في عام 2015، حذرنا على صفحات أكثر من مطبوعة ثقافية خاصة، وتابعة لوزارة الثقافة، من ترجمات “بير السلم”، والكوارث التي تسيطر على مجال الترجمة، وتهافت دور النشر على ترجمات كارثية، سواء لروايات كتاب عالميين وكتب مهمة تمت ترجمتها من قبل، أو تترجم لأول مرة. وتحدثنا عن كارثة مقبلة ستعم أرفف المكتبات ومعارض الكتب، وعن سيادة تلك الترجمات وطرد الترجمات الجيدة.. والآن نبكي ونولول وننوح ونحن نشاهد فصول تلك الجريمة المروعة التي بدأت قبل أكثر من عشر سنوات في دور النشر الخاصة وفي منافذ النشر الحكومية على حد سواء.
ومنذ حوالي 4 سنوات تناولنا في معرض الكتاب ملف الترجمة من العربية، ومتابعة الترجمات والأعمال من قبل المؤسسات المعنية، ومن ضمنها المكاتب والمراكز الثقافية المصرية. والمقصود بالمتابعة هنا، هو إقامة الندوات في الدول التي ترجمت إلى لغاتها الأعمال العربية، ومتابعة الصحافة الثقافية هناك، وإقامة حوارات دائمة تكون في مركزها هذه الأعمال المترجمة. وذلك بدلا من ترجمات “بير السلم”، والترجمات “المخصوص” و”الترجمات بفلوس”، وبعد ذلك يتم ركت هذه الكتب في أي “بير سلم” أو على رف مكتبة في جمعية زراعية أو في أحسن الأحوال يتم استخدامها ككتب لتعليم اللغة العربية للأطفال.
في كل المناسبات الثقافية وفي الأعياد العالمية للترجمة والمترجمين ومعارض الكتب نسمع أصواتا وصريخا وزعيقا ولا نرى طحنا ولا طحينا. وفي الفترة الأخيرة، فتح الأصدقاء والمهتمون موضوع الكتب الجديدة التي ترجمتها مؤسسات الدولة أو حتى دور النشر الخاصة، وشراء حقوق الملكية، وتخصيص الموارد المالية، والمتابعة المهنية للكتب الصادرة في الخارج وللكتب المترجمة من العربية، وتفاصيل أخرى كثيرة.
وللأسف، فغالبية الكتب المترجمة إلى العربية، إن لم يكن كلها، صدرت قبل خمسين عاما وتسعين عاما. كما تقوم كل دار نشر بترجمة نفس الكتب بنفس العناوين مع اختلاف المترجمين الذين أصبحوا ينقلون من بعضهم البعض مع وضع بعض “الرتوش” و”التعديلات والمرادفات”. وفي الحقيقة، فالكتب التي صدرت قبل 50 و40 و30 و20 عاما، ومنذ 10 سنوات و5 سنوات، تمت ترجمة بعضها فعلا في أوقات سابقة مختلفة، والآن أيضا، ولكن هناك كتبا أخرى جديدة صدرت، تتجاوز الكتب القديمة من حيث الأفكار والطرح والمنهج والفلسفة، ومن المهم ترجمتها لكي نبقى على تواصل مع العالم المحيط بنا، وألا نكتفي بترجمة القديم معتبرين أن ذلك إنجازا تاريخيا.
إن فكرة ترجمة القديم فظيعة ومرعبة وكاشفة لما نحن فيه. فهي محرك ضمن محركات أخرى، لأنه بسبب تلك الترجمات العتيقة والقديمة، نكون مجبرين على تمجيد القديم وتمجيد الماضي وتكريمه وإحيائه وبعثه لكي نبرر تهافتنا على القديم وترجمته. ونكون مضطرين لتجميل تزويق الماضي والتراث، وتفضيل هذا الماضي. ألم نترجم كل ذلك ونعمل على نشره وتوطينه في رؤوس الناس؟! وربما يكون العكس هو الذي حصل. أي أنه لأننا ماضويين وقديمين مثل الديناصورات، وعقولنا توقفت عند لحظة تاريخية معينة، نتصور أننا بترجمة القديم، نترجم دررا وكتبا مقدسة وأفكارا مقدسة.
إن اللغات التي نترجم منها، تطبع وتنشر بكثرة، وما يصدر فيها يكون قد تجاوز ما صدر منذ عشر سنوات ومنذ خمسين سنة ومنذ 90 سنة.. أي أن ترجمة الجديد وآخر ما صدر هما الأهم لكي نندمج قليلا مع العالم، ولا نبقى هكذا طوال الوقت نطالب بإعطائنا فرصة للحاق بالحضارة وبالتقدم، ونتعلل بأن أوروبا استغرقت 400 عام لكي تنهض، ومن حقنتا أن نستمتع أيضا ب400 عام مثلها. إننا ببساطة، نطالب العالم بالتوقف 400 عام لكي نبدأ من حيث بدأ، ولكي نلحق به!!
وفي الواقع، فإن وزارة الثقافة ومؤسسات النشر التابعة لها غارقة تماما في إعادة طباعة التراث والقديم، لدرجة أننا لا نزال نقف عند طه حسين ونعتبر إعادة طباعة كتبه إنجازا تاريخيا من أجل تعليم الأجيال الجديدة! ما يعني أننا لم نتحرك بعد من هناك. وهو ما ينطبق على الترجمة من اللغات الأخرى. ولا يمكن استثناء دور النشر الخاصة الغارقة هي أيضا في نفس البئر. وعلينا أن نكون مستعدين لسماع التبريرات و”الحماقات” و”الصور الذهنية”، حيث سيخرج علينا البعض ليتحججوا بحقوق الملكية والتكاليف الباهظة وأسعار الورق والبيروقراطية.
ويخرج البعض الآخر ليؤكد أن الدار الفلانية ترجمت كتاب فلان الفلاني من اللغة المنغولية عام 2014 وكان الكتاب من إصدارات عام 2005، أو أن الدار الفلانية ترجمت كتابا صدر قبل 4 سنوات فقط، ما يعد إنجازا فظيعا. وهذا يعني أن ترجمة كتاب بعد صدوره بأربع سنوات، يعد نقلة نوعية وتاريخية، ومن ثم تتم صناعة صورة ذهنية تصبح هي الواقع، ونظل نردد أننا نترجم الجديد إلى أن نصدق أنفسنا!! وحتى كتاب وكاتبات نوبل، نترجم لهم الأعمال القديمة التي صدرت قبل خمسين وسبعين عاما..
هناك كارثة حقيقية، لأن ما يشكل وعينا بالعالم وبالكون الآن، هو ترجمات من القرن التاسع عشر والقرن العشرين، بينما نحن في عشرينيات القرن الواحد والعشرين! إن ما يشكل وعينا في العموم، هو إعادة طباعة كتب التراث، وإعادة إصدار أعمال كاملة ظهرت قبل قرن وقرنين، وخمسين وأربعين عاما، كإنجازات جبارة، مثل كتب طه حسين ويحيى حقي ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وإسماعيل مظهر! وهو ما ينطبق أيضا على الترجمات..
هناك أيضاً المنتديات والمؤتمرات الأكثر عمقاً وجدية التي تتناول الترجمة كعملية ثقافية كاملة قابلة للنقل والحوار والنقد. ومن ثم تظهر الترجمة كإحدى أذرع القوة الناعمة لهذه الدولة أو تلك، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن الترجمة أيضاً هي المادة الأساسية لعلوم الاستعراب والاستشراق والأنثروبولوجي. وهي العلوم غير البريئة تماماً، وربما إطلاقاً، من شبهات الاستعمار والسيطرة وفرض النفوذ والشروط، لكن الترجمة أيضاً، عملية صناعة كاملة الأركان، بالتالي هي عملية تجارية بمعناها الاقتصادي الواسع بكل ما يحمل من مسارات وعمليات أساسية وهامشية وأرباح، بالتالي فهي بهذا المفهوم، تدخل ضمن إطار المشاريع الوطنية والقومية التي تستفيد منها الدولة ومؤسساتها و”أجهزتها”، والتي يستفيد منها المجتمع في حراكه الاجتماعي– التاريخي– الثقافي- الفكري. هذه النقطة تخص الجانب الذي يقوم بالترجمة بالقدر نفسه الذي يخص الجانب الذي يترجم منه. ولا يمكن هنا بأي حال من الأحوال تجاهل أنها خاضعة لموازين القوى السياسية والاقتصادية والنفوذ.
من جهة أخرى، هناك تجاهل أو إغفال لمتابعة النصوص والموضوعات والكتب التي ترجمت من العربية إلى اللغات الأخرى. أي إن عملية الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى تتوقف عند صدور الكتاب، وتبدأ خطوة أخرى في غاية الفظاظة والتضليل. وهي عملية إعلامية فجة تدور حول عظمة الثقافة العربية، وعظمة المبدعين والمفكرين والكتاب، وعالمية هذا الكاتب أو ذاك، بينما النصوص والكتب التي ترجمت “مركونة” على أرفف بعض معاهد وكليات تعليم اللغة العربية، بالتالي فعملية تتبع المنتج والترويج له وفق المعايير المتعارف عليها، تمثل أحد أهم الأهداف من عملية الترجمة، وقد تكون الحلقة الأهم في تلك العملية. ويمكن ملاحظة الجهود التي تبذلها المراكز الثقافية والتعليمية الغربية، وربما المؤسسات الدبلوماسية الغربية أيضاً، في عديد من الدول العربية لإقامة الندوات ودعوة المبدعين والكتاب للمشاركة في ندوات ونقاشات تتعلق بكتبهم المترجمة إلى اللغة العربية. والمهم هنا، أنه يتم اجتذاب المثقفين والنقاد والمبدعين والكتاب العرب لإدارة هذه الندوات والمشاركة فيها والتفاعل معها.
لا شك أن مواصلة ترجمة الأعمال الإبداعية الكلاسيكية لكبار الكتاب من مختلف دول العالم مسألة مهمة، وتعتبر جزءا من طرح الرؤية الكلية للثقافة الإنسانية وتدوير فكرة “وحدة المصير الإنساني”. وبالتالي، فإعادة ترجمة الكلاسيكيات التي سقطت عنها حقوق الملكية الفكرية بفعل عامل الزمن وقوانين الملكية الفكرية، تعتبر استكمالا لفكرة ترجمة الكلاسيكيات بشكل عام ولفكرة وحدة الثقافة الإنسانية في كُلْيتها.
قد يستنكف البعض، أو يستنكر البعض الآخر، مسألة إعادة ترجمة الأعمال الإبداعية التي سبق ترجمتها أكثر من مرة في أكثر من حقبة تاريخية. ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أن اللغة تتطور، وأن هناك كلمات وتعبيرات وصورا وتراكيب جديدة أكثر دقة تظهر مع تطور مسارات اللغة وبناها، فإن إعادة الترجمة هنا تصبح عملية حيوية وأكثر “تفاعلية” على مستوى مواصلة طرح هذه الأعمال بشكل دائم وأبدي من جهة، وعلى مستوى إمداد الأجيال الجديدة المتحدثة بلغات مختلفة بأفكار وجماليات الأعمال الإبداعية الكلاسيكية من جهة أخرى. كما أن هناك أهمية خاصة لإعادة ترجمة هذه الأعمال التي سبق ترجمتها، وتكمن في كونها مادة للدراسة العلمية والبحث العلمي- الأدبي، والاطلاع على حياة الشعوب وتاريخهم الاجتماعي من خلال الدراسات الأنثروبولوجية من جهة ثالثة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل الأولوية للأعمال التي لم تترجم، أو بالأحرى للأعمال الجديدة التي تحتاج إلى رصد الأموال لشراء حقوق الملكية الفكرية، أم لتلك الأعمال المتاحة التي لا تحتاج إلى تفاصيل وإجراءات قانونية وصرف أموال؟! في الحقيقة، لا فرق بين الأمرين. ومن المنطق والعقلانية أن يسيرا في مسارين متوازيين، أو في مسار واحد يتسع لهذا ولذاك. ولكن بطبيعة الحال، وبطبيعة التطور والحرص على اطلاع الشعوب والمجتمعات على أحدث ما يصدر من أعمال إبداعية وفكرية في بعضها البعض، قد يجعلنا أكثر حرصا على ترجمة الجديد والمعاصر والحديث. ومع ذلك فمن الضروري والمهم السير في طريق إعادة ترجمات الأعمال التي تُرْجِمَت من قبل، لكي لا يحدث انقطاع أو تظهر فجوة في عملية التواصل والاستمرارية التي تمثل بحد ذاتها مهمة منهجية ومهنية للمترجمين، ومهمة وظيفية للبحث العلمي- الأدبي، ومهمة بنيوية وعقائدية (أيديولوجية) بالنسبة للدول ومؤسساتها المهتمة بمتابعة العملية الثقافية- الإبداعية كظاهرة إنسانية عامة تصب في مبدأ “وحدة المصير البشري”.
هنا تحديدا، لا يمكن أن نتجاهل أن الترجمة هي إحدى أهم الأدوات لدراسة المجتمعات الأخرى، ولا فرق بين إعادة ترجمة القديم أو ترجمة الحديث والمعاصر. فالمؤسسات التعليمية والبحثية والجامعات بحاجة دائمة للوقوف على آخر تطورات الأنواع الأدبية والثقافية في مختلف المجتمعات.
ومن جهة أخرى، تحتاج المؤسسات الأخرى العاملة في مجالات اجتماعية واقتصادية وأمنية لمثل هذه الترجمات كأداة “أنثروبولوجية”، إذا جاز التعبير، لدراسة المجتمعات الأخرى. ما يعني أن الترجمة ليست مجرد نشاط إنساني مستقل بذاته، وإنما حلقة ضمن سلسلة من نشاطات الدول ومراكز الأبحاث والترجمة في الدول الحريصة على تنسيق العلاقات بين مؤسساتها وإفساح المجال أمام مبدعيها- المترجمين والباحثين للمشاركة في المنجز العالمي بشكل عام، وللإسهام في تقدم دولهم ومجتمعاتهم ومؤسساتهم بشكل خاص.
في نهاية المطاف، يبدو الاقتصار على إعادة ترجمة الأعمال الإبداعية القديمة فقط، للإفلات من الإجراءات القانونية، ومن أجل تفادي صرف الأموال اللازمة، شكلا من أشكال التحجر والمحافظة، وشكلا من أشكال “المراوحة في المكان الواحد” وتضليل ليس فقط المجتمعات والنخب الثقافية والإبداعية، وإنما تزييف للعملية الثقافية الإبداعية في عموميتها، وإهدار للطاقات وتبديد لأموال الطباعة والنشر. والأهم من كل ذلك هو تضليل وتزييف عملية البحث العلمي- الأدبي بمعناها الواسع والعميق.