“سلام من صبا بردى.. ودمع لا يكفكف يا دمشق”.
كان ذلك البيت لأمير الشعراء “أحمد شوقي” تضامنا عميقا مع المحنة السورية، التي أطلق عليها “نكبة دمشق”.
قبل قرن بالضبط كانت سوريا تتعرض لأخطر مؤامرة على وجودها ومستقبلها، بالمعنى التاريخي الموثق لا الافتراضي المحلق.
بقوة السلاح فرض الانتداب الفرنسي عليها.
قاتل السوريون ببسالة في “ميسلون”، لكنهم هزموا بفوارق السلاح.
سالت دماء في شوارع دمشق وتعرضت مبانيها وآثارها المعمارية لدمار مروع.
سلخ جبل لبنان ومناطق سورية أخرى عن الوطن الأم بذريعة حماية المسيحيين وتأسست أول دولة طائفية في الشرق العربي.
أعلن الجنرال الفرنسي “جورو” استقلال لبنان!
جرى ذلك كله بمقتضى اتفاقية سرية أطلق عليها “سايكس- بيكو” عقدت عام (1916) بين وزيري خارجية إنجلترا وفرنسا لتقاسم النفوذ في العالم العربي ووراثة الإمبراطورية العثمانية “رجل المنطقة المريض”.
بعد قرن كامل تعترض سوريا الآن مستقبلا ومصيرا نكبة أخرى مزدوجة.
شقها الأول، سيناريو التقسيم الماثل على الأرض بأثر صدامات وصراعات وحروب بالوكالة أنهكت البلد على مدى اثنتي عشر عاما ونالت من وحدة أراضيه.
وشقها الثاني، حجم الدمار والترويع الذي لحق بشمال غرب سوريا وجنوب تركيا بزلزال مدمر وهزات ارتدادية لا تتوقف، كأن قنابل نووية قصفت المكان فيما تكاد تغيب أية بنية صحية قادرة على مواجهة الموقف الصعب.
مستوى التضامن الدولي اختلف بين الحالتين التركية والسورية.
تركت سوريا وحدها تقريبا، مات مئات العالقين تحت الأنقاض لأنه لم تكن هناك آلات قادرة على رفعها، ولا كانت هناك سلطة مركزية تحكم سيطرتها على كامل أراضيها، ولا آليات تسمح بدخول المساعدات في توقيتها نظرا للعقوبات الاقتصادية القاسية المفروضة بمقتضى ما يعرف بقانون “قيصر”.
تفاقمت الخسائر دون أن ننهض لتضامن جدي وحقيقي، إنساني وسياسي، مع سوريا الجريحة، كأننا نسينا أنه ضمتنا ذات يوم دولة واحدة وجمعنا دوما مصير واحد.
الأمم المتحدة اعتذرت عن التأخير في إيصال المساعدات الإنسانية اللازمة على إنقاذ حياة العالقين تحت الأنقاض، أو إبقاء المشردين بأثر الزلزال على قيد الحياة بتوفير احتياجات طبية وغذائية عاجلة وخيام وملابس تقييهم الصقيع.
مرت تسعة أيام كاملة حتى دخول أول قافلة مساعدات دولية للداخل السوري.
كان ذلك حكما بالموت على أعداد كبيرة من ضحايا الزلزال لا ينفع معه اعتذار.
في النكبة الأولى لم يكن في مصر تنبها كافيا لما كان يجري في سوريا من انقلابات استراتيجية دامية ومصائر معلقة على مجهول.
لم يكن “شوقي” شاعرا ثوريا لكن موهبته الفذة ألهمته إدراك الحقائق الأساسية.
“دم الثوار تعرفه فرنسا
وتعلم أنه نور وحق”
كان ذلك البيت في نفس القصيدة رسالة صريحة إلى قوات الاحتلال البريطاني في مصر، التي كانت ما زالت جاثمة على صدرها رغم الثورة الشعبية في (1919) طلبا للاستقلال والدستور.
بإلهام الشعر شاع استخدام البيت نفسه خمسينيات القرن الماضي دعما وتأييدا للثورة الجزائرية على أثير “صوت العرب”.
بين النكبتين السوريتين الأولى والمستجدة لم يتوقف الصراع على سوريا ومستقبلها.
قبل الوحدة مع مصر في فبراير (1958) كانت سوريا مهددة في صميم وحدتها الداخلية ومكشوفة لضغوط إسرائيلية وتدخلات تركية، ومشروعات انقلابات عسكرية، أو غزو من الخارج، يقوده رئيس الوزراء العراقي “نوري السعيد”، الرجل الذي ارتبط أكثر من غيره بسياسة الأحلاف العسكرية في المنطقة.
اكتسب مشروع الوحدة زخمه في الشارع السوري كمشروع إنقاذ وطني تقاطع مع توجهات متأصلة في طلب الوحدة العربية.
بحكم موقعها الجغرافي لم يكن ممكنًا لسوريا أن تنغلق على نفسها تحت أي ادعاء، أو أن يكون لها مستقبل خارج عالمها العربي بأية ذريعة.
بحقائق الجغرافيا السياسية إذا ما سقطت سوريا تتقوض مصر ويخسر العالم العربي كله أية مناعة تحول دون تفكيك دوله والتلاعب بمصائره.
هذه واحدة من بديهيات نظرية الأمن القومي.
بعد حرب السويس عام (١٩٥٦) وفشل إخضاع مصر وضعت خطة أطلق عليها “استراجل”.
كانت تقضي بأن إسقاط سوريا يفضي مباشرة إلى عزل مصر وبعثرة العالم العربي.
وقد كشف عنها- ربما لأول مرة- الأستاذ “محمد حسنين هيكل” عام (٢٠٠٧) في حديث تليفزيوني.
في (٢٨) سبتمبر (١٩٦١) جرى فصم الوحدة المصرية- السورية بانقلاب عسكري رعته الاستخبارات الأمريكية، ومولته المملكة العربية السعودية، وشاركت فيه الأردن، وآزرته تركيا، وهللت له إسرائيل.
سأل “عبدالناصر” الملك “سعود بن عبدالعزيز”، بعد أن جاء للقاهرة لاجئًا سياسيًا عقب إطاحته: “هل صحيح أنك دفعت ٧ ملايين جنيه إسترليني حتى يتم الانفصال؟”.
أجابه: “طال عمرك.. ١٢ مليون جنيه إسترليني!”.
رغم الخطط والمؤامرات على الوحدة المصرية- السورية، وكلها ثابتة في وثائق وشهادات واعترافات، إلا أنها سقطت من داخلها قبل أي فعل خارجي، وساعدت أخطاء جوهرية بصميم التجربة على تسهيل الانقلاب.
قالوا إن الوحدة “وهم ناصري”، وأن مصر فرعونية، أو شرق أوسطية، أو أي شيء آخر غير أن تكون عربية، لكن الحقائق تغلب باستمرار.
مصر- بالثقافة والهوية والجغرافيا والتاريخ- مشدودة إلى محيطها العربي، المصائر مشتركة، والقضايا واحدة وعندما تنكرت مصر لأدوارها جرى ما جرى لها من تهميش وتراجع في المكانة.
يستلفت الانتباه في أداء “عبدالناصر” لحظة الانفصال مدى إدراكه للحقائق في سوريا وخشيته على مستقبلها.
بعد الانفصال بأسبوع قال في خطاب بثته الإذاعة المصرية، كأنه يقرأ طالع أيام لم تأتِ بعد: “إن الوحدة الوطنية في الوطن السوري تحتل المكانة الأولى.. إن قوة سوريا قوة للأمة العربية وعزة سوريا عزة للمستقبل العربي والوحدة الوطنية في سوريا دعامة للوحدة العربية وأسبابها الحقيقية”.
“لست أريد أن أقيم حصارًا سياسيًا أو دبلوماسيًا من حول سوريا، فإن الشعب السوري في النهاية سوف يكون هو الذي يعاني من هذا الحصار القاسي”.
وكان مما قال في ظروف الانفصال: “ليس مهمًا أن تبقى الوحدة، المهم أن تبقى سوريا”.
القضية ليست مستقبل نظام “بشار الأسد” إنما مستقبل سوريا نفسها.
أسوأ ما جرى قبل الزلزال وبعده أننا لم نحاول على أي نحو ولا في أي وقت أن نجد حلا سياسيا للأزمة السورية رغم أنها تتعلق مباشرة بأمننا القومي.
استبعدت مصر تقريبا من أية مداولات دولية بشأن الأزمة السورية.
بتعبير وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “جون كيري” في لقاء ضمه إلى وزير الخارجية المصري الأسبق “نبيل فهمي” بواشنطن: “عندما يكون لمصر دور ومعها أوراق فإنها سوف تكون طرفا رئيسيا في إيجاد حل للأزمة السورية”.
كانت تلك مصارحة بالحقيقة.
المشكلة أن مصر انكفأت وتخلت عن أدوارها القيادية في المنطقة وخرجت من الصراع العربي- الإسرائيلي بعد “كامب ديفيد”.
في أجواء المأساة الإنسانية المروعة بالشمال السوري حاولت إسرائيل الاستثمار فيها بالادعاء أن دمشق طلبت عبر الكرملين مساعدات إنسانية عاجلة.
الادعاء بنصه ورسالته، رغم النفي السوري والروسي معا، تعبير عن خواء سياسي واستراتيجي في العالم العربي، الذي ضبط إيقاعه السياسي على نصوص وأحكام “قانون قيصر” لإحكام العقوبات الاقتصادية على سوريا.
أرادت إسرائيل أن تسبغ على نفسها صفة إنسانية، أو أن تكون دولة طبيعية في المنطقة تهرع لنجدة جيرانها إذا ما ألمت بهم كوارث.
بالوقت نفسه حذرت من استغلال الزلزال لإدخال سلاح إيراني إلى سوريا وحزب الله ملوحة بما أسمته “الحزم العسكري”.
رسالتان متناقضتان في مشهد واحد.. إحداهما إنسانية مدعاة والأخرى عسكرية معتادة.
بدورهم بدا الأمريكيون والأوروبيون مرتبكين بين اعتبارين متناقضين.
الأول، حصار سوريا حتى تخضع نهائيا لما يريدونه.
والثاني، الإحراج الدبلوماسي والأخلاقي من عدم مد يد العون للضحايا السوريين باسم المشاكل اللوجيستية وعدم السماح للنظام السوري أن يستفيد من مأساة الزلزال.
لتجاوز ذلك الإحراج أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية تخفيف القيود على وصول المساعدات الإنسانية لمتضرري الزلزال في سوريا كـ”استثناء من قيود قانون قيصر”.
لم يسمع صوتا في العالم العربي يعمل بجدية على إنهاء عزلة سوريا وإعادة دمجها في عالمها العربي، ولا ارتفع صوت واحد يدعو إلى عدم الاعتداد بقانون “قيصر”، أو عودة سوريا إلى الجامعة العربية، أو مساعدة السوريين في البحث عن تسوية سياسية تلملم جراحهم.
كانت تلك قمة المأساة.
بقدرة الشعر على تلمس الحقائق صاغ “شوقي” في قصيدته الملهمة، واحدة من أبجديات الأمن القومي والمصير العربي المشترك.
“..عز الشرق أوله دمشق”
“نصرتم يوم محنته أخاكم
وكل أخ بنصر أخيه حق”.