كانت أولى رحلاتي الصحفية خارج مصر عام 1976، أي في بداية عملي بالمهنة، إلى السعودية والكويت، وذلك لتغطية زيارة الرئيس السادات إلى البلدين في فبراير من ذلك العام.

كانت الزيارة لغرض واحد ووحيد، وهو طلب معونة مالية عاجلة لتمويل شراء القمح، الذي أوشك مخزونه في مصر على النفاد.

في فندق زهرة الشرق بالرياض سمعت الصحفيين الكبار يتهامسون على موائد العشاء بأن الزيارة أخفقت، لأن السعوديين رفضوا تقديم المعونة العاجلة التي يطلبها الرئيس، وكان مصدر هذه المعلومة هو الأستاذ محمد عبد الجواد رئيس مجلس إدارة وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية الرسمية، والمعروف بقربه آنذاك من السادات، الذي فسر هذا الرفض بأن السعوديين يرون أنهم قدموا الكثير لمصر، وأنه آن الآوان ليعرف السادات أن الاستجابة لكل طلباته أوتوماتيكيا ليست من المسلمات.

كما تعرفون كان الملك فيصل قد اغتيل في العام السابق، واعتلى العرش السعودي الملك خالد، ولكن السلطة الفعلية كانت في يد ولي العهد الأمير فهد، الذي خلف خالدا على العرش فيما بعد. وكان رحيل فيصل يعني أن خلفاءه ليسوا ملتزمين -بلا قيد ولا شرط- بتعهداته للسادات، تلك التعهدات التي كانت ثمنا لانقلاب الأخير على سياسات سلفه جمال عبد الناصر في الداخل وفي الخارج، وفي الإقليم على وجه الخصوص.

في اليوم التالي في الكويت -وكما يذكر الأستاذ أحمد بهاء الدين في كتابه “محاوراتي مع السادات”- سبق بهاء الذي كان مقيما وقتها هناك كل المستقبلين إلى سلم الطائرة ليقول للرئيس عبارة واحدة هى: “المرة دي مافيش كاش ياريس”، وقيل فيما بعد إن الجانب الكويتي عرض أن يمول صفقات القمح التي تحتاجها مصر عن طريق الدفع مباشرة للموردين الخارجيين.

تذكروا أن ذلك جرى في فبراير عام  1976، كما سبق القول، والآن تذكروا أن انتفاضة الخبز اندلعت في مصر في يناير عام 1977، أي بعد أقل من عام واحد على إخفاق السادات في تأمين تمويل سعودي كويتي منتظم ومباشر للخزانة المصرية.

لنتذكر أيضا أنه بعد ثمانية أشهر من انتفاضة الخبز تلك قام السادات بزيارة إسرائيل، لتبدأ عملية كامب ديفيد، وتتقرر معونة أمريكية سخية لمصر في سياقها، تتلوها معونات أوروبية كانت هي أيضا سخية، فضلا عن المعونات والقروض الميسرة من المؤسسات الدولية المانحة والخاضعة للتوجيه الأمريكي، وهكذا جرى تعويم الاقتصاد المصري، وجرى أيضا تعويم نظام السادات رغم المقاطعة العربية لمصر في أعقاب زيارة رئيسها لإسرائيل، واتفاق الصلح معها.

كان ذلك هو الفصل الأول في قصة الأموال الخليجية ومصر.

أما الفصل الثاني، فقد بدأ هو أيضا بداية سعيدة، ثم انتهى سريعا بغصة مماثلة للغصة التي انتهى بها الفصل الأول، وكان السادات قد اغتيل، وتولى رئاسة مصر حسني مبارك الذي لم يكن قد أكمل عامه الأول في السلطة حتى وقع الغزو الإسرائيلي الشامل للبنان، بما في ذلك احتلال بيروت، وإجبار المقاومة الفليسطينية ومنظمة التحرير على الخروج إلى تونس، وهو ما أثبت وقتها إفلاس ما كان يسمى بجبهة الصمود والتصدي (العربية)، كما أحيا الدور المصري الإقليمي الفاعل، خاصة في القضية الفلسطينية، الأمر الذي مهد لزوال المقاطعة العربية لمصر، ليبدأ شهر عسل جديد في العلاقات المصرية الخليجية، كانت الريادة فيه للشيخ زايد رئيس دولة الإمارات العربية الناشئة والواعدة، ومن قبله السلطان قابوس سلطان عمان.

وهكذا استؤنفت المعونات الخليجية لمصر، وصحبتها بعض الاستثمارات المهمة، ولكن القليلة نسبيا، ومع ذلك فلم نكد نصل الي عام 1988 حتى راحت السكرة وجاءت الفكرة، عندما رفضت الكويت طلبا مصريا لمعونة جديدة (لشراء قمح أيضا)، وسط تفاقم المديونية الخارجية لمصر، بمعايير تلك الفترة.

وهو ما أدى -لأول مرة في تاريخ مصر الحديث- إلى الذهاب إلى صندوق النقد الدولي ونادي باريس للدائنين المتعثرين عام 1989، وذلك لإعادة جدولة ديونها، بما في ذلك بيع بعض هذه الديون لممولين جدد بسعر فائدة أعلى نسبيا من الدين الأصلي، وقد تكرر الأمر في عام 1992، ولكن، جاء الفرج من حيث لا نحتسب، عندما فاجأ صدام حسين الجميع بغزو الكويت، لتشارك مصر في تحريرها، فيأتي شهر العسل الخليجي المصري الثالث، وتقود الولايات المتحدة الأمريكية حملة لإعفاء مصر من نصف ديونها الخارجية تقريبا، سواء لدول نادي باريس، أو غيرها، مع إسقاط كل أو معظم المديونية العسكرية الأمريكية عن القاهرة.

ومع التحفظ على الفساد الذي يشتبه في حدوثه في مسألة بيع الديون المصرية، وارتباطها بالخصخصة، وكذلك مع التحفظ على السياسات التنموية لحكومات تلك الحقبة، فمن الإنصاف الاعتراف بحرص الرئيس مبارك على ضبط وترشيد الاقتراض الخارجي، وعلى التدرج في سياسات الإصلاح المالي، وفي التحكم في عجز الموازنة العامة، وسعر صرف الجنيه.

بدأ الفصل الحالي في قصة الأموال الخليجية ومصر -كما هو معروف للكافة- في سياق احتواء تداعيات ثورة يناير 2011، وهو ما أسفر عن علاقة خاصة بين نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، وكل من السعودية والإمارات على وجه الخصوص، وساهمت هذه العلاقة في تعويم الاقتصاد المصري في السنوات التالية للإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين، ثم كما حدث من قبل راحت السكرة وجاءت الفكرة، وسط تراكم التباينات السياسية مثلما ظهر في الأزمة اليمنية، أو في إجراءات تسليم جزيرتي تيران وصنافير للجانب السعودي، أو التنافس السعودي الإماراتي على الصدارة،  كما تراكمت التحفظات الاقتصادية على الأداء المصري، وسط تبعات أزمة الوباء العالمي (كورونا)، والحرب الروسية الأوكرانية، على خلفية أزمة مديونية حادة على مصر، أدت إلى أزمة معيشية بالغة الحدة بدورها.

من الاستعراض السابق للفصول الأربعة لقصة مصر والأموال الخليجية، لا مفر من الاعتراف بأن هذه علاقة غير صحية من الأصل، وبالتالى فهي غير مستدامة، إذ إنها بنيت على دفع أثمان لتحولات سياسية مواتية لمصالح دول وحكام الخليج في الدولة العربية الأكبر، داخليا وإقليميًا وعالميا، وبنيت من الجانب المصري على توقعات خاطئة باستمرار الخليجيين في دفع ثمن ما قد حصلوا عليه بالفعل، إلى ما لانهاية.

وعلى الرغم من وجاهة بعض التحفظات الخليجية على الأداء الاقتصادي المصري، وعدم منطقية إدانة مطالبتهم بمقابل لأموالهم من الأصول المصرية، فإن ذلك أيضا لن يقيم علاقة صحية ومستدامة ومقبولة من الشعب المصري، بمعنى أن شراء وبيع الأصول القائمة والعاملة بالفعل لن يؤدي إلى إضافة أرصدة وأصول إنتاجية جديدة في البلاد، تحقق التنمية التي تغني مصر عن المعونات والقروض في نهاية المطاف، ومن ثم تلغي أو تحد من غلبة الجانب المالي على علاقات الجانبين، بما يصاحبه من توترات وحزازات.

وفي الوقت نفسه يقع على الجانب المصري واجب ومسئولية تهيئة وتطبيع بيئة الاستثمار من خلال ضمان المنافسة العادلة، واجتثاث الفساد بكافة صوره، وتطوير الأداء البيروقراطي، وضبط وترشيد الاقتراض والإنفاق، وتركيز الأولويات على التعليم والتصنيع.

أخيرا أثبت الاستعراض السابق أيضا أنه من المستحيل ترتيب الأوضاع الإقليمية ترتيبا متوازنا في غيبة مصر وثقلها وخبراتها، كما أنه من المستحيل ترتيب هذه الأوضاع، فضلا عن التنمية في مصر وسائر المنطقة في غيبة دول الخليج، وكل ذلك دون تطرق للعمالة المصرية في الخليج ودور تحويلاتها النقدية في دعم الاقتصاد المحلي.

لذا يحتاج الطرفان إلى حوار استراتيجي صريح وجاد بينهما، يحل محل هذا النمط السائد حاليا، والذي يتراوح أو يترنح ما بين انفتاح وانقباض، وتفاؤل وتشاؤم، وما بين مغازلات ومشاحنات، في منطقة تموج بنذر الانفجارات، وفي عالم تتغير معادلاته، ويبحث عن ترتيب جديد لأوضاعه.