في شهر رمضان الماضي 2022، فوجئت نيفين صبحي مواطنة مسيحية، بصيدلي من قرية سبك الأحد بمركز أشمون محافظة المنوفية، يصفعها بالقلم على وجهها داخل الصيدلية، بعدما عنفها بأنها ترتدي ملابس “غير محتشمة” وتضع مساحيق تجميل في نهار شهر الصوم.
هل انتهت القصة بعمل محضر “4986” وإحالة المعتدي للنيابة لتأخذ القضية مسارها القانوني في دولة يحكمها القانون؟
لم تكن هذه هي النهاية المرجوة التي حدثت، فقد أُجبرت السيدة وزوجها ووالدها، تحت ضغط العائلة وأطراف كنسية. ذلك إضافة إلى الجيران وكل ما هو في مرمى القضية، على ترديد رواية الصيدلي، بأنه كان يمزح معها لا أكثر. وظهرت السيدة في صورة تجمعها مع أسرتها وأحد الكهنة والصيدلي المعتدي. وعلق كل من رأى الصورة بأن السيدة المعُتدى عليها التي حاولت الحصول على حقها بالقانون، تظهر منحنية الرأس بسبب الضغوط عليها لقبول الصلح.
فشلت نيفين صبحي، كغيرها من ضحايا العنف الطائفي، إضافة إلى كونها “سيدة” في مجتمع تحكمه الذكورية ينظر للمرأة كونها كائن اقل من الرجل ، في الحصول على حقها بالقانون. خضعت لضغوط وابتزاز كل الأطراف، الكنيسة وكبار العائلتين والشارع وجهات التحقيق، مستخدمين سلطة العرف والعادات والوصاية لتسوية الأمر.
في النهاية تنازلت عن حقها القانوني والاجتماعي. وعادت لمنزلها منكسرة.
الإفلات من العقاب
يشير مصطلح الإفلات من العقاب إلى مواقف لا توجد فيها إجراءات فعالة لمعاقبة الانتهاكات أو عندما لا تكون مثل هذه الإجراءات نافذة المفعول. وقد ينتج غياب العقوبة عن قرار سياسي وعفو أو عن نظام قضائي يعاني من ضعف الأداء أو في حالة تحلل.
وفي القانون الدولي، ينتج الإفلات من العقاب في معظم الأوقات عن غياب الآليات القضائية القادرة على الحكم نظرا لعدم الالتزام بأحكام راسخة. إذ غالبًا ما يجري تنفيذ العقوبات على الجرائم المرتكبة من قبل محاكم محلية، ولذلك يكون من الصعب بصورة خاصة تطبيق العدالة على جرائم الحرب أو الجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبها موظفون حكوميون أو أشخاص تحت إمرتهم في أوقات النزاع المسلح.
الإفلات من العقاب في الجرائم الطائفية تحديدًا، ورغم قلة المكتوب في هذه النقطة، إلا أنه يُعد أحد أسباب غياب العدالة وانتهاك حقوق الإنسان، وهو يقلل عن حق من قيمة الثقة في مؤسسات الدولة، ويرسخ لغياب القانون. كما أنه يساعد على تكرار هذه الأحداث التي تدفع بالمجتمع إلى الانطواء على تخلفه الثقافي، وانحدار قيم المساواة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية.
اقرأ أيضًا: قضيب العدالة في قضايا العنف ضد المرأة
التراخي يفاقم الأزمة
“تكرار الحصول على البراءات في القضايا الخاصة بأحداث العنف الطائفي ما هو إلا (افتراءات) يجب أن تنتهي بتطبيق القانون على المخالفين”؛ يعلق جورج إسحاق عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان. ويضيف في حديثه لـ”مصر 360″، أن المناخ العام سيئ فيما يتعلق بالحريات. بل ويساعد على زيادة مثل هذه الاختراقات القانونية والدستورية، ويزيد من ظاهرة اللجوء للجلسات العرفية لإنهاء النزاع بين الأطراف المتنازعة.
ويتفق معه إسحاق إبراهيم، الباحث المتخصص في شؤون الأقباط بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إذ يوضح أن “تكرار البراءات في حوادث العنف الطائفي هو انتهاك للدستور والقانون وانتقاص من حق المواطنين في التقاضي لرفع الضرر عنهم. وكذا انتهاك للوصول للعدالة والمساواة، يعطي رسالة للمعتدي بأنه في مأمن إذا كرر هذا الاعتداء مرة أخرى”.
“يشعرالمظلوم بأنه مواطن من الدرجة الثانية ويفقد الثقة في الحصول على حقه بالقانون، لمعرفته بالنتيجة مسبقا”. يضيف إبراهيم.
عُنف ممنهج
في فترة السبعينيات من القرن الماضي، توغلت الجماعات الإسلامية في ربوع مصر، بعدما سمح لها الرئيس الراحل محمد أنور السادات بالتمدد لمواجهة تيار اليسار والمثقفين المعارضين. فكانت بداية هجمة شرسة وعنف ضد المسيحيين، لم يُحاسب شخص واحد حينها على واقعة واحدة منها. ذلك وفق ما بينته ورقة للباحث المتخصص في شؤون الأقباط سليمان شفيق.
أحداث الخانكة 1972 كانت البداية، وامتدت حتى 1976، ثم انتقل مسلسل العنف في المرحلة 1977-1981، إلى المواجهة المسلحة والإيذاء البدني للأقباط، مثل حادث مقتل القس غبريال عبد المتجلي كاهن كنيسة الملاك غبريال بقرية التوفيقية بمدينة سمالوط بالمنيا عام 1978. وقد انتهت تلك المرحلة بمقتل الرئيس السادات في 6 أكتوبر 1981 على يد جماعات العنف المسلح هذه.
بلغت نسبة العنف الموجه ضد الأقباط في هذه المرحلة 68% من إجمالي عنف الجماعات المتطرفة -وفق شفيق- الذي رأى أن المناخ العام فيما يخص الحواث الطائفية يجري حسب ترتيبات الجهات الأمنية للأوضاع.
يقول شفيق، لـ “مصر 360”: “هناك أزمة وارتباك في مواجهة سيطرة النفوذ الرجعي والتطرف خاصة في صعيد مصر لبعض القبائل والقوى التى تتغلب على الضعفاء. وكذلك في تعدد مصادر التعليم بين ديني ودولي ومدني. وفي التمييز داخل المناهج، وانتشار المدارس التى تمنع الاختلاط وقبول غير المسلمين”.
أرضية العُنف الطائفي
وفق الورقة، بلغ حجم الحوادث الطائفية الكبرى في عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك 10 مذابح، راح ضحيتها ما يقارب 320 قتيلًا من المسيحيين، و811 جريحًا. ذلك إضافة إلى استحلال أموال وممتلكات 1384 قبطيًا، تم نهب ممتلكاتهم أو إتلافها وحرقها في حوادث عدة، والاعتداء وحرق وهدم 103 كنائس في الفترة من 1981 وحتى إسقاط الرئيس الأسبق في 2011.
يعطي الكاتب والمفكر كمال زاخر وزنا كبيرا للأرضية الاجتماعية والثقافية التي تساعد على وجود هذه الأحداث، وتشعلها من وقت لآخر. ومنها مكونات “العقل الجمعي” للمجتمع كالتعليم والثقافة والعُرف والقبلية السائدة خارج العاصمة بالريف. وأيضًا، سيطرة رجال الدين والفكر الديني التمييزي الاستعلائي على الخطاب الاجتماعي بالشارع على أرضية طائفية دينية.
اقرأ أيضًا: اللجان العرفية “تنهي” أحداث البرشا .. مواجهة الطائفية بـ”التساهل”
يشخص زاخر الخلل الثاني في تكرار أحداث العنف ضد الأقباط، بأنه يأتي بسبب حالة (الاستنفار) ضد فكرة المواطنة في النظام الإداري، بداية من عمدة القرية حتى سلطة المحافظ وتحويل القضايا إلى “طائفية”. بينما لابد أن يتم التعاطي مع الأحداث من منطلق مبدأ سيادة القانون والابتعاد عن المنطلقات القبلية في حلها، واستخدام أدوات التنشئة في غرس قيم التسامح، وقبول التنوع والتعدد والاختلاف، والإيمان بقيم المساواة بين الجميع، وإعلاء قيمة المواطنة.
وتُرجِع مارجريت عازر، وكيلة لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان سابقًا، تكريس العنف والطائفية بالمجتمع إلى تعاطي بعض المؤسسات مع الخلافات والحوادث الاجتماعية بين مختلفي الديانة، على أنها حوادث طائفية وتحويلها إلى جهاز الأمن الوطني. وهذا ما يؤدي إلى الانقسام المجتمعي.
سيدة الكرم.. تعويض المعتدي
فى 2016 نشب خلاف طائفي بين عائلتين بقرية “الكرم” بمركز أبو قرقاص محافظة المنيا، بعد تواتر رواية عن علاقة بين ابن السيدة سعاد ثابت “مسيحي” وجارته المسلمة، تطورت الأحداث إلى الاشتباك بين الطرفين، وتم حرق عدد من منازل الأقباط، والاعتداء على والدته (70 عامًا)، التي لُقبت بـ “سيدة الكرم” بعد تجريدها من ملابسها بالشارع بغرض تجريسها.
أصدرت محكمة جنايات المنيا في يناير/ كانون الثاني 2020 حكمًا بالسجن المشدد عشر سنوات غيابيًا للمتهمين الثلاثة. وهم: “إسحق أحمد عبد الحافظ، ونجليه نظير وعبد المنعم”. وهو الحكم الذي ألغته المحكمة نفسها بدائرة مغايرة في ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، بعد القبض على المتهمين. وقضت ببراءة المتهمين الثلاثة.
وفي 12 من شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، أيّدت محكمة النقض حكم محكمة جنايات المنيا، ببراءة المتهمين الثلاثة. وهو ما فتح الباب- عن إمكانية قانونية بما يشبه السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي- بأنه يحق للمتهمين الثلاثة إقامة دعوى تعويض على السيدة التي تمت تعريتها في الشارع.
كغيرها من النساء، كانت سعاد ثابت ضحية باعتبارها إمرأة وفي ذات الوقت تنتمي للأقلية، أن تكون الحلقة الأضعف في مجتمع لا زال ذكوريا ولا يخلو من طائفية متغلغلة في كثير من مؤسساته الحيوية، فضاع حقها. وكغيرهم من المُعتدين أفلتوا من العقاب.
يلقي زاخر بالمسئولية على الخطاب الإعلامي وانخفاض سقف حرية التعبير الذي يكرس لمثل هذه الأحداث الطائفية، ويفاقم حالة الاحتقان، مع وجود أطراف عديدة تختطف القضايا من هذا النوع إلى مربع طائفي لتأجيج الأوضاع.
أرقام للعُنف الطائفي
وفقا للرصد الذي أجراه الباحث سليمان شفيق، فقد سقط 10 قتلى في حادث كنيسة العذراء بأبو قرقاص بالمنيا سنة 1997. وفي حادث كوم الزهير بأبو قرقاص في المنيا سقط اثنان في العام نفسه. وكذلك، في أحداث الكشح 2000 سقط 21 قتيلًا. وفي حادث العمرانية بالجيزة 2009 سقط 3 قتلى. بينما في أحداث نجع حمادي بالصعيد 2010 سقط 6 قتلى. وفي حادث كنيسة القديسين بالإسكندرية 27 قتيلًا. أما في مذبحة ماسبيرو 2011 فقد سقط 27 قتيلًا. وكذلك، سقط 9 أقباط قتلى أثناء احتشادهم في مظاهرة بمنطقة المقطم 9 مارس 2011 بعد اتهامهم بأنهم قطعوا طريق الأتوستراد لأكثر من ساعتين، بسبب احتجاجهم على حادث الاعتداء على كنيسة الشهيدين بقرية صول بأطفيح بالجيزة، ما أدي إلى إطلاق مجهولين النار عليهم.
يشير الباحث سليمان شفيق، إلى أنه في كل هذه الجنايات لم يقدم أحد للمحاكمة، باستثناء مذبحة الكشح 2000، ورتبت حينها الشرطة القضية بحيث لم يكن أمام القضاة سوى الحكم على المتهمين بالبراءة. وكذلك إدانة مرتكبي مذبحة نجع حمادي، أحدهم يسمى حمام الكموني، الذي قاد سيارته وأطلق النيران بشكل عشوائي على تجمعات الأقباط في ثلاثة أماكن مختلفة، ما أسفر عن مقتل 6 أقباط وعضو فريق تأمين الكنيسة من المسلمين، وإصابة 9 آخرين أثناء خروجهم من قداس عيد الميلاد، ما تسبب في أحداث شغب، استمرت لعدة أيام بين المسلمين والأقباط عام 2010.
في مقابل ذلك، تشير مي صالح، رئيس الوحدة القانونية بمؤسسة المرأة الجديدة، إلى ضرورة إطلاق “مفوضية مناهضة التمييز” التي نص عليها دستور 2014، ونادت بتأسيسها العديد من المنظمات الحقوقية والمجتمع المدني والأحزاب وقدموا مسودات قانون لإنشاءها لإنهاء تكرار حوادث العنف الطائفي، ولكن تم تجاهلها.
تؤكد صالح أن غياب العدالة الناجزة وغياب المساواة في تطبيق القانون وإلحاق العقوبة بالجناة يسمح بتكرار الحوادث الطائفية. ما يؤدي بالنهاية إلى إضعاف سلطة القانون وكسر هيبة الدولة.
الجلسات العرفية
وفيما يقول الباحث في المبادرة المصرية “إسحاق إبراهيم”، أن الجلسات العرفية التي تحدث عقب كل حادث طائفي، تعكس توازن القوى بين الأطراف. حيث يتمكن الطرف الأقوى، وهو عادة من الأغلبية المسلمة، الذي يملك النفوذ وتأثير العشيرة من فرض النتائج التي وصفها إبراهيم بأنها تأتي دائمًا منتهكة للحقوق الدستورية، مثلما يحدث من غلق كنيسة أو تهجير أسرة مسيحية.
من جانبها تشير سميرة لوقا، رئيس قطاع الحوار بالهيئة القبطية الإنجيلية وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، إلى الضغوط العرفية والقبلية التي تقع على الحلقة الأضعف اجتماعيًا، وهي السيدات، بالنهاية ترضخ السيدات لعملية الإجبار على التراضي. ومن هنا -تؤكد لوقا- على دور المسئولية الاجتماعية في دعم النساء المٌعنفات.
وتبين صالح إن لسلطة حكم العرف قوة أكبر من سلطة القانون في القرى والنجوع والمناطق النائية، يعتمد عليها الناس لكونها ناجزة مقابل عدالة القانون البطيئة. لكنها ناجزة ضد الطرف الأضعف من النساء والأقباط في حالة الطائفية، وفق الحوادث والمشاهدات.
وهي ترى أن غياب وسائل الحماية والخوف من التتبع والاعتداء يدفع الضحايا للاستجابة للمجالس العرفية للتصالح أو التنازل في أقسام الشرطة، لحماية “الضحية” أو أسرتها من انتقام مستقبلي قريب. والمعضلة في نظر سميرة في معظم الحالات إن لم يكن في جميعها أن من يتحدث بصوت الضحية وغالبا ما يكونوا الأهل، لا يراعي مصالحها وحالتها النفسية. فقط يفكر في إنهاء الخلاف بأي طريقة تجنبا لمشاكل أو انتقام قد يأتي سريعا.