يغير قانون الرقائق (الشرائح الإلكترونية الدقيقة) والعلوم/ The CHIPS and Science Act الذي وقعه الرئيس الأمريكي جو بايدن في أغسطس/ آب 2022، ديناميكيات ومعايير التجارة التكنولوجية العالمية. حيث فرضت الولايات المتحدة قيودًا غير مسبوقة على تصدير الرقائق المتقدمة إلى الصين، مما يجعل من الصعب على بكين الحصول على المعدات الأساسية لتقنيات الذكاء الاصطناعي، التي يمكن أن تستخدمها لتقويض “الاستقرار العالمي”، كما تراه واشنطن، التي تقوم حاليًا بتجنيد حلفائها للانضمام إلى المواجهة وإنشاء “تحالف الرقائق”.
يلفت تحليل حديث لاثنين من خبراء التكنولوجيا، منشور في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي INSS، إلى أنه مع دخول حرب التكنولوجيا العالمية عامها الثالث، يبدو أن الصراع بين الولايات المتحدة والصين وصل إلى ذروة جديدة.
يقول التحليل: قبل بضعة أشهر، وقّع الرئيس بايدن قانون الشرائح والعلوم لعام 2022، والذي يخصص 52 مليار دولار لتشجيع بناء مصانع تصنيع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، وأكثر من 200 مليار دولار على مدى العقد المقبل لضمان استمرار البحث والتطوير. هذا شرط أساسي للنجاح في مجال الذكاء الاصطناعي وقدرات الحوسبة الفائقة والكمية. في الوقت نفسه، كشفت واشنطن النقاب عن قائمة شاملة من القيود المفروضة على تصدير الرقائق والتكنولوجيا إلى الصين، بهدف منع بكين من تطوير التقنيات المتقدمة.
في ظاهر الأمر، هذه خطوة اقتصادية تهدف إلى ضمان التفوق التكنولوجي للولايات المتحدة، لكنها -في الواقع- جزء من صراع أكبر حول طبيعة النظام العالمي. حيث تصمم الولايات المتحدة على تغيير مسار التجارة العالمية بطريقة غير مسبوقة، من بين أمور أخرى، بهدف “منع الهجمات على قيم الديمقراطية”.
اقرأ أيضا: واشنطن تستحضر “الحرب الباردة” لإعاقة التكنولوجيا الصينية
صعود شبحي
في مراجعة موجزة لتطور التجارة العالمية كما نعرفها اليوم، والتي كانت مدفوعة من الولايات المتحدة. في محادثات السلام بعد الحرب العالمية الثانية، قادت واشنطن التحركات لإنشاء مؤسسات اقتصادية عالمية، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات)، ودفعت باتجاه سوق عالمية حرة، حيث يمكن لكل دولة أن تتاجر في فائض إنتاجها.
عكست هذه المؤسسات طموحات الولايات المتحدة العالمية، ومكنت الدول من التعافي من ويلات الحرب. لكن، على مر السنين، أدت الاتفاقيات التجارية إلى ظهور سلسلة من الاقتصادات القوية، بما في ذلك الصين، التي انضمت إلى منظمة التجارة العالمية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، وفي غضون سنوات قليلة أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
يرى التحليل أنه كان من مصلحة الولايات المتحدة إشراك الصين في التجارة العالمية، على الرغم من قمعها لحقوق الإنسان وانتهاكاتها لأنظمة منظمة التجارة العالمية. يقول: حدد الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون القوة الاقتصادية للصين في هذا السياق التحبيزي، بحجة أن الصين ضرورية للتجارة العالمية وستكون مستعدة لتقديم تنازلات مقابل إزالة الحواجز.
لكن، بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، وحتى وقت قريب، كانت الصين المصدر الرئيسي للسلع الرخيصة، ولكنها في الوقت نفسه تمكنت من إقناع عمالقة التكنولوجيا العالمية بإنشاء مرافق داخل حدودها، واستيراد التقنيات المتقدمة في مجالات الرقائق والحوسبة الكمية. التي مكنتها من اقتحام صناعات أخرى، بما في ذلك المجالات العسكرية والأمنية.
يضيف: منذ عام 2004، ظهرت مخاوف في الولايات المتحدة بشأن كيفية وفاء الصين بالجزء الخاص بها من الاتفاقيات التجارية. حاولت الإدارات المتعاقبة تقييد التجارة مع الصين لمنعها من تطوير التكنولوجيا العسكرية التي يمكن أن تعرض الولايات المتحدة وحلفائها للخطر.
في عام 2018، بدأ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حربًا تجارية، في محاولة لمعالجة العجز التجاري، وشل عمالقة التكنولوجيا الصينية، ومنعهم من سرقة حقوق الملكية الفكرية ونسخ التكنولوجيا الأمريكية، وخاصة في مجال الاتصالات.
ومع ذلك، في نهاية المطاف، لم تخلق التحركات الأمريكية سوى القليل من التغيير. بينما استمرت طموحات الصين في أن تكون رائدة التجارة العالمية.
من السوق الحرة إلى تحالف المصلحة
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، تم انتخاب جو بايدن رئيسًا للولايات المتحدة، بعد حملة وعد فيها بإعادة الصناعات التحويلية إلى الولايات المتحدة، ردًا على عواقب الوباء “كورونا” والأضرار التي لحقت بسلاسل التوريد.
منذ بداية رئاسته، شجع بايدن عملية تشريعات تكنولوجية لتشجيع إنشاء مصانع على الأراضي الأمريكية، وفرض قيودًا أكثر شمولاً على الصادرات من أسلافه. في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية، التي نُشرت في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، سلط بايدن الضوء على المنافسة متعددة الأبعاد مع الصين، والحاجة إلى منع الصين من أن تصبح أقوى وتهدد الاستقرار العالمي، لا سيما في سياق التكنولوجيا المتقدمة وأشباه الموصلات.
وبينما تعتمد صناعة الرقائق على سلاسل التوريد العالمية. جاءت أزمة الرقائق، التي تطورت نتيجة الزخم الجيو استراتيجي، والتي تفاقمت بسبب الوباء -ومجموعة متنوعة من العوامل المستقلة الأخرى مثل الزلازل والحرائق وانقطاع التيار الكهربائي والمناخ- لتسلط الضوء على المخاطر التي تتعرض لها الولايات المتحدة، عندما يكون هذا القطاع الضروري لأمنها القومي حساسا للصدمات، التي ليست بالضرورة ضمن سيطرة واشنطن.
يوضح التحليل أنه “على الرغم من أن الولايات المتحدة تسعى إلى تشجيع التصنيع على أراضيها، إلا أنها بحاجة إلى تعاون أكبر مصنعي الرقائق في العالم. أكبر الشركات المصنعة هي تايوان، تليها اليابان وكوريا الجنوبية. الشركات في هولندا واليابان مسؤولة عن إنتاج أجهزة الطباعة الحجرية المستخدمة في تصنيع الرقائق المتقدمة”.
يقول: كل هذه المنتجات تستفيد من التكنولوجيا الأمريكية، وهذه رافعة مهمة يمكن للولايات المتحدة استخدامها لمنع التجارة مع الصين في إطار القيود الجديدة على الصادرات، وحرمان بكين من الوصول إلى التقنيات المتقدمة.
اقرأ أيضا: أمريكا والصين.. قطبية ثنائية بسمات مختلفة أبرزها استقرار أقل
تحالف الرقائق
خلقت التشريعات الأمريكية وضعاً تلتزم فيه كل دولة -أو في الواقع كل شركة- بمراجعة شراكاتها والشركات الأخرى في سلسلة التوريد الخاصة بها، من أجل ضمان الامتثال وتجنب العقوبات الأمريكية.
هنا، يشير التحليل إلى أن “هذا طلب صعب بالنظر إلى الوضع الاقتصادي للصين، واتصالاتها الوثيقة بشكل متزايد مع دول في آسيا وأوروبا، والثمن المرتفع الذي يمكن أن تدفعه هذه الدول إذا اختارت الصين الرد”.
ومع ذلك، فقد شهدت الأسابيع الأخيرة تشكيل تعاون وصفقات تشير إلى بداية التغيير، وظهور “تحالف الرقائق”.
كانت تايوان، التي تعتمد على الولايات المتحدة لأمنها في مواجهة تهديد الغزو الصيني، أول من انضم إلى الحلف. بعد فترة وجيزة من نشر القانون مع القيود المفروضة على الصين، أعلنت شركة TSMC الرائدة في تايوان عن بناء مصنعين متقدمين للرقائق في ولاية أريزونا، باستثمارات إجمالية قدرها 40 مليار دولار. حضر حفل الإعلان في ولاية أريزونا الرئيس بايدن، الذي ألقى خطابًا يوضح جدية نوايا إدارته، وتوقع “انضمام الشركاء الديمقراطيين الآخرين للولايات المتحدة إلى هذا الجهد”.
أيضا، أنهى الاتحاد الأوروبي هذا الشهر الموافقة على قانون الرقائق الأوروبية. مثل القانون الأمريكي، تهدف تشريعات الاتحاد الأوروبي إلى تقييد سلاسل التوريد وتعزيز بناء المزيد من مرافق التصنيع في القارة. وفقا لهذا، ستخصص الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حوافز بمليارات الدولارات، من أجل مضاعفة حصة أوروبا في إنتاج الرقائق إلى حوالي 20% من الإجمالي.
التحول بعيدا
يشير التحليل إلى أن “القانون الأوروبي لا يتضمن قيودًا تجارية على الصين، ولكنه ينص صراحة على أن الاتحاد الأوروبي سيكون جزءًا من سلسلة التوريد، بما في ذلك الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان”. هكذا “من المفترض أن أوروبا ملتزمة أيضًا بـ “تحالف الرقائق”.
في هذا السياق، بينما كان يتم وضع التشريع الأوروبي، أعلنت شركة Intel عن خطط لاثنين من مصانع الرقائق العملاقة (Mega-Fab) في ماجديبورج بألمانيا، والتي ستصنع الرقائق الأكثر تقدمًا في أوروبا.
وفي الأسابيع الأخيرة، وقعت هولندا واليابان -مواقع آلات الطباعة الحجرية الضرورية لتصنيع الرقائق المتقدمة- اتفاقية مشتركة مع الولايات المتحدة، وتعهدت بفرض قيود التصدير الأمريكية. ستحرم هذه الاتفاقية الصين من الوصول إلى الأدوات الأساسية، وتعيق قدرات تصنيع الرقائق المستقلة.
على الرغم من أن تفاصيل الاتفاقية سرية في هذه المرحلة، يرى التحليل أنه “من المحتمل أن تتمتع هولندا واليابان بميزة نسبية لاستيعاب التقنيات الأمريكية في المستقبل، وحزمة تعويض عن الخسائر المحتملة للصفقات مع الصين”.