من التقاليد التي استقرت عليها دولة يوليو 1952 التماهي/التطابق بين الدولة والنظام والقيادة السياسية؛ بمعنى صدور الثلاثة عن إرادة واحدة هي غالبا إرادة الرئيس – أو هكذا كان التصور.

تتكون الكثير من السياسات المصرية منذ حركة الضباط الأحرار من محاولة إعادة بناء نظام حول رئيس قوي لديه خلفية عسكرية، واستخدام ذلك لبناء دولة متماسكة تحمي أمن المجتمع والدولة – وفق التعريف الذي يحدده الحاكم و النظام.

برغم هذه الحقيقة إلا أن درجة التمييز بين الثلاثة -القيادة والنظام والدولة- اختلفت من رئيس لآخر، كما إن كل رئيس استخدم طرقا متباينة لتحقيق الهيمنة على النظام والدولة.

الطريقة التي يتفاعل بها الحاكم والنظام والدولة متداخلة وقد تصل إلى حد التطابق -كما نشهد في الفترة الحالية، ولكنها تعمل بطرق مختلفة من رئيس لآخر، وقد تختلف درجة التطابق وطريقة تحقيقها لدى نفس الرئيس من فترة لأخرى.

في الخمسينيات والستينيات تلاشى التمييز بين الثلاثة إلى حد كبير برغم عدم سيطرة عبد الناصر (1954-1970) الكاملة على الجيش حتى نكسة 67، وبرغم شكواه المتعددة من تعطيل البيروقراطية لبعض قراراته.

بدأ السادات (1970-1981) عهده بما أطلق عليه “ثورة التصحيح” -مايو 1971- معلنا سيطرته الكاملة على النظام السياسي ومفاصل الدولة الأساسية.

تجربة مبارك (1981-2011) في الحكم مختلفة؛ إذ أدرك مبكرا ضرورة ترك فراغات في بعض المساحات لتملأ بالفاعلين الاجتماعيين مع سيطرته على المركز السياسي والاقتصادي. تميزت سنوات حكم مبارك الأخيرة بإدارة التنافس بين مكونات الدولة المختلفة -خاصة بين جناح لجنة السياسات وبين مكونات أخرى من الدولة على رأسها المؤسسة العسكرية. كان الفشل في تحقيق التوازن بين هذه المكونات أحد الأسباب الأساسية لثورة يناير.

في الفترة المحدودة من 2011 حتى 2013 بدأنا نشهد ظاهرة مختلفة وهي التمييز بين المكونات الثلاثة بل والصراع بينها، وقد تلاشى هذا التمييز سريعا بعد 2013 لنشهد حركة “استرداد” للدولة وإعادة بناء للنظام السياسي تحت قيادة جديدة تدرك ضرورة صدور الثلاثة عن معين واحد ومن إرادة واحدة بهدف تحقيق أهداف عدة ولمعالجة تداعيات كثيرة.

لكن ماهي الدوافع وراء ذلك؟ وماهي الاستراتيجات التي اتبعت لتحقيق ذلك؟ وما هي التداعيات على القيادة والدولة والنظام السياسي جراء ذلك؟

هذا ما سيسعى هذا المقال لشرحه.

الدوافع

تشابكت ثلاثة عوامل لتدفع بهذا التطابق الذي نشهده الآن:

1- لحظة يناير التي أبرزت مدى هشاشة هياكل الدولة وعدم قدرتها على تلبية الحاجات العامة للمصريين ومعالجة التحديات الخارجية والداخلية التي تواجه الدولة والمجتمع علي السواء، والأهم من وجهة نظري أنها ولأول مرة بعد يوليو 52 أبرزت أن الدولة ليست كيانا مصمتا يتسامى ويعلو فوق المصريين -كما قدمته يوليو 52- ولكنه محل للصراع الاجتماعي والسياسي من فئات اجتماعية تتعارض مصالحها وتتباين رؤاها للدولة والمجتمع.

شهدت عديد المؤسسات صراعا داخلها بين منتسبيها من المستويات الإدارية الدنيا والوسطى تجاه قيادات هذه المؤسسات التي استأثرت بالامتيازات والمنافع على حساب الآخرين، كما شهدنا حركة مطالبات اجتماعية تجاه الدولة تمثلت في تعيين المؤقتين في الوظائف بشكل دائم بالإضافة إلى زيادة الأجور، وهي حركات تم وصمها مبكرا من قطاعات من النخبة بالمطالب الفئوية.

وبرغم تداعيات يناير على النظام السياسي ورأسه الذي تنحى أو تم عزله، إلا أن أدوار ووظائف الدولة اليومية استمرت في تقديم خدماتها الأساسية للمواطنين، واستطاع المصريون في أحيان أن يملأوا الفراغ الذي خلفته الدولة عند انسحابها في بواكير الثورة.

استطاعت اللجان الشعبية أن تملأ فراغ الأمن الذي خلفته وزارة الداخلية، كما استطاعت أن تلعب دورا هاما في تنظيم تقديم بعض الخدمات التي عجزت الدولة أن تقوم بها. لجأت الدولة -وقد كانت في حالة هشاشة شديدة- إلى بعض الفاعلين الاجتماعيين للتعامل مع بعض المشكلات التي عجزت عن التصرف فيها -كما جرى في العنف الطائفي.

كان المطلوب بعد 2013 “استرداد الدولة” -كما هي في حركة الاسترداد المسيحي في أسبانيا القرون الوسطى- من المصريين باحداث قدر من التماسك بين مؤسساتها لمعالجة: تداعيات هذه اللحظة، ولتعود الدولة إلى حقيقتها الأولى -كما قدمتها يوليو 52، ولتقضي على حالة الانقسام بين مكوناتها -كما شهدتها سنوات مبارك الأخيرة، وأخيرا وليس آخرا؛ لـ”تحريرها” من “غزو” الإخوان – الوافد الجديد الذي “احتل” قمة السلطة بأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر الحديث.

2- حشد قوة الدولة وراء قائد تمتع بشعبية كبيرة لمواجهة التهديدات التي أعقبت 2013 والتي تم توصيفها مبكرا وقبل تصاعد داعش بالحرب على الإرهاب، وأضيف إليها عدم الانزلاق لحالة الفوضى التي طالت بعض دول المنطقة في أعقاب الموجة الأولى من الربيع العربي 2011/2010.

3- حشد موارد الدولة والمجتمع والنظام السياسي معا للحفاظ على الدولة، وقد تطلب ذلك بناء نظام سياسي متحرر من القيود التي يمكن أن يفرضها المجال السياسي أو حتى القيود الآتية من الصراع الاجتماعي -كما قدمت.

كان تماسك الدولة ضروريا لإدارة عملية تفاوض موسعة مع الأطراف الخارجية -خاصة في الخليج- من أجل الوصول إلى الموارد اللازمة للتعامل مع الاحتياجات الداخلية، وما يرتبط بذلك من القدرة على تقديم خدمات استراتيجية -خاصة في مجال الأمن- تطلبها هذه الاطراف، كما في اليمن وليبيا وأمن البحر الأحمر.

كان الهدف -إذن- تعبئة الموارد المحلية التي هي غير كافية، واستقبال الموارد الخارجية اللازمة لخروج النظام والدولة من أزمتهما بما يحقق للقيادة مزيدا من الشرعية.

الاستراتجيات

طرق ست جرى بها استرداد الدولة وإحداث التطابق بين الرئيس والدولة والنظام:

1- الدولة كأيديولوجيا يسعى الجميع للحفاظ عليها. تحولت الدولة في هذا التصور إلي مقدس يرسم دور الأمة تجاهها، ويضفي الشرعية على القيادة التي استدعاها التاريخ لتقوم بهذا الدور في هذه اللحظة ومن خلال حشد جميع الطاقات والموارد خلفها، وهي -أي القيادة- تتصف بصفات خلقية ودينية وفي أحيان غيبية تضمن قيامها بهذا الدور.

دعم من هذا التصور “عقيدة الأمن القومي” التي هي صفة لصيقة بمفهوم الدولة، ولكنه في هذا الصعيد مفهوم شامل متسع يمتد من بوست أو تدوينة على السوشال ميديا إلى سد النهضة.

جرى إشاعة هذا المفهوم وتعميمه في الخطاب الإعلامي، وتم التأكيد عليه في مؤسسات الدولة المختلفة من خلال تدريب القيادات الوسيطة والعليا بالإضافة إلى المعينين الجدد تدريبا منظما في الأكاديميات العسكرية المختلفة.

2- تصحير المجال العام؛ فالحفاظ على الدولة بعقيدة الأمن القومي لا يتطلب بأية حال سياسات خلافية صراعية وإنما حشد الجميع في صعيد واحد ومن يشذ فهو في النار – نار السجون أو المنافي أو نار الاستبعاد والتهميش.

تحولت مصر إلى صوت واحد هو صوت القيادة السياسية، وهذا وإن أخفى الأصوات الأخري للمصريين لفترة؛ لكنه لا يمكن أن يخفيها دائما -وهذا ما يحدث الآن، ولكن هل يتم الإصغاء للأصوات المتعددة في مصر؟

نمط السياسة لم يعد اكتشاف الأصوات المتعددة والتعبير عنها أو تمثيلها، لكن صوت الرئيس ارتفع وأخفى الأصوات الأخرى، فطالما أظهر المصريون -طوال تاريخهم -علامات متفاوتة على النشاط الاجتماعي، وحاولت المجموعات القوية التأثير على السياسة الرسمية، وكانت سياسة الرئيس هي اكتشاف والتعبير عن ذلك أو المناورة معه أو استيعابه.

3- جعل الرئاسة مركزية في النظام وفي الدولة؛ فهي الأول والآخر، ومنها المبتدأ وإليها المنتهى.

انتهت فكرة الفصل بين السلطات، وتم التحكم من قبل الرئيس في تعيين رئاسات المؤسسات جميعا بما قضى على استقلالها الذاتي في تسيير أمورها الداخلية، وتركزت دائرة صنع القرار واتخاذه في مجموعة ضيقة تحيط بالرئيس، وأصبح غير المرئي منها أكثر من المنظور.

وهنا ملاحظة جديرة بالاعتبار تمثل اختلافا فارقا بين نمط الجمهورية الجديدة ونمط دولة يوليو 52 وهي: أن رؤساء يوليو الثلاثة قد استخدموا بعض التشكيلات السياسية التي اختلفت من فترة لأخرى لتحقيق سيطرتهم على بعض مكونات الدولة والنظام، في حين انتفت تماما في الجمهورية الجديدة هذه التشكيلات السياسية، وإن وجدت فهي شكلية وهامشية إلى حد كبير.

أنشأ عبد الناصر الاتحاد الاشتراكي ليوازن قوة عبد الحكيم عامر المسيطر على الجيش، واستطاع به أن يهيمن على الصحافة والبرلمان والنقابات العمالية والمهنية، واستخدم السادات ومبارك الحزب السياسي لأغراض متعددة منها التجنيد للوزارات المختلفة والمناصب الأساسية في الدولة، والتحكم والسيطرة على البرلمان وكثير من مؤسسات المجتمع المدني من نقابات وغيرها، بالإضافة إلى الحشد والتعبئة في المجتمع وبما يضمن مواجهة القوى الأخرى التي يمكن أن تحشد ضدهما.

غياب الجهاز السياسي الفاعل للجمهورية الجديدة ترك فراغا، والأهم أنه جعل القدرة على الحشد والتعبئة الجماهيرية محدودة برغم تحققها في المرحلة الأولى من تأسيس النظام وطلبها الدائم له -خاصة في الفترة الأخيرة لمواجهة الأزمة الاقتصادية.

4- أمننة وعسكرة في كل ساحة؛ فالشعور بالتهديد وإشاعته، واجتثاث الإخوان من الدولة والمجتمع، ومنع الاحتجاجات الاجتماعية، وإدارة العمليات الانتخابية… إلخ استدعى دورا أمنيًا متسعا وشاملا.

في الجمهورية الجديدة تم تصور أن الدولة قادرة على مواجهة التهديدات -وهي غير قادرة وحدها، ولذا كان من الضروري التماهي بين القيادة والدولة والنظام لحد التطابق خوفا من تسرب التهديد إليها، وحشد الطاقة والموارد نحو الجمهورية الجديدة.
استدعى الإنجاز السريع وتحقيق تقدم ملموس يستشعره المواطن سريعا وعدم تجاوب القطاع الخاص الكبير مع نداءات القيادة أن يضطلع الجيش بدور قائد وأساسي في عمليات التنمية في كل مجال بما يشبه طبعة جديدة من رأسمالية الدولة.

تصور البعض أنه يمكن التغلب علي ضعف وهشاشة وفساد البيروقراطية المدنية وعدم قدرتها على الاستجابة السريعة لمتطلبات القيادة؛ تصور البعض أنه يمكن التغلب على ذلك بمزيد من حضور العسكريين السابقين في جهاز الدولة أو بجوار جهاز الدولة – كما تم في تعيين مستشار عسكري لكل محافظ من العسكريين الحاليين برغم غلبة العسكريين المتقاعدين على منصب المحافظ.

5- مشروعية قانونية محكمة، وكله بالقانون -كما يقول المصريون.

أدخلت بشكل شامل صلاحيات الرئاسة في الإطار القانوني المصري فلا تعيين في المناصب الرئيسية لجهاز الدولة إلا بموافقتها -كما ينص القانون، وهو ما قضى على استقلالها الذاتي في تسيير أمورها- كما قدمت، ولكنه في النهاية اعتمد على الولاء والثقة الذي تلعب الأجهزة الأمنية الدور الأساسي في تحديده، وامتد هذا من التعيين ليشمل أيضا النشاط الذاتي والاجراءات الروتينية؛ فليس من غير المعتاد سماع إحالة الإجراءات الرسمية (حتى رحلة خارجية من قبل عضو في البرلمان أو الجامعات) إلى الهيئات الأمنية للحصول على موافقتها (أو رفضها)، مما يؤخر كل أنواع العمل الحكومي.

امتدت المزايدات إلى كثير من المسئولين -تحت دعاوى الأخونة ومواجهة التهديدات- واستخدمت لتصفية الحسابات والتغطية على شبكات الامتياز والفساد، وبات من الواضح أنه في مصر اليوم، تشعر هياكل الدولة بالحاجة إلى ضمان حصول حتى بعض الأمور الروتينية على موافقة من أحد الأجهزة الأمنية المصرية.

6- تقليل العنصر البشري في عمل البيروقراطية المصرية لصالح التكنولوجيا وبما يضمن توفير قدر هائل من المعلومات تسمح بمزيد من السيطرة ورؤية ما لا تراه القيادة والنظام والدولة من حركة المجتمع والأموال فيه -كما صرح الرئيس نفسه عند افتتاحه أحد مشروعات بناء قواعد المعلومات التي أطلق عليها وقتها عقل الدولة المصرية.

تتمثل رؤية تحديث الدولة في إصلاح الجهاز الإداري من خلال إجراءات موسعة لتقليل الاعتماد على العنصر البشري في مقابل الاعتماد على التكنولوجيا وتطوير حكومة ذكية وإنشاء بنية تكنولوجية متقدمة لهذا الجهاز، مع تقليص عدد العاملين في الجهاز البيروقراطي للدولة بما يضمن الوصول إلى البيانات والمعلومات بشكل آلى وتحليلها وتوظيفها لمزيد من السيطرة والتحكم.

التداعيات والآثار

لن أناقش في هذا المقال إمكانية السيطرة الكاملة على الدولة المصرية في ظل اتساع مجالات عملها باستمرار منذ يوليو 52 وتعقد أدوارها، ناهيك عن تآكل هياكل الدولة المعاصرة وتحولها بحكم عوامل متعددة إلى شبكات تتمحور حول المصالح أكثر من اعتمادها على الهياكل والبنى.

لم يحدث أن سيطر النظام على الدولة سيطرة كاملة في أي مرحلة تاريخية – هذا وهم.

بعبارة أخرى لا يمكن الحديث عن فكرة التماسك الكامل لأجهزة الدولة في الزمن المعاصر، وهي وإن تماسكت في مستوياتها العليا إلا أن تأثير ذلك علي الاستقرار أصبح محل تساؤل -كما ناقشته في مقال سابق.

1- أولى هذه التداعيات هو القضاء على الميراث التاريخي الذي راكمته الدولة المصرية على مدار القرنين وهو قدرة مؤسسات الدولة على الاستمرار في أداء وظائفها بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي ونمط القيادة السياسية، وهنا يمكن الإشارة إلى التراجع الذي تشهده مصر على مقياس المؤشرات الأساسية من تعليم وفساد وحكم القانون وصحة… إلخ.

من الظواهر الملفتة هو ما أطلق عليه المستشار طارق البشري -رحمه الله- سابقا “إطفاء المكينات” ويقصد به قيام قيادة المؤسسات المختلفة بعدم العمل بكفاءة وقوة انتظارا لحركة التعيينات الجديدة، وهي ظاهرة نشأت في أواخر سني مبارك نتيجة تغيير القوانين التي تحصن الموظف العام من العزل بتقليص مدة استمراره في الوظيفة وضرورة موافقة قياداته ليضمن الاستمرار فيها، وقد استمر هذا المنحى في الجمهورية الجديدة وأضيف إليه الموافقات الأمنية اللازمة لشغل الوظيفة والاستمرار فيها.

2- في الأزمة الاقتصادية الحالية يحمل المصريون بشكل مباشر القيادة السياسية المسئولية الكاملة عنها، ليس لأنه يتصدر المشهد فقط ولكن المؤسسات جميعا اختفت خلفه ولم يعد مجديا -كما كان يفعل مبارك- تغيير بعض الوجوه في الحكومة لإعطاء إحساس بالتغيير وتحميلها مسئولية الفشل، بل امتدت المطالبات لتغيير كلي في السياسات وأرجو مخلصا ألا تمتد أكثر من ذلك.

3- كيف ينتظم المجتمع في ظل التطابق بين القيادة والدولة والمجتمع.

نحن نشهد في الجمهورية الجديدة الانتقال من دولة رعوية -ترعى فيها الدولة مواطنيها كما في طبعة يوليو 52- إلى دولة يحكمها اقتصاد السوق المرتكز على القطاع الخاص وتدفق الاستثمار الأجنبي والانفتاح أو الاندماج في الأسواق الخارجية.

هنا تبرز تناقضات الجمهورية الجديدة؛ فالمجتمع مطلوب منه أن ينتظم حفاظا على الدولة ووفق ما تمليه القيادة من مقتضيات على الأمة لتحقيق ذلك، في الوقت الذي تتحرك فيه الدولة نحو اقتصاد السوق بمقتضياته التي يحكمها الربح.

ظهر هذا التناقض بشكل جلي في معالجة الدولة لشراء الحبوب من الفلاحين؛ فهي تتعامل معهم وفق سياسات دولة يوليو 52 ولكن في سياقات الجمهورية الجديدة. في الأولى الدولة تحدد الأسعار وفي الثانية فإن الربح غالب.

إن هذا المثل وغيره من الوقائع يثبت خطأ التصور القائل بأن: الدولة طرف محايد (وليست ساحة للصراع بين الأطراف المختلفة)، وهي قوة لتوجيه الجميع، ويمكن أن تكون هدفا للتعبئة حولها واستقرارها أو بقائها والحفاظ عليها، وهذا كله يجب أن يكون هدف المجتمع.

في السوق يسود منطق الربح في مقابل التعبئة للدولة أو الصالح العام.

4- عدم الانفتاح في صنع السياسات العامة التي تمثل أساسا في أولويات الإنفاق العام خلق خصومة بين الدولة والمجتمع.
كيف يدرك المواطن المصري الآن دولته؟ سؤال يحتاج أن نوليه اهتماما كبيرا، ولكن نشير سريعا -على أن نخصص له مقالا مستقلا- أنه بات يقوم على استشعار الجباية وفكرة المواطن الزبون الذي يجب أن يدفع دائما وفي كل وقت دون مساءلة للجهة التي يدفع لها ودون شفافية أو حوكمة رشيدة وفي أحيان دون منطق مقنع.

5- ضعف الخدمات العامة وفق أولويات المواطن؛ فقد اقتضت السياسات التمييزية والمحاباة لبعض أجهزة الدولة على حساب مؤسسات أخرى لما تقوم به الأولى من دور في إحداث التماسك للدولة ومواجهة التهديدات التي تتعرض لها، ترتب على سياسات المحاباة هذه عدم تخصيص الموارد الكافية للصحة والتعليم -على سبيل المثال- بما أدى إلى تراجع شديد في نوعية الخدمات المقدمة في هذين القطاعين. برز ذلك جليا في أزمة كورونا وهجرة كثير من الأطباء إلى خارج مصر أو استقالتهم من وزارة الصحة.

إن جهاز الدولة وإن نما في مجالات عديدة في المجتمع والاقتصاد والدين، لكنه اضطر في العقود الأخيرة إلى التراجع الجزئي، والفاعلون الاجتماعيون المصريون نظموا أنفسهم بنجاح متفاوت وعبر مجموعة متنوعة من المجالات (السياسة والاقتصاد والدين)، وبطرق مختلفة لتشكيل الدولة وسياساتها.

إن مصادرة المجال العام أدى إلى تراجع هؤلاء الفاعلين الاجتماعيين عن أداء كثير من الأدوار التي كانت تقوم بها الدولة سابقا، وفي نفس الوقت لم تستطع الجمهورية الجديدة أن تحشدهم وراءها أو تعبئ مواردهم لصالحها بما خلق فراغا يدفع المواطن المصري ثمنا له في تراجع مستوى الخدمات المقدمة له.

قصة مصر لا تبدأ بنظام حاكم ودولة ومجتمع مسيطرا عليهما. إن قصة مصر كما نقولها لا تبدأ بممثل واحد حاكم، أو نظام، أو دولة، كما أنها لا تتشكل بعامل واحد الدين أو الاقتصاد أو العوامل الخارجية، إنها قصة تحول في التفاعل بينهم: سلسلة من الحكام الذين بنوا أو أعادوا تشكيل أنظمة تكافح للسيطرة على جهاز دولة مترامي الأطراف، ومجتمع يموج بالتغيرات، وسوق تتفاعل فيه العوامل الاقتصادية في الداخل والخارج، وسياق خارجي له تداعيات كثيرة مربكة لأي نظام سياسي، ومؤسسات دولة ومجتمع في حالة تحول.