“الغش التجاري” ظاهرة لا تفنى ولا تستحدث من عدم، لكنها تستفحل في أوقات الأزمات الاقتصادية بسبب جشع المصنعين والتجار الذي يواكب هذه الأزمات مع اضطرار وحاجة المواطنين للوصول إلى أسعار في متناول اليد، حتى في ظل معرفتهم بأن المنتج الذي يحصلون عليه يتم تصنيعه بعيدا عن أعين الرقابة.

تحت أعمدة كوبري بولاق أبو العلا بوسط القاهرة، يتوافد قطاع عريض من السيدات لشراء مستلزمات التجميل والعناية الشخصية من باعة يفترشون الأرض، بعضها يحمل علامات تجارية لشركات عالمية تُباع في محال العطور بآلاف الجنيهات، لكنها على الأرصفة بأسعار تتراوح أسعارها بين 30 و70 جنيهًا.

يتكرر الأمر ذاته في شوارع منطقة حمام التلات بحي الجمالية بمصر القديمة والموسكي بوسط القاهرة وشارع أبو طالب في حي دار السلام بالقاهرة، التي تبيع جميعها منتجات للتجميل والعناية الشخصية بأسعار زهيدة، ويقبل عليها الآلاف من المواطنين يوميًا خاصة الفتيات المقبلات على الزواج، والبعض يأتي إليها خصيصا من أماكن خارج القاهرة بسبب أسعارها الاستثنائية.

ارتفع معدل التضخم السنوي بمصر ليبلغ نحو 24.4% في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسط ارتفاع للأسعار لم تشهده مصر من قبل وذلك بحسب البيانات الرسمية، ما دفع المصريون للإقبال على المنتجات رخيصة الثمن.

مغشوشة أم أقل جودة؟

خلال شهور قليلة، ضبطت أجهزة الأمن بالقاهرة 92 ألف عبوة مستحضرات تجميل مجهولة المصدر داخل مخزن غير مرخص في الموسكي لا تتضمن مستندات تدل على مصدرها وكثير منها مُقلدة لماركات عالمية، كما ضبطت صاحب مصنع لإنتاج وتعبئة مستحضرات التجميل بمنطقة السلام شرقي القاهرة وبداخله 13 ألف عبوة مستحضرات “منتج نهائي” و1.4 طن مواد كيماوية و640 كيلو جرام خامات، و100 كيلو جرام مكسبات رائحة “جميعها مجهولة المصدر وبدون مستندات تدل على مصدرها”.

في شارع أبو طالب بدار السلام، يقول “محمود. ع”، صاحب محل بيع مستلزمات تجميل وكريمات، إن الماركات المستوردة أعلى بكثير من قدرة الجمهور الذي يبحث عن منتجات أرخص، مضيفًا أن البضاعة التي يبيعها ليست رديئة أو مغشوشة ولكنها أقل جودة، مثلها مثل أي منتج تختلف أسعاره وفقا لبلد المنشأ وحجم المصنع وشهرته.

يضيف محمود أن الأمر شبيه بسوق الدواء الذي يوجد به العديد من الأدوية للمرض ذاته وكلها مختلفة في الأسعار، رغم أن المادة الفعالة واحدة، لكنه حذر في الوقت ذاته من وجود باعة على الأرصفة لديهم منتجات مقلدة على عكس المحال التجارية التي تخضع لرقابة وتفتيش من الأجهزة المحلية.

محمود الدجوي رئيس شعبة مستحضرات التجميل
محمود الدجوي رئيس شعبة مستحضرات التجميل

محمود الدجوي، رئيس شعبة مستحضرات التجميل، يؤكد أن السلع المقلدة تتضمن مواد سامة وشديدة الخطورة على الصحة العامة، وتستغل الفتيات الفقيرات بجذبهن لشراء منتجات زهيدة السعر، في حين أن تكلفة علاج  آثارها المرضية مرتفعة جدًا، بداية من حساسية الجلد والطفح والحروق، مرورًا بالتهاب المعدة، فالتهاب العينين وقد تصل للإصابة بالعمى بسبب امتلائها بمواد كيميائية وبكتيريا.

تجمع بعض ورش “بير السلم” الصغيرة عبوات المنتجات الأصلية الفارغة من نباشي القمامة الذين يجمعونها ليتم غسلها وإعادة بيعها بعد وضع ملصقات جديدة عليها، بينما المصانع الأكبر فتقوم بتصنيع العبوات من الأصل، وذلك غير البضائع المغشوشة التي تدخل مهربة وهي منتشرة أيضًا في السوق وتحمل أسماء علامات تجارية مغمورة ووهمية أو تشبه الأصلية مع اختلاف بسيط في المسمى.

أرقام ضخمة

بحسب غرفة التجميل، فإن حجم تجارة مستحضرات التجميل المغشوشة تناهز 60%، وأكثر المنتجات المزيفة الموجودة بالأسواق هي كريمات فرد الشعر المكونة من الفورمالين وتصيب الشعر بالسقوط أو تؤدي مع كثرة الاستخدام للسرطان، وأحمر الشفاه المغشوش الذي يتداخل مع اللعاب ويصيب بأمراض باطنية أقلها قرح المعدة، وبعض تلك المنتجات تسبب سرطان الدم ولها تأثير شديد الخطورة على الكلي.

يقول الدجوي إن الأمر يتطلب حملات توعية للمواطنين بعدم الإقبال على تلك المنتجات مهما كانت أسعارها رخيصة خاصة أن البعض يتلاعب بعبارة “خالية من الفورمالين” لجذب الجمهور، ما يتطلب تحركًا من الجهات الرقابية وحماية المستهلك، وتغليظ عقوبة بيعها فعقوبة الغش الحالية غير رادعة، علاوة على تسهيل استيرادها لضبط أسعارها في السوق بعد زيادتها بسبب ارتفاع سعر الصرف.

ويبلغ حجم سوق مستحضرات التجميل بمصر سنويًا 40 مليار جنيه، متفوقًا على قطاع الدواء بنحو 6 مليارات جنيه، وتستورد مصر أدوات التجميل بأكثر من 9 مليارات جنيه، بالإضافة إلى منتجات للعناية بالبشرة واليدين والقدمين بنحو 746 مليون جنيه، بحسب إحصائيات غرفة التجميل.

توصيفها كمنتجات كمالية

وشهدت أسعار مواد التجميل ارتفاعات قياسية بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الجنيه من ناحية ونقص المعروض منها بالسوق بسبب توصيفها كمنتجات كمالية وتأخير فتح الاعتمادات المستندية الخاصة بها، ومن ناحية أخرى زيادة سعر النفط والمواد الخام مثل الزيوت التي تدخل في صناعتها، فضلاً عن تكلفة الشحن والنقل من بلد المنشأ.

تأتي غالبية منتجات التجميل المستوردة من أوروبا خاصة بولندا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا بجانب الصين وبنجلاديش والإمارات، بينما تعاني الشركات المحلية في المقابل من عدم القدرة على التسويق، فمنتجها أعلى سعريا من قدرة الطبقات الفقيرة والمتوسطة، والطبقات الثرية تفضل المنتج المستورد المعروض في التوكيلات التجارية الشهيرة.

بحسب دراسة حديثة فإن منتجات التجميل المستوردة احتلت المرتبة الأولى في المنتجات المستوردة التي توقف المصريون عن شرائها بنسبة 65%، والبحث عن بدائل محلية رخيصة لها، وأعلنت بعض الشركات عن حصرها للمنتجات المستوردة من الخارج التي انخفض المعروض منها بالسوق من أجل طرح منتجات بديلة.

المستهلك لا يستجيب للتحذيرات

جهاز حماية المستهلك أعلن أكثر من مرة أنه يتتبع مصادر تصنيع المنتجات المغشوشة، والتي يتم بيعها في الأسواق أو من خلال صفحات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، بالتأكد من أن يكون المنتج مكتوبا بطريقة واضحة على الملصق الخارجي، وأن يتم ذكر العلامة التجارية والاسم التجاري وقائمة المكونات وتركيزها وفئة المنتج وطريقة استخدامه.

قدمت هيئة الدواء المصرية هي الأخرى تحذيرات ومنشورات مستمرة لكيفية التعرف إلى مستحضرات التجميل الأصلية والمزيفة وأماكن بيعها وطرق البحث عنها والتعريف بأنواعها، وأعدت منشورات بجميع أقسامها سواء المعدة للاستخدام الخارجي أو الداخلي، حتى أنها في سبتمبر الماضي أصدرت نحو 4 نشرات بمستحضرات غير أصلية، لكن الجمهور لا يستجيب لتلك المحظورات.

بحسب تقرير للمنظمة العالمية للملكية الفكرية لعام 2018، فإن المنتجات المقلدة التي تم شرائها في مصر– قبل صدور التقرير– مثلت  78% من مبيعات الأكشاك في السوق والباعة في السيارات و21% عبر الانترنت و5% من باعة الشوارع، وحول أسباب شراء تلك المنتجات المقلدة كانت نسبة 6% تؤكد أنها رخيصة و74% من العينة قالوا إنهم لا يستطيعون تحديد الفرق بين المنتجات المقلدة والأصلية  و85% لديهم قناعة بأن السلع المقلدة لا تضر أحدًا.

يمثل التقليد وفقا للأبجديات الاقتصادية انتقاصا لحقوق المستهلك مقابل ما يدفعه من قيمة السلعة التي تفتقر إلى النوعية والجودة، وحجم الضرر متعلق بنوعية السلعة ومدى اتصالاها المباشر بحياة المستهلك، ما يجعل منتجات التجميل بالذات من أخطر السلع التي تمثل تهديدا صحيا خطيرا لمستخدميها.