منتصف تسعينيات القرن الماضي، قدم الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل في محاضرة مطولة، تشخصيا دقيقا لأحوال مصر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، محذرا من تداعيات تجاهل الأزمات وتقديم صورة مغايرة للواقع بإصرار دوائر السلطة على «تلوين وتزويق» الأمور بما يتناقض مع الحقائق التي يلامسها الناس في حياتهم اليومية.
وقبل أن يتوجه هيكل إلى معرض الكتاب لإلقاء محاضرته -الأولى والأخيرة- قام كعادته بأداء واجبه في البحث والتحضير للملفات التي سيتحدث عنها ليدعم تحليلاته واستخلاصاته بأرقام ومعلومات دقيقة وموثوقة.
في البداية عرض الأستاذ على الحضور تقديرات عدد من المؤسسات الدولية عن أوضاع مصر الاقتصادية والاجتماعية، ومنها البنك الدولي بوصفه «الجهة الوحيدة التي تملك حق مناقشة الحكومات فيما تقدمه من أرقام».
استعرض هيكل خلال المحاضرة التي نشرتها دار الشروق لاحقا في كتاب «1995 – باب مصر إلى القرن الواحد والعشرين» أبعاد الموقف الصعب الذي يحيط بمصر في هذا التوقيت، وتوقف أمام «مفرق الطرق الذي يفرض على الجميع ضرورة الاختيار بين الاستمرار فيما هو قائم من سياسات وبين محاولات إيجاد مخرج واستكشاف المستقبل».
هيكل لفت نظر الحضور إلى أن المؤشرات الاقتصادية التي أمامه تدلل على أن مصر بلد تتأخر ولا تتقدم «وهذه هي الصدمة الأولى الحقيقية»، مشيرا إلى أن «التدفقات المالية العربية وغير العربية -المشبوهة- والتي وجدت طريقها إلى مجال الإنتاج الإعلامي والفني المصري ضمن محاولة لإعادة صياغة التفكير المصري والعربي، وأدى ذلك، إلى خلخلة فكرية وإلى خلط أوجد أعراض أزمة في الضمير المصري، ما زالت تحيره حتى الآن».
«أصبح على مصر أن تواجه مشاكلها وهي وشأنها.. تعوم أو تغرق، والأفضل طبعا ألا تعوم ولا تغرق، فلا أحد فيما يبدو يريدها واقفة، ولا أحد في نفس الوقت يريدها واقعة!»، أضاف هيكل، محاولا شرح تأثير المساعدات والقروض الخارجية التي تم رهنها بمواقف مصر ومساعي بعض القوى شراء أو تأجير سياستها.
واستطرد هيكل في تلك النقطة قائلا: «في كل الأحوال لا بد أن تدرك أن النمو الحقيقي الذي يحسب حسابه ليس هو النمو المرتبط بتدفقات خارجية مرهونة بعوامل مؤقتة، وإن ما يحسب حسابه هو النمو الذي تصنعه المحركات الذاتية الوطنية، وما عدا ذلك محاولات لشراء السياسات أو تأجيرها أكثر منه دوافع للنمو المطرد الشامل».
ثم انتقل هيكل بحديثه إلى الصدمة الثانية؛ وهي المرتبطة بالبعد الاجتماعي، ذاكرا أن متوسط دخل الفرد المصري تراجع عما كان عليه أثناء الحرب مع العدو الإسرائيلي، «وهو ما يعكس خضوع الحكومة لقوانين السوق على حساب الشعب المغلوب على أمره»، ولفت النظر إلى أن البطالة زادت بشكل مخيف «الأخطر أنها تنتشر بين خريجي الجامعات، وهي كتلة تعلمت وتهيأت للعمل في بلد يعتبر التعليم فيه وسيلة وحيدة للصعود الاجتماعي».
ونتيجة لانعكاسات الأوضاع الاقتصادية والسياسية على الحالة الاجتماعية للشعب المصري شعرت الجماهير أن الحياة في عصر الحرب كانت أفضل منها في عصر السلام «بدت الحياة بدون مساعدات أجنبية أيسر منها بعد المساعدات الأجنبية، ثم إن الحياة في وقت الانغلاق كانت أسعد منها في وقت الانفتاح».
ورأى هيكل أن الشعب المصري بلغ به الإحباط واليأس الذي راح يتنامى ويتراكم ثم يتخطى الخيبة إلى الحد الذي وصل به إلى مرحلة السخط العام بسبب التناقض الحاد بين الفقر والغنى، والتفاوت الكبير في توزيع الثروات.
«تُظهر الأرقام وللأسف اتساع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وتضييق الخناق بشكل غير مسبوق على الطبقة الوسطى»، قال الأستاذ؛ مقارنا بين قمة الهرم الاجتماعي الضيقة شديدة الثراء، وقاعدته الفقيرة شديدة الاتساع، «أننا أمام وضع لا مفر من التسليم بأنه بالفعل مخيف، لأن النار قريبة من الحطب بأكثر مما تحتمله سلامة الأحوال في مصر».
هناك «حالة من خلل التوازن راحت تعتري المجتمع المصري وتهزه بقسوة.. وأن هذا التناقض الحاد بين الفقر والغني سبب شعورا بالاستفزاز يصعب تجاهله، خصوصا وقد بدا تركيز الغنى غير مبرر وغير مشروع، ثم إن حصار الفقر بدا هو الآخر غير مبرر وغير شرعي».
وبعد أن رصد ما جري للطبقة الوسطي في مصر، أعرب هيكل يومها عن قلقه لجموح أسباب العنف وموجباته، فالسلام الاجتماعي في أي وطن ليس مسألة حض علي فضيلة الصبر، وليس مسألة نص قانوني يغلظ العقوبات، «إنما السلام الاجتماعي مطلب مركب، وهو مشروط بشرعية السلطة، ومشروعية الثروة، وبحقوق المواطنة، وبإحساس المساواة بين الناس، وإن تفاوتت الكفاءات أو حتي الحظوظ».
وفي ختام حديثه الذي إذا عاد إليه القارئ الآن شعر أن هيكل يتحدث عن مصر وأزماتها في تلك اللحظة، طرح الأستاذ مقترحا بجملة من الإجراءات التي يرى أنها لازمة للخروج من الواقع المخيف، داعيا إلى الشروع في اتخاذ عدد من التعديلات السياسية والتشريعية التي تفتح المجال أمام ضخ دماء جديدة وشابة في شرايين السلطة التنفيذية.
وتضمن أجندة هيكل: إلغاء حالة الطوارئ، وتعيين نائب لرئيس الجمهورية الذي كان قد قضى نحو 15 عام في موقعه على رأس السلطة على أن يوسع هذا الأخير من دائرة مستشاريه بما يسمح بالاستماع إلى أصوات أخرى من خارج الدائرة المغلقة، وإيجاد سبيل لوقف العنف الأصولي، والنظر بجدية إلى مشكلة البطالة.
وكعادة أنظمة الحكم المستبدة، تجاهلت سلطة الرئيس الراحل حسني مبارك نصائح هيكل وغيره من المفكرين والخبراء الذين توقعوا مبكرا أن الأمور لو استمرت على ما هي عليه ستتصاعد أزمات البلاد ما يؤدي إلى ارتفاع منسوب الغضب الشعبي إلى الحد الذي لا ينفع معه أي إصلاح.
مضت سلطة مبارك في طريق «الندامة» الذي جَرفَ البلد وجعلها أقرب إلى «خرابة» بتعبير مبارك نفسه عندما سُئل عما إذا كان ينوي توريث الحكم لابنه جمال فقال لسائله «هورثه خرابة»، حول هذا الطريق مرافقها إلى «كُهنة» على حد وصف الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال افتتاحه أحد المشروعات منذ شهور.
لم يفكر مبارك ودوائر المصالح المحطية به سوى في البحث عن أدوات ومقومات تضمن لسلطته البقاء على مقعد الحكم «مادام في الصدر قلب ينبض»، زورت أجهزته الأمنية الانتخابات وخربت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وعملت على تشويه أي بديل قد يلتف الناس حوله لإنقاذ البلد من عثرتها، حتى «شاخت تلك السلطة في مقاعدها» وتحللت وصارت غير قادرة لا على تلوين الصورة ولا حتى إرهاب الناس وتخويفهم.
بعد نحو 15 عاما من محاضرة معرض الكتاب، بشر هيكل بأن مصر مقبلة على ما لم تشهده من قبل في تاريخها، «هذان العامان سيحكيان لنا عما سيحدث.. هتشوفوا اللي عمركم ما شفتوه قبل كدة»، قالها الأستاذ في ندوة عقدت بنادي القضاة في مايو عام 2008.
وأضاف: «السؤال الذي يواجهني دائما إحنا رايحين علي فين؟.. وأقول إجابة مختصرة حملها بيت شعر لحافظ إبراهيم بأننا رايحين في داهية»، مشيرا إلى أن «ما سيحدث في مصر شدة وليست ردة، ومطلوب من جميع الأطراف المعنية أن تتدبر مواقفها وخطواتها لتستطيع مواجهة الأزمة».
بعد نحو عامين سقط مبارك وحزبه ومشروع التوريث الذي سعت بعض أجنحة السلطة لإتمامه، وشرح هيكل في كتابه «مبارك وزمانه» أسباب سقوط نظام الرئيس الذي جثم على صدر البلاد 30 عاما دون أن يدرك قيمتها ولا يعرف دورها، استمر في الحكم بأدوات الاستبداد والقمع فختم مسيرته في قفص الاتهام ممددا على سرير بملابس السجن هو وابنيه، ليجعله الله لمن خلفه آية.
وللأسف حوكم مبارك على عدد من التهم الجنائية بينما لم يساءل عن جرائمه السياسية في حق البلاد والعباد، «محاكمة رئيس الدولة يجب أن تكون سياسية تثبت عليه ــ أو تنفى عنه ــ مسئولية الإخلال بعهده ووعده وشرعيته، مما استوجب الثورة عليه، أما بدون ذلك فإن اختصار التهم فى التصدى للمظاهرات ــ قلب للأوضاع يستعجل الخاتمة قبل المقدمة، والنتائج قبل الأسباب».
جرى ما جرى وقفز الإخوان على السلطة وسقطوا سقوطا مدويا بعد عاما، وعقب تجربة الإخوان راهن هيكل كما غيره من النخب على وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي باعتباره «مرشح الضرورة»، القادر على ضبط إيقاع بلد مضطرب مهدد بالأخطار في الداخل والخارج، «قادم من المؤسسة العسكرية وهي الوحيدة القادرة على مواجهة المخاطر فى اللحظة الراهنة».
وبعد أقل من عامين على هذا التاريخ، تيقن هيكل من أن شعبية السيسي الذي حاز وفقا للنتائج الرسمية المعلنة نحو 96% من أصوات الناخبين، تراجعت بشكل كبير بفعل غياب الرؤية وتبني سياسيات أضرت بأغلبية الشعب.
خلال الاحتفال بعيد ميلاده الأخير وجه الأستاذ إلى الرئيس عددا من الرسائل منها «لن تستطيع أن تستعيد سلطة وشعبية جمال عبد الناصر بسياسات إسماعيل صدقي».
كانت تجربة العام ونصف من حكم السيسي كافية لأن يراجع هيكل موقفه، فمقارنته بين مشروعي صدقى وعبد الناصر كانت ذات دلالة ومغزى؛ الرئيس الجديد لن يستطيع أن يحقق ما كان لناصر من سلطة مستندة على مشروعية ورضا شعبي تحقق بفضل قرارت وتوجهات منحازة للشعب، بسياسات رئيس الوزراء إسماعيل صدقي الذي انقلب على دستور 1923 وزور الانتخابات وعادى الشعب.
رسالة هيكل الأخيرة حملت شعور بعدم الرضا عما يحدث، فغياب الرؤية والمشروع كان يقلق الأستاذ على مستقبل مصر «الأزمة غياب منهج للتفكير، كما أننا نعاني من أزمة كفاءة، والعثور على نقطة بداية أمر فى منتهى الصعوبة.. نحتاج إلى عقول ترصد التطورات التي جرت فى الداخل والخارج، حتى نعرف من أين نبدأ».
«لن نتقدم ولن تستطيع مصر تحقيق عائد من مشروعات كبرى دون أن تكون هناك رؤية واضحة.. فالمستقبل يحتاج إلى تصور ورؤية يضعها للناس.. لانريد تصور يوم بيوم، فتصرفات يوم بيوم لابد أن تكون فى سياق التصور العام»، ختم هيكل بتلك الكلمات جلسته الأخيرة.
لم تصل رسائل هيكل التي أرسلها في لقائه الأخير إلى صاحبها، ومضت السلطة في ذات المسار الذي بدأته قبل 8 سنوات، والذي لا يختلف لا في سياساته ولا توجهاته عن مسار مبارك الذي دعاه هيكل مبكرا إلى إعادة النظر في فلسفة إدارته للدولة، وطرح عليه مخارج وبدائل، لكن الرئيس الراحل صم آذانه واستخف بحديث الأستاذ وغيره.
يبدو أن السلطة الحالية لم تستوعب درس مبارك الذي لم يلتفت سوى لمشروع البقاء والاستمرار في الحكم أيا كانت العاقبة، وكما تجاهل الرئيس الراحل رسائل ونصائح المفكرين والمثقفين المخلصين، لا يحتمل النظام الحالي أي نقد أو مراجعة أو حتى نصح من الشركاء والمخالفين، يتخيل أنه سيصل إلى نتيجة مختلفة رغم التشابه الشديد في المقدمات والمعطيات.