أحالتني تصريحات النجم يحيى الفخراني عن ما وصفه بـ “الأثر العكسي” الذي أحدثه مسلسل “ونوس“، من تأليف الأستاذ عبد الرحيم كمال، حيث “أحب الجمهور  الشخصية”، والشخصية في المسلسل – لمن لا  يعرف- كانت تمثل الشيطان. أحالتني تلك التصريحات إلى فيلم نعرفه جميعا، أنتج من حوالي ثلاثين عاما، هو فيلم “الإرهابي” للنجم عادل إمام ومن تأليف لينين الرملي.

في نهاية الفيلم، كما نعرف، يُقتل الإرهابي علي عبد الظاهر (عادل إمام) الذي انتحل اسم وصفة دكتور الفلسفة مصطفى عبد الرحمن وعاش متخفيا وسط أسرة الدكتور عبد المنعم (صلاح ذو الفقار في آخر أدواره). المشكلة هنا، أن عادل إمام، أيا كان الدور الذي يلعبه،سوف يكتسب حب الجمهور، ومن ثم فإن حدث مقتله/ مقتل الإرهابي لو حدث بواسطة رصاص البوليس، قد يؤدي   إلى أثر عكسي، لأن “القتيل” في النهاية هو عادل إمام. ومن ثم فقد كان ما عمد إليه السيناريو، أن يجعل مقتل الإرهابي على يد الجماعة الإرهابية نفسها، وبهذا يتم تفادي أي انحراف للشحنة الشعورية التي يشعر بها المشاهد مع نهاية الفيلم.

هكذا كان الحل في السيناريو ببساطة، وأعتقد أنه حتى لو لم يكن هذا الحل موجودا في سيناريو  لينين الرملي، أو لو كان للفيلم كاتب آخر، فإن مسألة كتلك لم تكن لتفوت على نجم مخضرم كعادل إمام، أو المخرج نادر جلال.

بالطبع، بما أن ونوس – في مسلسل الفخراني – كان يرمز للشيطان، فإن مقتله في المسلسل لم يكن مطروحا، وأيا كان سيتجه مسار الأحداث، فإن حب الجمهور لشخصية يؤديها الفخراني على مدار ثلاثين يوما مسألة لا مفر منها تقريبا، لقد أدى نجوم محبوبون أدوارا شريرة في أفلام، ربما من أبرزها دور المحامي الشرير الذي قدمه عبد المنعم مدبولي في فيلم “الحب في الزنزانة”، لكن أن “يكره” الجمهور دورا لمدبولي أو عادل إمام أو الفخراني في مسلسل يمتد عرضه لشهر كامل، فهي مسألة مستبعدة، حتى بغض النظر عن السيناريو. لكن في التصريحات نفسها، والتي أدلى بها الفخراني أثناء جلسة لمجلس الشيوخ تناقش “العنف الأسري”، قال النجم الكبير، إن الأعمال الدرامية لمواجهة التفكك الأسري تحتاج كتابة جيدة، مضيفا أنه “لا يوجد عندنا كتاب كويسين”.

في الواقع إنني قرأت تصريحات الفخراني في صيغتين بينهما اختلاف طفيف، فقد نشرت صحف أنه قال “لا يوجد عندنا كتاب كويسين”، ونشرت صحف غيرها أنه قال “لا يوجد عندنا كتاب (كتير) كويسين”.

وأيا كان، فإن الشكوى من عدم وجود كتاب جيدين، هي شكوى قديمة تلخصها العبارة الشهيرة في الوسط الفني المصري:”مفيش ورق”. والمقصود بالورق هنا هو السيناريو أو حتى الأفكار.

تُستخدم عبارة “مفيش ورق” عادة للرد على الانتقادات الموجهة للإسفاف، أو سوء المستوى، وتكرار الأفكار، أو شيوع السرقة والاقتباس، وغيرها من الأمراض الفنية. إنها عبارة سهلة، مريحة، ترد الاتهام فورا إلى أصحابه، و”تريح دماغ” صناع الأفلام من الاجتهاد للبحث عن أو توفير “ورق” جيد. عن طريق افتراض أن المواهب قد انقرضت، لأسباب غامضة، ولم يتبق منها بالطبع إلا مواهب الإخراج والتمثيل والإنتاج، فمصر دائما ولادة لكل ذلك، أما التأليف أو “الورق”، فـ “مفيش”.

ولا أعرف إن كان الأمر مصادفة، أم كان المخرج  السينمائي محمد صقر يعلق على تصريحات الفخراني، فقد كتب بعد يومين  على صفحته على موقع فيسبوك يقول” لي صديق قديم كان دايماً بيقنعني إن يأسي من وجود مواهب جديدة في الكتابة في مصر سببه كسلي الشديد وإني لازم انفتح على سيناريوهات كاتبينها شباب أو مش شباب لكن مش لاقيين فرص عشان مش معروفين. بصراحة حسيت ان معاه حق وبعد فترة من الإنغلاق بدأت فعلاً أقرأ سيناريوهات واشتغل كتير جداً مع كتاب جُدد. طلعت في الآخر باتنين بس. و طلع مفيش مواهب كتير ولا حاجة”.

إذا كان السيد صقر جديا في كلامه، فربما ينبغي أن ينتبه إلى حقيقة قد تكون غائبة عنه، ألا وهي، أن المواهب بطبيعتها عملة نادرة، لا نجدها تحت كل حجر أو عند كل زاوية، وأنه إذا كان قد استطاع وحده أن يعثر على موهبتين، أو على حد قوله “طلع باتنين”، فإن تلك نتيجة ممتازة، ولو أن في مصر عشرين أو ثلاثين مخرجا فقط، وجد كل منهم “اتنين” لأصبح لدينا أربعين أو ستين كاتبا موهوبا، وهو رقم عظيم!

لكن لا بد أن الأستاذ صقر يعرف، كما أن النجم الكبير الفخراني، يعرف، وغيرهما يعرفون، أن “موهبة” كتابة السيناريو ليست شيئا تعثر عليه، بقدر ما هي شيء يتم صناعته، فمهنة كتابة السيناريو من المهن الحديثة، المركبة، المرتبطة بطبيعتها بفن السينما بصفته فنا بصريا، وهكذا فإنك لن تصطدم – في إحدى المدارس مثلا- بكاتب سيناريو موهوب كما تصطدم بصوت جميل أو لاعب كرة أو حتى شاعرا أو كاتب قصة.

في تسجيل شهير، يتحدث النجم الراحل فريد شوقي عن علاقته بعميد الرواية العربية نجيب محفوظ الذي كتب سيناريو فيلم “جعلوني مجرما”، يحكي “وحش الشاشة” عن اجتماعاته بصاحب الثلاثية ومخرج الفيلم عاطف سالم، ثم يختم حديثه مذهولا بأن محفوظ رد قيمة النقود التي حصل عليها كأجر عن السيناريو، لأنه – حسبما قال – قد استفاد وتعلم في هذه الاجتماعات. لاحظ أننا نتكلم عن محفوظ لا أقل، والذي، بالإضافة إلى منجزه الروائي العظيم، صار له نصيب الأسد في كتابة سيناريو أو القصص السينمائية للأفلام في قائمة أهم مئة فيلم مصري، لكنه قبل ذلك، تعلم أولا.

لقد جاء محفوظ من عالم الرواية وارتبط سينمائيا – أغلب الوقت – بصلاح أبو سيف، لكن قائمة كتاب السيناريو المصريين طالما حفلت بالأسماء الكبرى، قديما وحديثا، ومنها اليوم شبان موهوبون يجتهدون في التلفزيون وفي السينما ويقدمون أعمالا مميزة تتنافس على عرضها منصات المشاهدة، وبعضهم ساهم في صنع أفلام حصدت جوائز في مهرجانات عالمية كبرى في السنوات الأخيرة،  لكن عبارة “مفيش ورق” مريحة لمن يحبون الاستسهال، وللنجوم الذين يتحدثون عن نقص المواهب وهم يواصلون إنتاج أفلام تزداد سوءا كل عام.