شيئان لم يجربهما المصريون منذ ألفين وخمسمائة عام، الحرب والحكم، فهما من اختصاص الغرباء من الحكام من فرس وإغريق ورومان وعرب وترك وأوروبيين، كانت وظيفتنا هي الفلاحة، نزرع الأرض وتذهب العوائد للحكام الغرباء ويبقى لنا فقط حد الكفاف، واستمر الحال على ذلك القرون بعد القرون، يتغير الغزاة الفاتحون ولا تتغير المعادلة، علينا الإنتاج، ولهم عوائده، وعلينا الخضوع والطاعة، ولهم الحرب والحكم.

ثم بدأت المعادلة تشهد بعض التغيير في القرن التاسع عشر، حيث بدأنا نعود للحرب مع تجنيد أبناء الفلاحين في التأسيس الثاني لجيوش محمد علي باشا في أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر، لم نكن غير جنود مثلنا مثل الرقيق السود، بينما كان الضباط من المماليك البيض، ثم لما بدأ وعي الفلاح المقاتل ينضج أدرك للمرة الأولى أنه غريب في بلده بينما الغريب الحقيقي يُعامل كصاحب بيت، ومن هنا كانت بذور الوعي السياسي الذي قاد خُطى الجيل الأول من الضباط المصريين للثورة العرابية.

ثم بدأ التغير الثاني في المعادلة مع امتلاك المصريين للأرض، حيث على مدار الألفين وخمسمائة عام لم نكن نملك الأرض، كنا نملك فقط حق الانتفاع، ثم مع تفكك احتكار محمد علي باشا ثم مع رغبته ورغبة خلفائه من بعده في اصطناع طبقة من المتمصرين والمصريين تملك الأراضي الواسعة وتكون بطانة اجتماعية لحكم الباشا وسلالته من بعده، ومن امتلاك الأرض، والأرض كانت مصدر الثروة والنفوذ والجاه، بدأت تتكون ارستقراطية مصرية بالمعنى الحديث، هذه الطبقة الناشئة مثلها مثل طبقة العسكر الناشئة بدأت تفكر في أن يكون لها دور في الحياة العامة، فالتقت، ولو بصورة مؤقتة، مع الضباط في بوتقة الثورة.

ثم عرفنا التغير الثالث على مدى القرن التاسع عشر وهو ظهور طبقة وسطى حديثة لم يكن لها وجود قبل ذلك، جاءت من التعليم الحديثة والجيش الحديث والصحافة الحديثة ونهضة المدن الكبرى وعواصم الأقاليم ودخول السكك الحديد وخدمات البرق والتلغراف وفوق ذلك اندماج الاقتصاد المصري في النظام الرأسمالي الأوروبي حيث صارت مصر مزرعة للمحاصيل الخام تصدرها لأوروبا ثم صارت سوقا للمنتجات الصناعية تستوردها من أوروبا، هذه الطبقة الوسطى كانت القاعدة الاجتماعية التي تنافست عليها طبقة الحكام والأرستقراطية والعسكر المصريين.

في القرن التاسع عشر تبلورت الأسئلة الكبرى التي تشغل المصريين بشدة إلى اليوم والغد: الحكم لمن؟ الجيش لمن؟ السياسة لمن؟ الأرض لمن؟ الاقتصاد لمن؟ القرار لمن؟ المناصب لمن؟ الموارد لمن؟ خيرات البلد لمن؟. وبصيغة جامعة: مصر لمن؟ للحكام أم للشعب؟. هذا هو سؤال القرن التاسع عشر، ثم هو سؤال القرن العشرين، ثم هو سؤال هذا القرن الحادي والعشرين، وأغلب الظن هو سؤال مستمر وعابر للقرون، فمصر التي تم انتزاعها من أهلها الحقيقيين وملاكها الطبيعيين سوف تستدعي كفاحا ممتدا ونضالا تتوارثه وتتداول وتتناوب عليه الأجيال حتى تكون لأهلها وللشعب ولعموم المصريين لا للحاكم ومن حوله ومن أهل الحظوة.

رغم كفاح المصريين على مدى قرنين من الزمان، فإن المعادلة الظالمة لم تتزحزح إلا قليلا، جوهر المعادلة الظالمة مازال قائما على حاله: الحكم لفرد ومن حوله ممن لا يتجاوزون أصابع اليدين، وخيرات البلد لأقلية من المحظوظين، وأغلبية الشعب عليها المغارم بما في ذلك دفع مرتبات وتحمل نفقات وامتيازات الأقلية التي تحكم وتتحكم.

–  لم يكد القرن التاسع عشر ينتهي حتى عرف المصريون طريقين لكسر هذه المعادلة الظالمة هما: طريق السياسة ثم طريق الثورة، ومن خلالهما استقرت القاعدة العظيمة “مصر للمصريين”، عملوا بالسياسة في دواوين نابليون ثم دواوين محمد علي باشا ثم في برلمان الخديو إسماعيل، كانت مجرد بدايات ساذجة لكنها كانت معامل جرب فيها المصريون مذاق الخروج من فكر العصور الوسيطة إلى الفكر الحديث، والفكر الحديث -بالمصادفة- بدأ عند المصريين من فرنسا ومن ثورة فرنسا ومن الروح الثورية التي أطلقتها فرنسا في العالم، صحيح فرنسا جاءت من باب الاستعمار ودخلت من باب الغزو لكنها -هذه المرة في 1798 لم تكن مثل غزوتها تحت قيادة لويس التاسع في 1250م- هذه المرة لم تكن فرنسا الصليبية التي تحمل الصليب لكن كانت فرنسا المزيج من الثورة والاستنارة والحرية مع الاستعمار والغزو والإجرام، ذهب ما فيها من استعمار وبقي منها ما فيها من روح الثورة والاستنارة والحرية، تلمس هذه الروح في ثورات المصريين ضد الحملة ثم في ثوراتهم ضد المماليك والعثمانيين 1803 – 1805، حتى ثورتهم الطويلة ضد الأجانب وضد سلالة محمد علي باشا وضد الغزو البريطاني 1876 – 1882 من إعلان إفلاس مصر حتى دخول القوات البريطانية القاهرة 15 سبتمبر 1882.

– ثم جرب المصريون الطريقين معا، السياسة والثورة، على امتداد القرن العشرين، ثورتان في 1919 ثم 1952، النصف الأول من القرن كانت السياسة في أغلبها من حق الشعب، لكن في النصف الثاني منه تمت مصادرة السياسة من الشعب مثلما تمت مصادرة الأملاك من الأغنياء، وباتت السياسة والثروة من اختصاص الحكم لا من اختصاص الشعب، وعندما يتم تجريد الشعب من الثروات ومن السياسة يكون الباب للثورة قد أغلق تماما، إمكانات الثورة تتضاءل في مناخ محكوم بالقهر الزائد من أعلى، ولم ينفتح الباب للسياسة إلا بهوامش محدودة في عهدي السادات ومبارك، ثم لم ينفتح باب الثورة إلا مع شيخوخة النظام وتلفه المعنوي.

– ثم مع القرن الحادي والعشرين، ومع العقد الأول منه، اتسعت هوامش السياسة، ثم لاحت فرصة الثورة بين 25 و28 يناير 2011 حيث ولت الشرطة أدبارها أمام زحف الشعب فسقط النظام، لكن مع نزول القوات المسلحة عند غروب شمس الجمعة 28 يناير 2011 بدأت رحلة مضادة تماما، بدأت بملاعبة السياسة ثم مداعبة الثورة، وانتهت بعد اثنين وأربعين شهرا، وبالتحديد مع منتصف 2014، إلى مصادرة السياسة والثورة معا، ثم انقضت عشر سنوات لا مجال فيها لأدنى قدر من السياسة، ولا خرم إبرة فيها يسمح حتى بإطراء فكرة الثورة أو ذكرها بكلمة طيبة، ومع عشر سنوات متواصلة من حكم الجمهورية الجديدة، عاد المصريون إلى ما قبل القرن التاسع عشر، عادوا مجرد رعايا لا مواطنين، لا شأن لهم بالحكم، ولا مكان لهم في السياسة، ولا حق في السؤال عن موارد البلد، ولا أمل لهم في تغيير، وبالبداهة لا قدرة لهم على كسر الحواجز التي تحول بينهم وبين السياسة وكذلك الحواجز التي تحول بينهم بين أي شكل من أشكال التعبير العمومي أو الجماهيري عن الغضب، فليس فقط غير مسموح لهم بالثورة، لكن غير مسموح بأي مجال عام حر من أساسه، تمت مصادرة المجال العام من حيث هو وعاء للتعبير عن الشعب، فقط المسموح به هو المجال العام بما هو منصة للتعبير عن سلطة الحكم الفردي المطلق الذي هو روح الجمهورية الجديدة. حالة انطلاق لا حدود لها فيما يخص الحكم، يقابلها حالة انسداد لا خرم إبرة فيها فيما يخص الشعب، حالة تعود بالمصريين إلى ما قبل الحداثة من حيث استعلاء السلطة على الشعب، ثم هي حالة تشبه ما جرى تحت الاحتلال الإنجليزي في السنوات ما بين إعلان الحماية 1914 وقيام الثورة المجيدة 1919.

***

السؤال: ماذا يفعل المصريون إذا كانت أوضاعهم لا تحظى برضاهم، وليس مسموحا لهم بالتغيير من خلال العمل السياسي، وليس في إمكانهم التغيير عبر الفعل الثوري؟.

– في تاريخنا الحديث عرفنا السياسة بعد التحديث على النمط الأوروبي، ثم عرفنا الثورات إما بعد فترات معقولة من ممارسة السياسة وإما بعد فترات من التحريم الكامل للسياسة، ثورة 1919 وهي الأعنف جاءت بعد سنوات من التحريم الكامل للسياسة، بعكس ثورات القاهرة ضد الفرنسيين، وثوراتهم ضد الممالك والعثمانيين، وثورتهم العرابية، وثورة 23 يوليو، ثم ثورة 25 يناير المجيدة، فهذه الثورات كلها جاءت في مناخات مسموح فيها بمقادير مختلفة من السياسة في مجال عام مفتوح، فليس صحيحا من مثال ثورة 1919 أن إغلاق المجال العام يكفل منع الثورة بل هو فجرها بصورة عنيفة قوية مباغتة مفاجئة كانت خارج توقعات الجميع، تحريم السياسة والإغلاق التام للمجال العام لايضمن للحكام الأمان من بغتة الثورات ومفاجآتها الخاطفة.

1- أعنف ثورات المصريين هي ثورة 1919 كما تتبدى في سجلات أحداثها في شهري مارس وأبريل من ذاك العام، وتفسير ذلك العنف -مع شموله للبلد كلها بطبقاته كلها- هو حجم القهر الذي مارسه الاحتلال طوال سنوات ماقبل الثورة، ثورة 1919 نموذج لكسر تحريم السياسة، كانت السياسة قبلها محرمة تحريما باتا على المصريين بقرار من سلطة الاحتلال، الثورة كسرت التحريم مرة واحدة وأتاحت السياسة وأباحتها لكل الطبقات بصورة لم تكن مسبوقة وليست ملحوقة في تاريخ مصر قبلها وبعدها. هنا الثورة استفادت من تراكم خبرات المصريين على مدار القرن التاسع عشر كله، ثورة 1919 كانت -في العمق حصادا- لقرن التنوير المصري، تنوير خرجت به مصر من المزدوج المملوكي – العثماني، تنوير هو مزيج من مكافحة أطماع أوروبا والأخذ عنها أنوار علمها وفكرها وروح تحررها في الوقت ذاته، في الفترة من غزو نابليون 1798 حتى ثورة 1919 مصر خلقت وأعادت خلق نفسها من جديد عدة مرات حتى ظهرت لنفسها وللعالم في شكل ومضمون مختلف تماما عن ذي قبل، عندما انشقت الأرض والسماء معا عن ثورة 1919 كانت مصر أمةً وشعبا وروحا وضميرا قد ولدت من جديد خلقا آخر، ثورة 1919 لم تكن فقط ميلاد حقبة سياسية جديدة إنما كانت ميلاد أمة. خلاصة القول: التحريم التام للسياسة بقرار من الاحتلال 1914 قاد الشعب إلى الثورة 1919. ثورة شعب مستضعف مغلوب على أمره ساكت صابر صامت في وجه أعتى قوى الأرض وأعظم إمبراطوريات التاريخ. كانت الثورة عنيفة بمقدار ما كان تحريم السياسة عنيفا وبمقدار ما كان إغلاق المجال العام عنيفا.

2- حكم مبارك مصر ثلاثين عاما 1981 – 2011 لم يعبأ بسؤال كيف تكون البلد من بعده، لم يعين نائبا له كما فعل من قبله السادات وكما فعل من قبلهما جمال عبدالناصر وكما استقر في حكم ضباط الجيش أن الرئيس ضابط ونائبه أو نوابه من الضباط لتستمر ديمقراطية العسكريين “حكم الشعب بالجيش لصالح الجيش”، لم يسمح مبارك لأحد أن يطمئن على المستقبل من بعده، لا الجيش الحاكم ولا الشعب المحكوم، جعل مبارك نفسه نهاية التاريخ، وتجلى بشخصه وفكره وعهده كما لو كان حائط سد كثيف سميك يحجب نور المستقبل عن نواظر المصريين، ثم لما فكر في سؤال كيف تكون مصر من بعده، كان الجواب الذي طرحه هو توريث نجله، فكان مبارك هو نهاية التاريخ وكان النجل هو بداية التاريخ الجديد. كان مبارك يسمح بهوامش للسياسة لكن ليس للحد الذي يتمكن به الشعب من ممارسة الحق في التغيير عبر الانتخابات، كانت استفتاءات وانتخابات مبارك مزورة بما يسمح له بأغلبية مطمئنة ثم إلى جانبها أقلية من باب الديكور ومن باب التوازن معا. لقد جعل مبارك نفسه نهاية التاريخ، ثم جعل نجله بداية التاريخ، فتدخل الشعب وحرر تاريخه ومستقبله من قبضة الأب ومن رهن النجل، كانت للجيش في ذلك مصلحة قضاها، ثم قضى على الثورة ثم أسس ديكتاتورية عسكرية تحت مسمى الجمهورية الجديدة، ثم الجمهورية الجديدة حرمت السياسة وقطعت الطريق على الثورة وأغلقت المجال العام بالضبة والمفتاح. خلاصة القول: مبارك حرم التغيير عبر الانتخابات لكنه لم يحرم السياسة بالكلية ولم يغلق المجال العام تماما فجاءت الثورة من ألطف وأرق ما تكون الثورات النموذجية رقيا وتحضرا.

3- ثورات المصريين ضد الفرنسيين ثم ضد المماليك ثم ضد العثمانيين في السنوات الخمس الأولى من القرن التاسع عشر كانت فاتحة تاريخنا الحديث، كانت من جهة صدى لروح الثورة الفرنسية ثم كانت نتيجة طبيعية لانكسار وتحلل قوى الطغيان التقليدية التي حكمت البلاد قرونا عدة، الطغيان العثماني – المملوكي، رائحة السياسة كانت حاضرة بالتحديث العاجل الذي أدخله نابليون على نظام الحكم، كما لم تكن ثمة سلطة قوية ذات بطش تقدر على تحريم السياسة أو تقدر على منع الثورة، قدر من هذا التحلل وضعف قبضة السلطة تكرر في أواخر عهد الخديو إسماعيل وأوائل عهد الخديو توفيق حيث المسرح الزمني لأحداث الثورة العرابية، وكذلك ثورة 23 يوليو 1952 جاءت في وقت كانت كل أطراف السلطة قد تحللت وباتت غير قادرة على الاستمرار بل وغير قادرة على الدفاع عن نفسها.

4- ثورة 25 يناير 2011 مثلها مثل ثورة 1919 كلتاهما جاءت في وقت كانت فيه الدولة تستطيع التماسك واحتمال تداعيات الثورة دون أن تنهار أو تسقط، كذلك كلتاهما جاءت في زخم شعبي إيجابياته توازن سلبياته وتزيد عليها فلم تنزلق للتطرف الثوري المدمر، فلا الدولة تضررت، ولا النسيج الشعبي تمزق. مع فارق أن ثورة 1919 عاشت ثلاثين عاما تكافح خصومها حتى سقطوا وسقطت معهم، لكن ثورة 25 يناير تم الالتفاف حولها ثم الغدر بها وهي لم تزل في الميدان لم تبرح مكانها فيه ولم تغادره.

5- الثورة العرابية ثم ثورة 23 يوليو كلتاهما جاءت ومنظومة الحكم تتفكك وتتحلل وتنهار، مع فارق أن الثورة العرابية فشلت وسقطت البلد بكاملها بما فيها نظام الحكم والثورة والشعب في قبضة الاحتلال الأجنبي، لكن ثورة 23 يوليو نجحت بما يكفي لإحكام قبضتها على زمام البلد فلم تسقط الدولة بسقوط الملك، ولم يتفكك المجتمع لاستئصال طبقة الحكم من أرستقراطية وأعيان وأجانب.

خلاصة ما قد سبق: تحريم السياسة تم تجريبه من قبل في 1914 ولم يمنع من قيام الثورة في 1919، والقبضة الحديدية لحكم الاحتلال لم تنجح في الإغلاق الدائم للمجال العام، ولم تقدر على أن تقهر الشعب بحيث يسكت إلى الأبد.

***

السؤال: أين الواقع المصري الآن من المسافة بين السياسة والثورة؟

– أما الثورة، فقد أنجزها المصريون بالفعل، افتتحوا بها القرن الحادي والعشرين في 25 يناير 2011، وهي ثورة من الوضوح والبلاغة والمجد بحيث تكفيهم حتى نهاية القرن، دفعوا ثمنها في الميدان حاضرا، ثم دفعوه على يد الثورة المضادة لاحقا، وليس مطلوبا منهم مزيد ثمن يدفعونه ولا مزيد تنكيل يتحملونه، كل المطلوب هو تجاوز الجملة الاعتراضية التي عطلت مسار الثورة -حكم ديني ثم حكم عسكري- هذه الجملة الاعتراضية كانت من حتميات التاريخ، كان يلزم أن تعبر القوى الدينية عن نفسها بالطريقة التي ظهرت بها، ثم كان يلزم أن تعبر القوة العسكرية عن منطقها الذي حكمت به، بغير هذا وذاك، كان من المستحيل أن تعيد ثورة 25 يناير 2011 اكتشاف نفسها باعتبارها التعبير الأصوب عن روح الشعب المصري وهو يستفتح المائة الثالثة من تاريخ الدولة الحديثة، مائة عام جديدة باسم الشعب، لا باسم سلالة محمد علي باشا، ولا باسم الجيش، ولا باسم تنظيم ديني منغلق، كان لابد للتاريخ أن ينظف مساره من قوى الماضي حتى يتهيأ لقوى المستقبل، وبعد عشر سنوات من الثورة المضادة فإن ثورة 25 يناير 2011 تبدو الأقرب لتكون هي نقطة ابتداء ثم استئناف مسار التاريخ صوب المستقبل.

– أما عن السياسة، بما هي كما يسميها أرسطو 384 – 322 ق م، الحكمة العملية أو الفطنة، فهي ما يحتاجه المصريون، وذلك يحتاج مزيد شرح وتفصيل.

أ – تصويب ما ترتب على الثورة المضادة -الجمهورية الجديدة- من أخطاء جمعت بين خطايا كل ما سبقها من عهود، فقد أخذت من نابليون سياسة هدم الأحياء والمقابر والبيوت لإعادة تخطيط المدن دون توافق طوعي مع الشعب، لما فعل نابليون ذلك لم يفرح الشعب بما خططه من شوارع واسعة مزروع على جوانبها أشجار في أول تطور عمراني من نوعه في تاريخ القاهره، لم يشكره الناس على ذلك، لكن غضبوا ثم ثاروا في واحدة من أعنف الثورات التي استهدفت من ضمن ما استهدفت مقر وقيادة سلاح الهندسة في الجيش الفرنسي الذي تولى التطوير العمراني للقاهرة. ثم إن الجمهورية الجديدة أربكت مالية البلاد بالقدر ذاته الذي أخطأه الخديو إسماعيل، فهي من هذه الزاوية ليست أكثر من خديوية جديدة حيث مشاريع بلا نهاية يتم انشاؤها بديون بلا نهاية. ثم الجمهورية الجديدة أعادت قهر الاحتلال مع إعلان الحماية إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914. ثم الجمهورية الجديدة مثلها مثل النظام الملكي قبل سقوطه فقدت كل تعاطف شعبي له قيمة، ثم مثلها مثل نظام مبارك أفلست فكريا وأخلاقيا فلا تستطيع إقناع نفسها ولا مؤيديها ولا معارضيها بحجة لها منطق يبرر لماذا فعلت بالبلاد ما فعلت، لا تستطيع أن تجيب على السؤال الذي يعذب ضمائر المواطنين: لماذا كل هذا القهر؟ ثم لماذا كل هذا الفقر؟.

 

ب – الوضع الحالي في مصر لا تصلح معه ثورة، الجمهورية الجديدة أنهكت نفسها مثلما أنهكت الشعب، عشر سنوات من الاعتساف غير المبرر كافية لإجهاد الدولة ذاتها بمؤسساتها وإمكاناتها، مثلما هي كافية لإنهاك الشعب وإزهاق روحه، وضع مثل هذا لا تصلحه ثورة، بل تزيد من كارثيته، الثورة لا تضمن جراحة ماهرة للتخلص من مناطق الورم، مايضمن ذلك هو السياسة والسياسة فقط بما هي -حسب أرسطو- الحكمة العملية وعلم الفطنة، لا يكفي أن يكون لدى الدولة ما يكفي من أدوات القهر، ذلك لا يكفي، بالذات عندما تتسع الفجوة بصورة حاسمة بين الحاكم والمحكوم، وعندما يتوقف الشعب عن تصديق الحاكم، وعندما يفتقد الحاكم كل قدراته على إقناع مواطن واحد بوجهة نظره، في مثل هذه اللحظة لا يعود الحكم تمثيلا للمحكومين ولا نيابةً عنهم ولا تعبيرا عنهم، هنا لا معنى لكل أدوات القهر في يد الدولة، في هذه اللحظة كل أدوات القهر ليست أكثر من صفر مسلح بالعدم واللا جدوى.

ج – إذا كان القهر الذي أعقب عام 2014 يشبه القهر الذي أعقب 1919 فذلك لا يبرر حتمية ثورة جديدة، لأن ارتباك مالية البلاد يجعلها أشبه بالظروف التي أدت إلى الثورة العرابية، ودرس الثورة العرابية أن الثورات في البلدان التي يقف على رأسها الدائنون تنتهي -حتما- بكارثة، الديون وما يلزم من سدادها وما يقع من أعبائها هي في حد ذاتها لجام وقيد طبيعي يكاد يكون منطقيا وحتميا ضد فكرة الثورة، الديون تكشف أعصاب البلد وتضعها تحت ضغط أكبر من قدرتها على الاحتمال، ثم الثورة -بطبيعتها- عواصف ترابية ثائرة، والجمع بين الديون مع الثورة هو ووضع للأعصاب المكشوفة الملتهبة في مهب العواصف الثائرة، هذا الوضع سبق أن استشعره آباؤنا عشية الثورة العرابية، كان لدى رجالها إحساس غامض أن اندفاع الغضب وانزلاق الحركة وتوالي الأحداث دون سيطرة عليها من الممكن أن ينتهي باحتلال أجنبي.

د – في ص 610 من المجلد الأول من الأعمال الكاملة للأستاذ الإمام محمد عبده يقول: “ولكن لم تكن الثورة من رأيي، وكنت قانعا بالحصول على الدستور في ظرف خمس سنوات، فلم أوافق على عزل رياض في سبتمبر سنة 1881م. وقبل مظاهرة عابدين بعشرة أيام، التقيت بعرابي في دار طلبة عصمت، وكان قد جاء مع عرابي لطيف بك سليم، وكان هناك عدد كبير من الزائرين، فنصحت لعرابي في الاعتدال، وقلت له إنى أرى أن بلادا أجنبية ستحتل بلادنا، وأن لعنة الله ستقع على رأس من يكون السبب في ذلك”.

ثم يقول الشيخ عبده: “فأجابني عرابي أنه يرجو ألا تقع هذه اللعنة عليه، وأن سلطان باشا وعده بأنه سيحضر له عرائض لطلب الدستور ممضاة من جميع الأعيان، وكان هذا صحيحا، فإن جميع العمد كانوا مستائين من رياض لأنه منعهم من تسخير العمال وقطع هذه العادة، ولم ينضم سليمان أباظة إلى الثورة، وكان الشريعي باشا ضد الثورة أيضا”.

ويقول “لكن لما مُنع الدستور -يقصد إلغاء الخديو توفيق للدستور- انضممنا جميعا إلى الثورة لكي نحمي الدستور”.

الخلاصة: أن الحذر من الثورة لم يمنع من وقوعها، ثم وقوعها ترتب عليه وقوع البلد في قبضة الاحتلال ثلاثة أرباع قرن من الزمن.

***

– هل الحذر من الثورة ومن عواقبها يمنع وقوعها؟

للأسف الشديد، الثورات من الأقدار التي لا يصدها تحذير ولا يوقفها إنذار، وبالذات عندما تكون البلاد في حالة سيولة، وعندما لا توجد عملية سياسية، وعندما تفتقد البلاد إلى طبقة سياسية لديها ما يكفي من الخبرة والكفاءة والأخلاق والحكمة، حتى نقطع الطريق على الثورات يلزمنا مناخ سياسي وعملية سياسية وطبقة سياسية.

وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.