تقتل السيارات كل عام بقدر ما قتلت قنبلتا هيروشيما وناجازاكي، وضحايا وخسائر حوادث السيارات في العالم أكبر من ضحايا الكوارث النووية. مع ذلك، نحب السيارات ونخاف من الطاقة النووية، مع أنها أكثر أمانًا من الوقود الأحفوري، ويمكن أن تكون خضراء مثل مصادر الطاقة الأخرى المتجددة. يبدو أن الناس، والحكومات أيضًا، نادرًا ما يتخذون قراراتهم بناء على الحقائق فقط.

عندما هاجمت القوات الروسية في مارس الماضي محطة “ذا بوروجيا” Zaporizhzhia للطاقة النووية، وهي المحطة النووية الأكبر في أوروبا، روجت وكالات الأنباء والصحف العالمية ونشرات الأخبار لكابوس الرعب النووي. وفي صباح اليوم التالي، قال ممثل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة للصحفيين، إن العالم نجا بصعوبة في الليلة الماضية من كارثة نووية”.

وعندما انقطعت الكهرباء عن المحطة بعد خمسة أيام، غرد وزير الخارجية الأوكراني قائلًا إن المولدات الاحتياطية -التي تعمل بالديزل- يمكنها أن تعمل لمدة تغطي 48 ساعة فقط، وأن التسرب الإشعاعي بات “وشيكًا”. وبعد عدة أشهر، في أغسطس الماضي، تحدث الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في خطاب متلفز، عن الاحتلال الروسي لمحطة الطاقة النووية، وادعى بأن “كل دقيقة تبقى فيها القوات الروسية في المحطة، تمثل تهديدًا بحدوث كارثة إشعاعية عالمية”.

لكن أي من هذه التصريحات لم تكن دقيقة، وسواء كان ذلك بسبب الجهل أو السياسة أو الإنكار والتجاهل المتعمد، يسيء الصحفيون والمعلقون السياسيون فهم نظم ومستويات الأمان المتضمنة في تصميم مثل هذه المحطات، مثل محطة ذابروجيا. تقضي أبسط أنظمة الأمان في هذه المحطات، بأنه إذا انقطع التيار الكهربي عن المحطة، سيتم تلقائيًا تشغيل المولدات، وإذا توقف المبرد الابتدائي لأي سبب عن العمل، سيبدأ المبرد الثانوي في العمل.

إن حدوث كارثة في مثل هذه المحطات يتطلب سلسلة طويلة من الأخطاء البشرية  والأعطال المتتالية في النظام. مثل هذه السلسلة من الأحداث الافتراضية قد تحدث، كما حدث من قبل في “ثري مايلز آيلاند” بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1979. لكنها لا يمكن أن تحدث بسبب القصف، لن ينفجر المفاعل بسبب القصف فقط، ولا يمكن أن ينفجر المفاعل مثل القنبلة.

وفي الوقت نفسه، فإن الكتلة المشعة داخل المفاعل غير معرضة للخطر بشكل أساسي، وتحيط بها حوائط ضخمة مصنوعة بحسابات دقيقة من الإسمنت والمعادن الأخرى، بالإضافة إلى ذلك، يوجد هيكل خارجي أكبر -يشبه حظيرة الطائرات- تكلف بناؤه 1.6 مليار دولار، ومصمم لمقاومة القصف والزلازل والأعاصير. وخلص تقرير حديث للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أنه حتى بدون كهرباء، فإن قضبان وقود اليورانيوم البالغة من العمر 25 عامًا كانت محجوبة بطبقة سميكة من الماء لمنعها من أن تصبح خطرة.

ولا يعرف الكثير من الناس أن نظم الأمان في مثل هذه المحطات، تستبعد تمامًا أن تحدث مثل تلك الكارثة النووية. بالإضافة إلى ذلك، فعلى مدار تاريخ الطاقة النووية، كان خطاب المبالغات هو الخطاب السائد، من المبالغة في تقدير الطاقة النووية ووعودها من ناحية، إلى التخويف والتشاؤم والرعب النووي من ناحية أخرى.

سيطرت هاتان الروياتان على الرأي العام منذ أن أعلنت “ماري” و”بيير كوري” عن الفوائد العجيبة والأخطار الرهيبة للإشعاع، واستمرت خلال التغطية الأخيرة للحرب في أوكرانيا. يعود تاريخ كلا الروايتين إلى وقت لم يهتم فيه أحد  بكمية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي يتم إطلاقها في الغلاف الجوي. أما وقد أصبحت الانبعاثات هي القضية المحورية الأهم في تغير المناخ حاليًا، فمن الضروري أن تتغير الطريقة التي نقدر بها الطاقة النووية.

الطاقة النووية لها جوانب إيجابية غير معترف بها. مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، تولد الطاقة النووية الكهرباء دون حرق للوقود الأحفوري، وبالتالي، فهي لا تصدر عنها أية انبعاثات لثاني أكسيد الكربون. لكن عمليات التعدين والتصنيع وراء توربينات الرياح والألواح الشمسية وحبيبات اليورانيوم لها بالتأكيد بصمة كربونية. في هذا السياق، خلص تحليل أجراه عالم في البيانات للوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى أنه لتوليد تيرا واط/ ساعة من الكهرباء من الطاقة النووية يتولد 3 أطنان من الغازات الدفيئة، بينما تخلف طاقة الرياح 4 أطنان، والطاقة الشمسية 5 أطنان.

من حيث الأمان، قدّر نفس التحليل أن معدل الوفيات المرتبطة بالطاقة النووية بـ0.07 حالة وفاة لكل تيرا- واط ساعة. وهو معدل أكبر من معدل الوفيات المرتبطة بطاقة الرياح 0.04، والطاقة الشمسية 0.02. لكن معدل الوفيات المرتبطة بالطاقة النووية أقل بكثير من معدل الوفيات المرتبطة بالغاز الطبيعي، الذي يقدر بحو 2.8 حالة وفاة مقابل كل تيرا واط ساعة، وأقل بكثير جدًا من الوفيات المرتبطة بطاقة الفحم، والتي تقدر بنحو 24.6 حالة وفاة لكل تيرا واط ساعة.

على الرغم من أن المخاطر يمكن أن تكون معقدة، وقد يكون تقدير الوفيات غالبًا تخمينيًا، إلا أن هناك الآن الكثير من الأدلة على أنه، مع مراعاة تأثيرات المناخ والعناصر الأخرى، فإن الطاقة النووية أكثر أمانًا من العديد من البدائل الأخرى. ومع ذلك، كشف استطلاع رأي أجرته صحيفة “الإيكونوميست” وشركة أبحاث السوق YouGov، بعد وقت قصير من غزو روسيا لأوكرانيا، أن 47% من الأمريكيين لا يعتقدون أن محطات الطاقة النووية آمنة. ولو أجري استطلاع الرأي في جميع دول العالم فربما تكون النسب متقاربة. حوالي نصف سكان الأرض تقريبًا يخافون من الطاقة النووية.

لنكن واضحين، هناك سلبيات حقيقية للطاقة النووية. تعدين اليورانيوم مدمر للأرض وسام للبيئة. إدارة الوقود المستهلك وتخزينه عملية مركبة وقد تكون باهظة التكاليف. بالإضافة إلى ذلك، يبقى خطر التسرب الإشعاعي ماثلًا مهما كان حجمه ضئيلًا. فقد تسببت الإشعاعات التي تسربت من محطة ثري مايلز آيلاند الأمريكية في زيادة محلية في عدة أنواع من السرطان، وفقًا لورقة بحثية نُشرت في العام الماضي في دورية “السياسات العامة لأزمات الجرعات الخطرة” (Risks Hazards Crises Public Policy). قد تكون طاقة الرياح والطاقة الشمسية أرخص وأقل خطرًا، لكن هذا لا يعني أن الطاقة النووية سيئة كما يعتقد الناس.

يعتمد غالبية المواطنين في إدراكهم للمخاطر على ما تقوله وسائل الإعلام، بدلًا من الاعتماد على المخاطر الإحصائية الفعلية. ويستشهد “بول سلوفيتش” خبير المخاطر والأستاذ بجامعة أوريجون الأمريكية في مقال له بمجلة “العلم” الأمريكية بدراسة أجريت في العام 1980. طُلب فيها من مجموعات مختلفة من الناس تصنيف 30 نشاطًا وتقنية بحسب ترتيب المخاطر.

خصص طلاب الجامعات وأعضاء من النخب السياسية في الحزبين الديموقراطي والجمهوري المرتبة الأولى، وهي أعلى نسبة خطر، للطاقة النووية، متقدمة على البنادق اليدوية والتدخين. في حين صنف الخبراء السيارات في المرتبة الأولى، التدخين في المرتبة الثانية، البنادق والمسدسات في المرتبة الرابعة، والطاقة النووية في المرتبة العشرين.

هذه الفجوة الهائلة في الوعي بدرجات المخاطر، يفسرها الكاتب بـ”التغطية الإعلامية غير المناسبة”، و”الإرتباط القوي بين الطاقة النووية وانتشار الأسلحة النووية واستخدامها”. ومع أن هناك فارقا كبيرا بين المفاعلات النووية المتحكم فيها وبين الأسلحة، لكن كثيرا من النشطاء والسياسيين، يخلطون بين الاثنين من خلال صياغة مصطلح “الأسلحة النووية”.

بعد شهر من حادث “ثري مايلز آيلاند” الذي وقع بالقرب من هاريسبرج بولاية بنسلفانيا عام 1979، استخدمت مسيرة احتجاجية في واشنطون العاصمة شعار: “في كل هاريسبرج، هناك هيروشيما ينتظر حدوثها”. وتزامن هذا الارتفاع في النشاط المناهض للأسلحة النووية مع انخفاض مدفوع بالسوق في قطاع الطاقة. وألغيت عشرات المفاعلات النووية التي كانت قيد الإنشاء. توجه اللوم إلى ثري مايلز آيلاند، بينما أخذ النشطاء الفضل.

في الواقع، تم إلغاء جميع أنواع مشاريع الطاقة المقترحة، ودخلت الولايات المتحدة في الركود بعد أزمة النفط عام 1973. وعندما احتاجت الولايات المتحدة مرة أخرى إلى الكهرباء في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، اختار صناع السياسة الغاز الطبيعي، ومع استبدال الغاز بالفحم، انخفضت انبعاثات قطاع الطاقة الإجمالية، لكن كان من الممكن أن تنخفض أكثر، إذا كانت الطاقة النووية هي التي حلت محل الفحم.

من الصعب قول الكلمة النهائية بشأن الإشعاع، فما زلنا لا نعرف الكثير- على سبيل المثال، ما زال مقدار الإشعاع الضار محل نقاش ساخن حتى يومنا هذا. ما نحتاجه هو تقييم واضح للتكاليف والفوائد، تقييم خالٍ من الخوف ومن التحيز المسبق، والأهم من ذلك كله- أن يكون خاليًا من الروايات السياسية والإعلامية المضللة. إذا تخلصنا من الخوف، ونظرنا إلى الأرقام والحقائق المجردة، سنرى أن الطاقة النووية كانت آمنة نسبيًا دائمًا، في حين أن تغير المناخ خطير للغاية.