توجهتُ صوب الفراشِ ليلتها مُبكِرًا على غير العادة التي اكتسبتها مؤخرًا. اعتدتُ أن أمضي لَيلي في القراءة أسعى بين السطور في دهشةٍ مازلت قادرًا على الإمساك بأهدابها وقد بلغت من الكِبَرِ عِتيا، وهل فعل القراءة سوى ممارسة لطقسِ الدهشة. هواجسٌ قاتِمةٌ حالت بين النوم وبيني فقررتُ الاستسلام لغوايةِ القراءة عساها تُعينُني لكنها لم تفعل بل زادت هواجِسى قتامةً.

“ماذا يحدث يا شيخ مَجد، لابد أن الحرب واقعة يا دميان، لو قامت الحرب ونحن هنا سنموت يا شيخ مجد. أي طائر هذا الذي يحملنا على جناحية الآن، إنه جبريل ولا أحد غيره هو الذي أتى بالبشارة لرسول الله، وهو الذي جاء بخبر مريم البتول بحملها الطاهر، وانقطعت أنفاسهما فلم تُسمع وصارا شبه مخدرين نائمين فوق موج حان. هل يأخذهما جبريل إلى الإسكندرية أم إلى الله في السماوات العُلا؟ كلاهما اطمئن إلى نهاية آمنة”*. أغمضت عيناي، ما أن غَالَبني الكَرى، إلا وقد حدث ما حدث. اهتزت الأرض وبقيت السماءُ ساكنةً، فانتَفَضْت.

حَببتُكِ ياشهباءُ فانفَرَطَ الهَوى

كما انفرطَ القلبُ الذي كَان حَانيا

فزعت من توي إلى التلفزيون عَلَّنى أجد على بَثِهِ هُدى، كانت الأنباء شحيحة، هِزة بمصر بمقياسٍ أكبر من المتوسط وأقل من العنيف دون إصابات. لم أعتد هذا النوع من رجرجات الحجارة، كنت خارج مصر حين وقعت واقعتها منذ ثلاثين عامًا وبضعة شهور. كانت الاتصالات الهاتفية في ذلك الوقت بالغة الصعوبة ولم يكن المحمول قد تم استخدامه بَعدْ، كنت أتواصل مع الأهل والأصدقاء عبر الهاتف الثابت فيما بعد منتصف الليل عندما ينخفض معدل الاتصال استخدامًا للشبكات الأرضية. كانت “سي إن إن” هي ملاذنا في البداية تَلَمُسًا للطازج من الأخبار ثم تبعتها أخريات، أيامٌ لا أعادها الله. ما الذي يحدث الآن؟ في دقائق كانت الأنباء تترى مُتسارعة، غازي عنتاب وكهرمان مرعش ثم إدلب وطرطوس واللاذقية وبانياس وحماة و…..”حَلب”.

لدَمِ الإنسان الآمِنِ في أي مكان بكوكبنا الحزين قداسة لا تمييز فيها، إلا أن لِحَلب وأهلها مكانة بقلبي ذات خصوصية. شَهباءُ هي كَلَونِ حجارتها العتيقة وبيارق أبوابها والقلعة التي تشعر حين تُطل من فوق سورها على المدينة كما لو كنت على مشارف القاهرة دون الأهرامات والنهر المُقدس، لترى نفس البنايات العجوز التي تحمل آثار الزمان فوق جبينها. “حَلبُ” الأبواب العشرة والأسواق والخانات والناس الذين هم الأصل وأساس الوجود، فالبنيان -حتى وإن كان شاهد قبر- هو علامة وجود الناس الذين يصنعونه من رحيق الذكريات والأفكار ومن حَبات العَرَق. البنيان ليس رَصَّاً للحجارة قدر ما هو صياغةٌ ملموسة لثقافة الوجود. حين ينهار البناء ينهار جزء من الذاكرة وتنطوى صفحة من صفحات التاريخ حيث لا رموز تنطق بأن حضارةً ما بكل ملامحها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية كانت قائمة بالمكان.

ولعل هذا ما دفع بمغول هذا العصر لتدمير صروح بنيان الحضارة بالتفجير تارة وبالسرقة تارة أخرى. فعل “داعش” الذميم ذلك منذ ثمان سنواتٍ حين فَجَّر تحت دعاوى بائسة تجاوزها تاريخ الإنسانية، معبد “بعل شمين” (رب السماوات لدى الكنعانيين) في “تَدمر”، وكذلك فعلت “جبهة النصرة” الكريهة حين نَهَبَت ما تيسر لها من قطع أثرية بمناطق “عفرين” و”إيبلا” و”تل الأشعري” في “حلب” لتجد في لندن ونيويورك من نخاسي التاريخ من يدفع لقاءها مالًا وفيرًا استُخدم في الإنفاق على مزيدٍ من الخراب.

عن أهل “حَلب” الذين وقعوا بين مطرقة القادمين من كهف التاريخ وسندان “إيفان” الشام الرهيب، حَدِث ولا حرج عليك. كان لي صديقًا -رحمه الله- من أعرق عائلات الشهباء، وكان مُغرمًا بالموسيقى والشعر والتاريخ كشأن أبناء المدينة التى كان على أي عربيٍ يزعُم أنه مطربٌ أن يتوجه إليها للإختبار، فإن راقَ أداؤه لأهلها، اعتُمد وانفتحت أمامه أبواب ساحات الفن في أرجاء الدنيا، ويكفيك أن تعلم أن خادم الموسيقى “الشيخ سيد درويش” كان قد زارها ودرس بها أصول الموشحات والقدود ليعود إلى مصر فيبدع من نفس القالب أعمالًا تغنى بها الحلبيون ذاتهم فعَمَّقوا خلودها في الزمن.

كنت وصديقي الحلبي الكريم -رحمه الله- نستمع في خشوعٍ لأساطين الغناء من أهل الشهباء الذين كان المرحوم “صباح فخري” أكثرهم شهرةً وإن كان له أقرانٌ آخرون لم يقل أيهم عنه إبداعًا مثل “محمد خيري” و”صبري مدلل” و”حسن الحفار” و”أديب الدايخ” عليهم جميعًا رحمة الله. أما عن الأدب والشِعر، فيكفي أن أذكر اسمًا واحدًا، “أبو الطيب المُتنبي”. عَرِفتُ “حَلب” فعَشِقتُها، وحين اهتزت الأرض، انفرط القلب وانفطر فازداد الصدر ضيقًا على ضيق. 

كأنِّي بها أمْسَت بَقايا مَدينةٍ

إلى الموتِ قد أمْسَى بِها النَجمُ هَاويا

اهتزت الأرض هزتها الكبرى فتضعضعت قوائمٌ بالطاحونة العثمانية داخل القلعة وتشققت أجزاء من أسوارها، وتضررت قبة الجامع الأيوبي والتكية العثمانية، وانهارت صوامع وبِيَّع و صارت هياكل البنايات العجوز إلى فناء وقد اختلط حطامها بالأحمر القاني وببياض الثلج، سحابات الدخان والتراب تملأ الفضاء كما لو كانت تحيط أرواح الشهداء مُودِعًة في موكبِ الارتقاء. كانت السماء رئيفة بمن غَادَر فقد ذهب سريعًا إلى رحمتها، لكن مآسٍ من نوع آخر كانت ومازالت تعانيها أفئدة كُتِب لها مزيد من الآلام تحت الرُكام، فَأضْحَت الشهباء بقايا مدينةٍ وصارَ النجمُ هَاويا.

فَفي حَلبِ الدنيا تَجَلى خُلودها

وها جئتُ فيها أستعيدُ خُلودِيا

“فيما كانت زلزلة عظيمة أهلكت مائتي ألف وثلاثين ألف إنسان، قاله صاحب مرآة الزمان. وقال ابن القلانسي: أنها كانت بالدنيا كلها، وإنما كانت بحلب أعظم، جاءت ثمانين مرة، ورمت أسوار البلد وأبراج القلعة، وهرب أهل البلد إلى ظاهرها”، هكذا تحدث “جمال الدين بن تغري بردي الأتابكي في الصفحة 264 من الجزء الخامس بكتابه الموسوعي “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة” حين اهتزت الأرض “بحَلب” منذ ما يقرب من التسعمائة عام شهدت خلالها الشهباء أحداثًا جسامًا رفضت فيهن أن تموت ليتجلى بها خلود الدنيا، وهكذا ستفعل.

*من رواية “لا أحد ينام في الإسكندرية” للروائي الكبير أستاذنا “إبراهيم عبد المجيد”.