واحدة من أهم نتائج ثورة يناير أنها بشرت بإحياء السياسة في مصر في مناخ يبدو ديمقراطيًا، وتحت ظلال مشاركة شعبية واسعة، لم يستمر الأمر طويلًا، وسرعان ما تآكلت الآمال التي ابتعثت مع الثورة، وضاقت الحريات السياسية، وتمت عملية إزاحة المناخات التي بشرت بتمكين معارضة سياسية فاعلة ومؤثرة، واليوم بعد عشر سنوات تجد المعارضة نفسها أمام واقع مأزوم، وخيارات صعبة، ومناخات غير مواتية.

ليس أمام المعارضة الجادة غير إلقاء نظرة أفق على المسار الذي دخلته منذ 2013 حتى اليوم، والمهمة المطروحة عليها ثقيلة وملحة وضرورية، مهمة التوافق على خارطة البدائل المطروحة للخروج من الأزمة المستحكمة، خارطة تعبد الطريق إلى جمهورية جديدة على الحقيقة.

كثيرًا ما كنت أكتب إن معارضة المعارضة حكومة، واليوم صرت أقول إن مراجعات المعارضة صارت أهم من مراجعات الحكومة، خاصة وأن الأيام والواقع يثبتان بما لا يدع مجالًا لشكٍ أو شكوك في أن الحكم ماضٍ في طريقه بدون أي توقف للمراجعة، ومن دون أي إحساس بضرورة التراجع.

**

الأمل معقود على معارضة تكون قادرة على طرح البديل، بدون هذا فالأوضاع المأزومة حد الخطر ستبقى قائمة، وهي مرشحة لأن تشتد حدتها، ولن تكون قابلة للحلحلة بدون معارضة قوية، ومنظمة، وموحدة، تشكل قاطرة للخروج من كل هذه الأزمات.

بقاء حال المعارضة على ما هي عليه ليس في مصلحة أحد، ولا حتى في مصلحة السلطة، وبالتأكيد لن يكون هذا الحال في مصلحة الوطن.

المعارضة تجد نفسها محشورة بين حالٍ سياسي يفتقد أدنى مقومات صناعة توافق وطني عام بين معارضة مسئولة وسلطة رشيدة، وصحيحٌ أن المعارضة تواجه عدوانًا مستمرًا على الحريات العامة وانتقاصًا من حقوق المواطنين، وعداوة مستحكمة ضد المعارضين، وسجونًا مفتوحة في كل وقت وحين.

المجال العام يكاد يكون مسدودًا بدون أمل في انفتاح سياسي حقيقي، وتواجه المعارضة صدودًا من السلطة، وتجد نفسها في حالة تناطح مع صخرة العناد السلطوي، الذي قد يدفع بها إلى مفارقة لا رجعة فيها بين النظام ومعارضته، وهو خطر لا يمكن المجازفة بالوقوع فيه.

**

رغم ذلك فإن أحدًا لا يمكن أن يعفي المعارضة من مسئوليتها عن تجاوز أزماتها، ولا يمكن لأي متابع منصف أن يغفل الأسباب التي تضع المعارضة في مكانة أقل من الطموح المعقود عليها.

من ينظر إلى الحالة الكادرية في الأحزاب المصرية بما فيها أحزاب اليسار التي اشتهرت طول تاريخها بامتلاكها لكوادر سياسية عميقة على المستوى الفكري، ومزودة بتجارب سياسية متعددة، لكن حال أحزابنا اليوم يشي بأن حالتها الكادرية ليست على المستوى المطلوب.

لا أقول إن المعارضة مسئولة عن انعزالها عن المواطنين، لأن الحقيقة أنها معزولة، لكني أجازف بالقول إنها مسئولة عن تفرقها وتشتتها وانقساماتها وضعف قوتها، وهوانها على السلطة.

**

الأمل في المعارضة رغم كل هذه الأوضاع المعقدة يفرض عليها ألا تترك فرصة متاحة بدون أن تحاول تعظيم إمكانيات نجاحها، وفي نفس الوقت لا تكون أسيرة هذه الفرصة.

الحوار الوطني جاء كفرصة لا يمكن التغافل عنها، وفي الوقت نفسه لا يجب أن تكبل حركة المعارضة أو تضعها في خانة لا تخرج منها إلا بشروط النظام.

قوة المعارضة ووحدتها ووضوح رؤيتها وتوافق مكوناتها الصلب تجاه تلك الأوضاع المأزومة هي التي يمكن أن تحول الحوار الوطني إلى فرصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهي التي تضمن ألا يتحول الحوار إلى «مكلمة»، لا فائدة تُرجى من ورائها، ولا أمل في أن تنقلنا نقلة جديدة تسمح بالمشاركة الفعَّالة لقوى المعارضة في صناعة القرار الوطني.

**

المعارضة لا تعني مفاصلة مع السلطة، ولكنها بالضرورة لا تعني الانطواء تحت جناحيها (العصا والجزرة)، لابد لها في هذه الأوضاع أن تجترح اختراقًا بين هذين الوضعين، مغادرة وضع الوجود بلا فاعلية، وعدم الذهاب بعيدًا بما يعرض المصلحة الوطنية لأي أخطار.

المعارضة التي قبلت المشاركة في الحوار الوطني بعد دعوة الرئيس إليه، ما لبثت أن وجدت نفسها أمام وضع معقد، إزاء موقفين أحلاهما مر، إن لم تُقبل على الحوار الوطني المدعوة إليه تنعزل، وتعزل نفسها، وإن قبلت تنخرط في لعبة لا تملك أن تتحكم في شروطها، وليس في يدها تحديد قوانينها وقواعدها.

**

السؤال الذي يجب أن يكون الآن على طاولة المعارضة المصرية الممثلة حاليًا في الأحزاب والقوى والشخصيات المكونة للحركة المدنية الديمقراطية هو:

ـ لماذا دعت السلطة إلى حوار لا يبدأ؟، وإذا بدأ لن يكتمل إلى غايته المرجوة، ولن ينتهي إلى نتائج حقيقية كما تتوقع أغلبية مكونات الحركة المدنية؟

هذا السؤال المركب يطرح أزمة المعارضة في الوقت نفسه الذي يفصح عن أزمة السلطة.

سلطة مضطرة إلى الدعوة للحوار، ومعارضة متطلعة إلى الجدية في الحوار، ولكنهما لا يلتقيان.

سلطة لا شيء يشي بأنها تنوي -حسب الشواهد وهي كثيرة- أن تشرع في حوار جدي وفعال ومؤثر في تعديل الخيارات، وتصحيح المسارات وتحديد الأولويات وتغيير السياسات.

ومعارضة لا تقدر -حسب أوضاعها وقدراتها وقوتها الراهنة- على أن تدفع باتجاه تحسين الأداء العام، وفتح المجال العام، والأفق السياسي، وتحسين مواصفات الحياة السياسية في بر مصر.

**

تبدو السلطة متجاهلة، وتبدو المعارضة عاجزة.

تبدو السلطة غير حريصة على تحويل فرصة الحوار الوطني إلى إمكانية حقيقية لتجاوز أزمات الوطن وتحشيد قوى المجتمع لمواجهة شاملة مع مشكلاته.

وتبقى المعارضة حريصة كل الحرص على عدم تفويت (أي فرصة) وعدم إهدار أي إمكانية (قد تسفر عن البدء في مسار التحول الديمقراطي، والإصلاح السياسي والالتزام الدستوري من جانب كل مؤسسات الدولة) حسب نص بيان الحركة المدنية الديمقراطية الأخير.

لا تبدو أية بوادر تشير إلى أن السلطة قابلة لحوارٍ يُفضي إلى أفكار مثل التحول الديمقراطي، والإصلاح السياسي، والالتزام الدستوري.

ولم يظهر على المعارضة أي علامات تدل على قوتها وقدرتها على المضي قدمًا على طريق التحول الديمقراطي، وهي التي ضيعت الفرصة في وقت كانت فيه الظروف السياسية مبشرة أكثر ألف مرة مما هي عليه الآن، وكان المناخ العام ما يزال أفضل عشرات المرات مما عليه اليوم.

المعارضة التي تظل أسيرة عطاءات النظام، إن شاء أعطى واقترب، وإن أراد أبعدهم وتركهم في عراء الأمل الكاذب، لا يمكن أن تكون هي البديل الذي يتطلع إليه الوطن.

**

على مدار الشهور التسعة الماضية طرحت المعارضة على نفسها فكرة تجميد مشاركتها في الحوار، وظلت تطالب كل يوم بضرورة اتخاذ خطوات ملموسة لتحسين المناخ السياسي، وبقيت طوال الوقت تتطلع إلى تسريع وتيرة عملية الإفراج عن سجناء الرأي والمحبوسين حبسًا احتياطيًا فاقت مدته المدة المنصوص عليها في القانون، والإفراج عن كل السجناء في قضايا تمس حرية الرأي والتعبير.

بمرور الزمن، من دون إنجازات حقيقية على صعيد الحوار تستشعر المعارضة -ولها كل الحق- بضرورة وأهمية أن تقدم السلطة من جديد على تعزيز الثقة المفقودة، وتبديل المناخات الملبدة.

وبمرور الوقت من دون تحقيق اختراق حقيقي على صعيد الحوار يُفقد الرأي العام اهتمامه بالحوار والمتحاورين، أقول يفقد اهتمامه حتى لا أقول يفقد ثقته في الموضوع برمته.

والسؤال لمصلحة من هذا الوضع؟ ولمصلحة من استمراره؟

**

على مقربة انتهاء سنة على انطلاق الدعوة للحوار الوطني ما تزال الحصيلة الكثير من الإجراءات، والقليل من الإنجازات، كلها حصيلة إجرائية لم تتعد القيام بالعديد من الاجتماعات والترتيبات التي لم تسفر عن شيء يقدم للمواطن الذي تطلع إلى حوار يخرجنا من كل تلك الأزمات.

المواطن الذي يعاني اليوم مردودات ونتائج أزمة اقتصادية خانقة، ويكاد يسابق الزيادة المطردة في الأسعار كل يوم، لم يعد يعنيه حوار لن يقدم له لقمة عيش كريمة، وحياة أقل إرهاقًا على مستوى معيشته اليومية.

بعض المعارضة تسميه “حوار جملي” يستغرق وقتًا طويلًا حتى يستوي، وصل إلى شهره التاسع بدون أي ملامح تؤكد وجود جنين قابل للحياة، أو تشير إلى أن وضع الحمل صار قريبًا.

 والمشكلة أن الطبخة نفسها باتت (بايتة)، في حاجة إلى إعادة تسخين، وأظن أن هذه مهمة تقع على عاتق المعارضة كما أنها تدخل في صميم رشادة السلطة.

**

البعض يتحدث عن أزمة ثقة بين المعارضة والسلطة، ما يعني افتقاد الثقة الناتج عن ممارساتها على مدار السنوات السبعة الماضية، والتي تتلخص في التضييق المستمر على أي معارضة للنظام، ومطاردة كوادر المعارضة وقيادتها وسجن الكثير من المنتسبين إليها.

والحق أنها ليست أزمة ثقة فقط، هي على الحقيقة أزمة اعتراف، لا شيء يدل على أن المعارضة تحوز على اعتراف حقيقي بدورها من جانب السلطة، التي تود لو أنها تبشر في يوم قريب بموت المعارضة ودفن السياسة.

البادي أن نظرة السلطة إلى المعارضة تدل على أنها زائدة سياسية، ولسان حال السلطة يكاد يصرح بأمنيته في أن يقتطعها من الجسد السياسي المصري.

**

المجتمع المدني المصري بكل مكوناته (أحزاب/نقابات/ جمعيات / منظمات حقوقية) هو خارج حسابات السلطة، وحسابه الوحيد عندها هو التضييق عليه، والحد من انشطته وتكبيل قدرته على القيام بدوره الذي يحفظه له الدستور.

ثلاث قضايا رئيسية مطروحة على قوى المجتمع المدني وفي القلب منه المعارضة السياسية، أولها قضية المراجعات، وثانيها قضية الانقسامات، وثالثها قضية التحالفات.

تعامل قوى المعارضة وبقية قوى المجتمع المدني مع هذه القضايا هو الذي سوف يحدد مصيرها ومستقبلها ودورها في الحاضر والمستقبل.

**

كل قوى المجتمع المدني، وبالأخص القوى السياسية والأحزاب الوطنية الديمقراطية في حاجة حقيقية وضرورة ملحة لإجراء مراجعة شاملة، تشمل الأفكار والسياسات والمناهج الحركية التي تقود حركتها في مجتمع صار متغيرًا بشكل كبير حتى يكاد يختلف عن صورة وهيئة وطبيعة وتكوين المجتمع قبل يناير 2011.

واحدة من أهم نتائج ثورة يناير أنها غيرت خريطة السياسة، وشكلت من جديد الخرائط الاجتماعية في مصر، ولم يعد مجتمع ما قبل يناير هو المجتمع بعده.

والمراجعات المطلوبة لا تعني التنازل عن الأفكار، ولكنها تعني إعادة صياغتها تبعًا للظروف المستجدة، والأوضاع الجديدة، والتحديات التي لم تكن في الحسبان.

هي مراجعات ليست للتنكر من ثوابت القوى الوطنية، وأفكارها، ولكنها للتخلص من الوزن الزائد عن الحاجة في تلك الأفكار، والتخلص من الدهون الي تراكمت حول خصرها، وباتت تثقل حركتها، وتعيق انطلاقتها.

**

قدرة أي نظام سياسي على البقاء مرهونة بإتاحة مساحة للمعارضة، وقدرة أي معارضة على التأثير مرهونة بإعادة تنظيم نفسها لتحقيق أكبر استفادة من هذه المساحة.

من هنا يبقى التحدي الأساسي أمام المعارضة هو فتح المجال العام، وإحياء السياسية، الأمر الذي يلزمها بإعادة التنظيم الداخلي وإعادة صياغة التحالفات والعمل على إفراز قيادات جديدة.

الوجود الفعال للمعارضة المصرية وانفتاح السلطة على ما تطرحه المعارضة ربما يكون هو المدخل إلى تجديد الشرعية السياسية لسلطة تضررت شرعيتها وتأثر الرضا العام عن سياستها حتى كاد ينفذ رصيده.

وأي نظرة غير منحازة وموضوعية على منسوب الرضا العام على سياسات السلطة وانحيازاتها سوف تقودنا إلى أهمية وضرورة وحتمية أن تتقدم السلطة خطوات واسعة لتلتقي مع طلبات المعارضة وتستجيب للكثير من طلباتها وتنفتح على أطروحاتها السياسية والاقتصادية بعقل مفتوح ورغبة صادقة في تجاوز أزمات الوطن وتأمين مستقبله.

**

المعارضة في حاجة ماسة إلى تعديل أوضاعها بما يمكنها أن تكون أكثر تأثيرًا، والسلطة في حاجة ماسة إلى تجديد شرعيتها، واستعادة الرضا الوطني عن سياساتها التي لم يعد ممكنًا القبول الشعبي باستمرارها على الحال التي هي عليها الآن.

والحق أن المعارضة مارست طوال الشهور التسعة الماضية رشادة في التعامل مع دعوة الحوار، ومسئولية في الأداء السياسي المنضبط.

رشادة المعارضة هي من قبيل التحية التي يجب على السلطة أن ترد عليها برشد أحسن منها.