اختبار قاس يواجهه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم “العدالة والتنمية”، قبيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في مايو/ أيار المقبل، في أعقاب الزلزال المدمر، الذي بلغت قوته 7.8 درجة بمقياس ريختر، وتجاوزت حصيلته عشرات الآلاف من القتلى، ليضاف إلى حزمة التحديات التي كان يواجهها أردوغان المتواجد على رأس السلطة في بلاده منذ 20 عامًا.
الزلزال المدمر، وهو أكبر الكوارث الطبيعية التي ضربت تركيا منذ عقود، قبل ثلاثة أشهر فقط من الاستحقاق الرئاسي والتشريعي، يفرض الكثير من التساؤلات حول فرص أردوغان وحزبه. خاصة أنهم كانوا بالفعل على موعد مع معركة انتخابية حقيقية في ظل الكثير من التحديات التي طالت شعبيتهم خلال الفترة الماضية.
اقرأ أيضًا: الكاتب البريطاني ديفيد هيرست: القارة العجوز بلا قلب.. وزلزال تركيا وسوريا دليل “ازدواجيتها”
وتعد الانتخابات المقبلة في تركيا، واحدة من الفرص القليلة أمام معارضي أردوغان، الذين تمكنوا للمرة الأولى من تكوين تحالف، يضم أحزاب يسار الوسط واليمين تحت اسم “الطاولة السداسية”.
إلا أنه في المقابل، هناك آراء ترى أن محنة الزلزال قد تتحول إلى منحة لأردوغان وحزبه، حال استطاعوا إدارة الأزمة. خاصة أن أردوغان يدرك أن انخفاض كفاءة السلطات عند وقوع آخر زلزال شديد في تركيا عام 1999 هي التي قادت حزبه إلى الانتصار بعد ثلاث سنوات واعتلاء السلطة التنفيذية.
وتعرض رئيس الوزراء آنذاك بولنت أجاويد، لانتقادات حادة أخذت عليه الفشل في تنظيم عمليات الإغاثة للمنكوبين. حيث تم انتقاد التحالف الحكومي حينها، لرفضه المساعدات الدولية، وعدم نشر تفاصيل واضحة بشأن الكارثة.
أردوغان والزلزال
وبالمقارنة، أظهر أردوغان شفافية وقيادة قوية، وتعبئة سريعة لكل الموارد، ولم يجعل الأمر قضية كرامة، وقبل كل المساعدات الدولية. وإن كان قد أقر بوجود تباطؤ من الأجهزة في التعامل في البداية مع تداعيات الزلزال.
عند وقوع الزلزال، أعلن إردوغان على الفور حالة الطوارئ القصوى التي تستدعي المساعدة الدولية، وبدأ الدعم يتوافد من عشرات الدول، بما فيها خصوم إقليميين على وجه السرعة.
وحرص أردوغان الذي يتولى السلطة منذ 2003 على تفقد المنطقة المنكوبة، مقرًا بوجود تقصير، في محاولة لاستباق المعارضة وتفويت الفرصة عليها في نقد التعامل الحكومي مع الأزمة، إلا أن هذا النقد كان قد انطلق بالفعل.
وقال لدى زيارته محافظة هاتاي قرب الحدود السورية “بالطبع ثمة ثغرات، من المستحيل الاستعداد لكارثة كهذه”.
واستغل أردوغان زيارته، إلى المدينة الواقعة قرب مركز الزلزال كهرمان مرعش الأكثر تضررًا، لتوبيخ من اتهمهم بـ”استغلال الأزمة لدفع أجنداتهم الخاصة”.
وقال أردوغان، للصحفيين عقب تفقده المدينة التي دمرها الزلزال: “لا أريد أن أمنح الفرصة للاستفزازت.. لا يجب أن تمنحهم وسائل الإعلام الفرصة، الآن هو وقت الوحدة”.
هزات ارتدادية على الاقتصاد
يشير خبراء ومراقبون إلى أن الزلزال المدمر سيحمل ميزانية الدولة مليارات الدولارات الإضافية من الإنفاق، وسيخفض النمو الاقتصادي بنقطتين مئويتين هذا العام. إذ أن الحكومة ستضطر للقيام بجهود إعادة إعمار ضخمة قبل انتخابات حاسمة.
وتعرضت آلاف البنايات بما في ذلك منازل ومستشفيات. فضلًا عن طرق وخطوط أنابيب وبنية تحتية أخرى لأضرار جسيمة في المنطقة التي يسكنها حوالي 13.4 مليون نسمة.
رجب طيب أردوغان، الذي انطلق من خلفية متواضعة، تحول على مدار عقدين حكم فيهما تركيا إلى عملاق سياسي، بعدما أعاد هيكلة تركيا أكثر من أي زعيم حكم البلاد بعد مصطفى كمال أتاتورك، الأب الروحي للجمهورية الحديثة، يواجه أزمة حقيقية أخرى، متمثلة في التضخم المتنامي وأزمة تكاليف المعيشة. وهو الذي أشرف على مرحلة الازدهار الاقتصادي لتركيا في الفترة الأولى لتوليه السلطة.
وتعاني تركيا منذ سنوات من ارتفاع معدلات التضخم وانهيار العملة بسبب تبني أردوغان سياسات اقتصادية غير تقليدية.
اقرأ أيضًا: زلزال تركيا وسوريا.. تأزم اقتصادي طويل الأمد ودمار يتفاقم
وأدت دعوات أردوغان لخفض أسعار الفائدة إلى ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى في 24 عامًا عند 85% العام الماضي، وهبطت الليرة لـ10% من قيمتها مقابل الدولار على مدار العقد الماضي.
وعلى أمل تحفيز الاقتصاد، أعلن أردوغان عن خطة إنفاق عامة غير مسبوقة من حيث الحجم تتضمن دعم الطاقة ومضاعفة الحد الأدنى للأجور وزيادة المعاشات التقاعدية. فضلًا عن منح فرص لتقاعد أكثر من مليوني شخص. على أمل اللحاق بقطار الانتخابات، واستعادة الكثير من الدعم الشعبي المتناقص. ذلك بعدما تبخر النمو الاقتصادي الذي حققه خلال العقد الأول من حكمه، حتى قبل انتشار وباء كورونا، ودفع فشله في الدفاع عن الليرة، على الرغم من استهلاك أكثر من 100 مليار دولار من الاحتياطيات، ما جعل المستثمرين يتساءلون عما إذا كانت تركيا ستكون قادرة على خدمة ديونها.
هذا الانزلاق الكبير يعزز آمال المعارضة بقدرتها أخيرا على الإطاحة بأردوغان. ذلك في الوقت الذي يعد فيه تحالف أحزاب المعارضة، بالتراجع عن سياسات أردوغان الاقتصادية وتطبيق سياسة نقدية أكثر صرامة واستعادة استقلالية البنك المركزي.
أي أوغلو كمال أم أكرم؟
خلال الفترة القريبة التي سبقت الزلزال، كان أردوغان يعمل على تحجيم منافسيه المحتملين، في الوقت الذي يتوقع فيه مراقبون أن يتم تسمية كمال كليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري كمرشح رئاسي من جانب تحالف أحزاب المعارضة. فيما تطالب أصوات أخرى عمدة إسطنبول، بأكرم إمام أوغلو، والذي بات يؤرق أردوغان ودائرة الحكم المحيطة به، ليس لشيء أكثر من كون الخيارات المتاحة أمامهم بشأن التعامل معه محفوفة بالمخاطر.
ففي الشهر الماضي، منعت محكمة في إسطنبول، إمام أوغلو من ممارسة العمل السياسي، بتهمة إهانة مسئولي الانتخابات. وحكمت عليه بالسجن حوالي ثلاث سنوات، في إطار دعوى وصفها إمام أوغلو بأنها ذات دوافع سياسية.
ولا يزال إمام أوغلو على رأس عمله في منصبه، بينما يجرى النظر في الاستئناف، الذي تقدم به ضد الحكم، في الوقت الذي تخشى فيه دوائر صنع القرار داخل حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، من أن أي محاولة لمنع رئيس بلدية إسطنبول من ممارسة الحياة السياسية قد تأتي بنتائج عكسية.
وتشير تلك الدوائر في تقارير بشأن الحالة السياسية إلى أن أردوغان نفسه كان في وضع مماثل في التسعينيات من القرن الماضي، عندما كان عمدة لإسطنبول، ومُنع من ممارسة السياسة من قبل القضاء “العلماني”. حيث حوله هذا القرار وقتها إلى بطل في أعين الكثيرين، ونجح في العودة إلى الحياة السياسية بصورة مذهلة.
فرصة بين الأنقاض
تعاطي أردوغان السريع مع الأزمة بخطاب يدعو للوحدة، وعدم إنكار الأخطاء الإدارية المتعلقة بمخالفة أكواد المباني. وكذلك فتح الباب أمام المساعدات الدولية كافة، ربما جاء بنتائج إيجابية بالنسبة له، بعدما تراجعت شعبيته نسبيًا على وقع الأزمة الاقتصادية.
كما أدت الكارثة إلى تجنيب الخلافات داخل حلف الناتو. وهو ما بدا واضحًا في حديث ينس ستولتنبرج، الأمين العام للحلف، الذي أعلن أنه بعد ساعتين فقط من وقوع الزلزال أرسلوا دعوة إلى جميع حلفاء الناتو لتقديم دعم فوري لمساعدة تركيا في مواجهة عواقب الزلزال المدمر.
والبادي أن الوضع الإنساني الجديد ساهم في فتح قنوات التفاهم والحوار، وتنحية الخلافات.
وعلى المستوى الداخلي، جاء إعلان حالة الطوارئ من جانب أردوغان في 10 محافظات بالجنوب التركي، ولمدة ثلاثة أشهر، أي حتى عشية الانتخابات، بمثابة فرصة حيث سيكون بمقدور الرئيس التركي اتخاذ القرارات مباشرة دون الرجوع للولاة ورؤساء المدن المنتمين لأحزاب المعارضة في المناطق المنكوبة.
ختامًا، يمكن القول إن الزلزال الذي دمر نحو 6 آلاف بناية في تركيا، رغم أنه سيمثل عبئًا اقتصاديًا على موازنة الدولة التركية، إلا أنه يحمل فرص نجاة سياسية لأردوغان، للبقاء على رأس السلطة. خاصة أنه بالمقارنة بزلزال 1999 الذي كان سببًا مباشرًا في الإطاحة بالحكومة “العلمانية” وقتها وبدء أردوغان مشوراه السياسي في الحكم، يتضح أن الرئيس التركي تعلم الدرس جيدًا، وبدأ سريعًا في تحويل الدفة لصالحه. على الأقل هذا ما يبدو الآن لمتابعين ومحللين.