سبق وأن كتبت أن عالم ما بعد كورونا يحتاج إلى منظمات دولية جديدة باعتبار أن الواقع الذي أُنشِأت في ظله المنظمات الحالية -وهو واقع ما بعد الحرب الكونية الثانية- قد تغير تمامًا على كل المستويات بما يُملي ضرورة أن يواكبه فكر جديد يدفع صوب تأسيس منظمات دولية جديدة، وكان تقييمي المبدئي حينها مبنيًا على الفشل الذريع لمنظمة الصحة العالمية في التعامل الإيجابي مع فيروس كورونا وتداعياته عالميًا.
لم نَكَدْ نفيق من أزمة كورونا، إلا وقد أتتنا أزمة الحرب الروسية الأوكرانية لتؤكد ذلك التقييم، إذ فشلت المنظمات الدولية القائمة في التنبؤ بمثل هذه الكارثة وفي التعامل معها وفي وضع تصورات موضوعية عادلة لكيفية إنهائها. بينما كان العالم كله يتابع تطورات الأزمة الروسية الأوكرانية، ضربت الهزات الأرضية الكارثية تركيا وسورية بعنف بالغ انتفض العالم للتعاطي معه من منطلقاتٍ متباينة وبأهداف مختلفة، لكن بنفس آليات العمل التقليدية بدلًا من البحث عن طرق أكثر حداثة للتنبؤ بمثل هذه الهزات، ومن ثم تلافي أو تخفيف وَقعها وتأثيراته بشكلٍ يتعدى مسألة التعاطف، وما يتبعها من إجراءات كإرسال المساعدات والمعونات العاجلة وفرق الإنقاذ، حيث يعتبر ذلك كله أمرًا “لاحِقًا” للكارثة لا “مَانِعًا” لها أو على الأقل مُخَفِفًا لمخاطرها.
باتت الأزمات خارج نطاق سيطرة المنظمات الدولية التي تشبثت بآليات عملها القديمة مما دفع جميع الأطراف إلى التعايش معها بمسكنات وقتية بدلًا من إيجاد حلول جذرية لها ومن ثم تجاوزها نحو عالمٍ مختلف.
حصيلة الواقع منذ بداية العشرية الأخيرة للقرن الماضي وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، تعزز ما ذهبت إليه من تقييم بشأن إخفاق المنظمات الدولية التي نشأت بمنتصف ذلك القرن في تحقيق أهدافها.
تغيرت منذ عام 1990 أهم الأسس الفكرية التي قام عليها التوازن الدولي بعالم ما بعد الحرب الكونية الثانية دون أن يصاحب ذلك تغييرًا موازيًا في الأسس “الهيكلية/التنظيمية/المؤسساتية” وآليات العمل المرتبطة بها ليدخل العالم كله منذ ذلك التاريخ عقودا من التيه آلت إلى الانكشاف الكبير الذي تبدى به الإخفاق واضحًا في 2019.
من شأن نتائج هذا الإخفاق أن تفرض إعادة النظر في البناء المؤسسي لتلك المنظمات وآليات عملها في الأجل القريب بما سيفضي إلى تغيير يتناول إعادة هيكلتها أو إحلالها بمنظمات أخرى من أجل أن يعكس ذلك تأثيرات التغيرات الجيوسياسية الاستثنائية التي يشهدها العالم بالتوازي مع ازدياد المخاطر البيئية التي تمت الإشارة إليها بوضوح شديد بالدورتين السادسة والعشرين والسابعة والعشرين من مؤتمر الأطراف لتغير المناخ وما نتج عنهما من توصيات.
في المسألة الاقتصادية، كانت الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة المعروفة باسم “جات” General Agreement on Tariffs and Trade قد أُبرِمَت في أكتوبر 1947 ثم استجابت للتغيرات التى فرضها الواقع لتتطور تنظيميًا في 1995 إلى ما يعرف في وقتنا الحالي باسم منظمة التجارة العالمية World Trade Organization التي تهدف حسب ميثاقها إلى إقامة نظام اقتصادي يسوده الرخاء والسلام، وتوفير حماية مناسبة للسوق الدولي ليلائم مختلف مستويات المعيشة والتنمية، وإيجاد وضع تنافسي دولي يقوم على الكفاءة الاقتصادية لتخصيص الموارد، وتحقيق التوظيف الكامل لموارد العالم.
وقد كانت المنظمة تقوم بذلك من خلال إدارة الاتفاقيات الخاصة بالتجارة، والتواجد كمنتدى للمفاوضات المتعلقة بها، وفض المنازعات، ومراجعة السياسيات التجارية القومية، ومساعدة الدول النامية في المواضيع المتعلقة بتلك السياسات من خلال المساعدات التكنولوجية وبرامج التدريب، والتعاون مع المنظمات الدولية الأخرى. لم تمنع كل من الاتفاقية والمنظمة قيام المجتمعات بإبرام تعاقدات منفردة وإن ظلت تلك التعاقدات محكومة بضوابطهما العامة. وهو ما سمح بذلك القدر من المرونة الذي تمتعت به المسألة الاقتصادية أكثر مما عداها بسبب طبيعتها الديناميكية باعتبار أن الاقتصاد هو محرك أي نشاط إنساني.
لكن الواقع الذي صنعته المطامع السياسية والطموحات التوسعية لحكومات بعض المجتمعات كان قد تجاوز فعليًا أهداف وآليات عمل منظمة التجارة العالمية، فَوقفت عاجزة أمام ما ترتب على أزمة كورونا ثم الأزمة الأوكرانية من مصاعب تعلقت -على سبيل المثال لا الحصر- بتعطل سلاسل الإمداد لتزداد الفجوة بين العرض والطلب العالميين اتساعًا أفضى إلى ما أطلقتُ عليه سابقُا “تصدير التضخم على جناح العولمة”.
من زاوية أخرى وعندما بدأ الصراع الدولي في مطلع العشرية الثانية من هذا القرن يأخذ منحى آخر بصعود الصين كمنافس أساسي لأمريكا (حسب اعتراف الإدارة الأمريكية ذاتها في استراتيجية بايدن-هاريس للأمن القومي) بما يشير إلى أننا بصدد تغيير حقيقي في موازين القوى سيؤدي إلى عالمٍ تتعدد فيه الأقطاب، فقد بدأت المجتمعات البشرية في إعادة النظر بتحالفاتها التي فقدت طبيعتها الاستراتيجية لتتحول إلى ما يشبه التفاهمات التكتيكية حول مواقف من قضايا بعينها، ما دفعها إلى التوجه/التحول نحو البحث عن صيغ جديدة للتعاون فيما بينها خارج سياقات الروابط التقليدية بشكل عملي وعقلاني يوازن بين الإمكانات المُتاحة والمكاسب المتوقعة في إطار تقديرات نسبية للمخاطر القائمة والمُحتملة.
أتت تبعات أزمة كورونا ثم الأزمة الأوكرانية لتعزز من هذا التوجه/التحول الذي يتوقف تحديد ملامحه وأهدافه ومتطلباته ومقومات نجاحه على ضرورة انتقاء شركاء التعاون وفقًا لدراسة شاملة الأبعاد تشمل تقييمًا موضوعيًا للبِنى التحتية بمفهومها الشامل لهؤلاء الشركاء مع تبني سياسات ذات عوائد اقتصادية تضمن تبادلًا للبضائع بأثمانٍ عادلة وتُؤمِّن -وهو الأهم- سهولة انسياب تلك البضائع في مساراتٍ طبيعية لتقليص الفجوة بين العرض والطلب بما يحقق استقرارًا ماليًا واجتماعيًا في عالمٍ مازالت ملامحه قيد التَشَكُل.
لحديث التحول ومتطلباته ومقومات نجاحه بقية إن كان في العُمر بقية.