مصر الإقليمي ونقل مركز القرار العربي من القاهرة إلى الرياض وعواصم الخليج وهو قراره بزيارة القدس المحتلة كان في جزء كبير من دوافع اتخاذه هو الرد الانتقامي على ما اعتبره السادات إذلالا خليجيا له في جولة عام 1976، فبينما أمل منها الحصول على دعم مالي سريع ينجي رأسه من ورطة عجزه عن سداد الديون قصيرة الأجل فوجئ بأنهم ينصبون له محكمة عن إهدار وفساد نظامه لمساعدات الخليج التي انهمرت عليه بعد حرب أكتوبر.
كما تقول هذه الوثيقة النادرة للكاتب الراحل محمود السعدني الذي قابله لحظتها، فقال له حرفيا عن حكام الخليج ما سجله السعدني تليفزيونيا «ذلوني يا وله» موجها الحديث السعدني، «وأنا هخليهم يندموا على اليوم الذي ولدتهم أمهم فيه»، وكان يشير بوضوح إلى قراره الانسحاب من العالم العربي والارتماء في أحضان أمريكا وإسرائيل.
لكن الارتكان إلى الخلل المتزايد في ميزان القوى لصالح الخليج لما يزيد عن 45 عاما لا يصلح لوحده لتفسير ما اتسم به انفجار الأزمة الأخيرة من حالة «تلاسن و معايرة» مزعجة تكاد تكون غير مسبوقة سواء في مستويات المشاعر السلبية أو مستويات العنف اللفظي وانعدام التقدير المتبادل على الجانبين.
فما الذي تغير في قواعد اللعبة بين الخليج ومصر؟ ومن ثم يصبح ضروريا لكل مؤمن بمصيرية العلاقات (العربية – العربية) أن يجتهد في فهمها بما يسمح بالتعامل معها بعقلانية، حتى لا تندلع أزمة جديدة بينهما تقضي على أسس هذه العلاقة؟
هذا ما سنناقشه في المقال القادم.