أولًا: أهمية المراجعات لمواجهة الأزمات:
يكشف تفاقم الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تعاني منها مصر مؤخرا عن اختلالات في مواضع عدة. وإذا كانت تلك الأزمة قد نتجت عن تفاعل مجموعات من العوامل الخارجية والداخلية؛ فإنها قد ولَّدت كذلك مجموعة من النتائج والسياسات تنعكس بدورها داخليا وخارجيا على أوضاع مصر في جميع المجالات. ولا شك أن ذلك يستدعي مراجعة شاملة للمفاهيم والسياسات السائدة من أجل مواجهة تلك الأزمة وما يترتب عليها من آثار.
يدفعُنا ذلك إلى مراجعة السياسات الخارجية القائمة والمفاهيم المرتبطة بها من أجل النظر فيما يمكن تعديله للمساهمة في مواجهة الأزمة الحالية، وفي تحسين وضع مصر المتدهور. لكن قبل المراجعة من المهم المرور بسرعة على أهم ملامح السياسة الخارجية المصرية في العهد الحالي، من أجل التعرف على ما نقوم بمراجعته.
ثانيا: دوافع السياسة الخارجية:
قبل الخوض في ذلك، يجب أن ندرك أن الدوافع التي تحدد أي سياسة خارجية يمكن تصنيفها في فئتين. الأولى: المصالح الوطنية، التي تتمثل في تعظيم قيمة الموارد المتاحة للدولة، وتخفيض حجم التحديات التي تتعرض لها. والثانية: مصالح الحزب، أو الشخص، أو النظام الحاكم التي تتمثل في الاستمرار في مقعد القيادة، وعدم التعرض للمساءلة بعد الخروج منه.
ولا يعني ذلك أن الدوافع التي تقع ضمن إحدى الفئتين تتعارض بالضرورة مع دوافع الفئة الأخرى؛ إذ كثيرا ما تتكاملان. فالاضطلاع بسياسة خارجية تعزِّزُ مصالح الدولة يُساهم في تعزيز شرعية النظام الحاكم، ومن ثَمَّ فرص بقائه، وعدم تعرضه للمساءلة عند المغادرة.
لكن في أحيان أخرى يَعْتَبِرُ النظام الحاكم أن بقاءَه مرتبطٌ بعواملَ خارجية، مما يجعله أكثر خضوعا لأولويات مرتبطة بتلك العوامل. وحين تتعارض الفئتان فإن النظام الحاكم في أي دولة يُغَلِّبُ ما يَعْتَقِدُ أنه يساعده على البقاء. ولا يقتصر ذلك على الدول النامية أو الأنظمة الهشة بل يمتد إلى الديمقراطيات الراسخة، مثل سياسات إدارة ترامب في الولايات المتحدة تجاه روسيا والمملكة السعودية، وسياسات ساركوزي في فرنسا تجاه ليبيا وعلاقاته مع رئيسها السابق معمر القذافي.
ثالثا: ملامح السياسة الخارجية المصرية منذ يوليو 2013:
أبدأ بالعلاقات المصرية مع دول الجوار المباشر: يمكن القول إن العلاقات مع المملكة السعودية، والإمارات، والبحرين، والكويت من بين دول الخليج العربي قوية لأسباب سياسية. فقد ساندت تلك الدول تغيير النظام الذي نتج عن ثورة يناير 2011 في مصر، لا سيَّما بعد أن استحوذت جماعة الإخوان على المجالس المنتخبة.
بل شَجَّعَت تلك الدول ذلك التغيير، قولا وفعلا. إذ قدَّمت مساعدات مالية ضخمة لمصر، في صورة منح لا تُرَدُّ، وقروض، وضمانات قروض، واستثمارات مالية، وودائع في البنك المركزي، ومحروقات، وتمويل لصفقات سلاح. وعلى الجانب الآخر تُعَبِّرُ مصر باستمرار عن استعدادها لتلبية الاحتياجات الأمنية لتلك الدول من خلال تقديم الدعم العسكري لمواجهة أي تهديدات تتعرض لها.
لكن اقتصر الدعم العسكري على تعاون لوجستي ودوريات بحرية جنوب البحر الأحمر، دون المساهمة بقوات. كما تَضَمَّنَ تنظيم تدريبات عسكرية مشتركة مع تلك الدول، وأحيانا توفير تسهيلات للقوات التابعة لها للقيام بعمليات تنطلق من مصر -مثل ما تردد عن قصف طائرات مجهولة الهوية لمواقع في ليبيا صيف عام 2014.
ولم تَخْلُ العلاقة مع تلك الدول من خلافات عابرة تتمحور حول طبيعة المصالح المتبادلة من خلالها: أي تقاعس الدول المذكورة عن تقديم الدعم المالي بالشكل المنتظر، أو نكوص مصر عن تقديم الدعم العسكري المطلوب، أو عن اتخاذ خطوات محددة تطلبها تلك الدول مقابل الدعم الذي توفره.
ومن ذلك أزمة تعليق السعودية لتوريد المحروقات في نهاية عام 2015 بسبب تباطؤ مصر في الإعلان عن تسليم جزيرتى تيران وصنافير للسعودية، التي تتشابه مع الأزمة الجارية التي بلغت ذروتها بالمقال المنسوب لرئيس تحرير جريدة الجمهورية.
وقد اتسمت العلاقة مع قطر بالتوتر حتى عام 2021، لأسباب سياسية أيضا، ترتبط بمساندتها للنظام الذي أنتجته الانتخابات التي أعقبت ثورة يناير 2011، وتَحَفُّظِهَا على تغييره. وردا على ذلك قاطعت مصر قطر، وكانت عضوا مؤسسا في التحالف الخليجي ضدها. ثم تمت مراجعة العلاقات مع قطر بعد أن تمت المصالحة الخليجية معها.
كما اتسمت العلاقات مع السودان بالاستقرار والمتانة، قبل ثورة عام 2018، وبعدها إثر تولي المجلس العسكري الحكم هناك، على أساس وجود مصلحة في استمرار وجود مُكَوِّن عسكري في السلطة يحافظ على تماسك السودان رغم اندلاع الثورة. وتم التنسيق بين الدولتين بشكل وثيق بشأن المفاوضات المتعلقة ببناء إثيوبيا لسد النهضة. وإن لم تَخْلُ العلاقة أيضا من توترات عابرة تتعلق بتقارب السودان أحيانا مع إثيوبيا، والشد والجذب حول حلايب وشلاتين.
وانبنت العلاقة مع ليبيا على نفس الاعتبارات السياسية، واصطف الموقف المصري مع الإمارات والسعودية لمساندة المكون العسكري الذي يقوده اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ضد الحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس. وترتب على ذلك تصاعد التوتر القائم مع تركيا، بعد أن وقَّعت حكومة طرابلس اتفاقية دفاع مع تركيا لمواجهة استعانة اللواء حفتر بمرتزقة شركة فاجنر الروسية، وحصوله على دعم عسكري ومالي من مصر، والإمارات، والسعودية.
وقد توطدت علاقات مصر مع إسرائيل عمليا. فتم إعادة السفير إلى تل أبيب، واستمر دور مصر في الوساطة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة، لا سيَّما عند اقتحام إسرائيل لغزة أعوام 2014، و2021، و2022، وأثناء تصاعد التوتر في بداية العام الجاري. وانعقدت لقاءات معلنة وغير معلنة على مستوى القمة مع رؤساء وزراء إسرائيل في نيويورك، والعقبة، والقاهرة، وشرم الشيخ. وحرصت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على مساندة مصر في الأوساط السياسية الأمريكية، ومع الإدارات الأمريكية المتتالية ديمقراطية كانت أو جمهورية.
وتوطدت العلاقة كذلك مع السلطة الفلسطينية في رام الله، التي ساندت بدورها تغيير نظام الإخوان، بسبب التنافس بينها وبين الفصائل السياسية الفلسطينية ذات الاتجاه الإسلامي ولا سِيَّمَا حماس التي تسيطر على قطاع غزة. ورغم اتهامات مصر لحماس بمساندة الإرهاب في مصر، واستمرار إغلاق معبر رفح معظم الوقت، وفتحه بشروط يتم التنسيق بشأنها مع الجانب الإسرائيلي لضمان عدم تَسَرُّب أي مواد يُمْكِنُ استخدامُها لتطوير القدرات العسكرية لحماس؛ فقد احتفظت مصر بالعلاقة مع حماس في إطار المصالح المشتركة المترتبة على علاقة الجوار المباشر، والحرص على الاحتفاظ بدور إقليمي لمصر يرتبط بالقدرة على السيطرة على التصعيد الفلسطيني عند الحاجة.
وقد أثمر ذلك عن تطبيع العلاقات مع الإدارة الأمريكية الجديدة بعد خسارة ترامب وفوز الرئيس الديمقراطى جو بايدن بالانتخابات عام 2020، رغم ما كان قد أعلنه خلال حملته الانتخابية من انتقادات وشروط بشأن العلاقة مع مصر.
واتسمت العلاقات مع تركيا بالتوتر لنفس الاعتبارات السياسية، بسبب مساندة تركيا للإخوان المسلمين، واعتبارها التغيير الذي حدث في مصر انقلابا عسكريا. وازداد التوتر مع تركيا مع توتر علاقاتها مع المملكة السعودية بسبب عملية اغتيال الصحافي السعودى المعارض جمال خاشقجى في أسطنبول.
وتم الضغط على تركيا ومواجهتها في مواقع تَنَافُسٍ كثيرة، بما فيها ليبيا، وسوريا، وترسيم الحدود في البحر المتوسط مع قبرص واليونان. ثم بدأت بوادر حوار مع تركيا مع انفراج العلاقات بينها وبين السعودية والإمارات نتيجة الضغوط التي يواجهها الاقتصاد التركي.
واتَّبَعَتْ العلاقات مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية منذ 2013 أولوية الحصول على اعتراف غربي بشرعية التغيير الذي حدث في مصر، والرد على أي انتقادات بشأن حقوق الإنسان وتوسع دور الجيش، وكذلك تأمين الحصول على متطلبات مصر من السلاح.
وقد تم تحقيق تلك الأهداف مع الولايات المتحدة من خلال توظيف الدور المصري بشأن التهدئة في غزة كما أسلفنا، والتنسيق الوثيق مع الرئيس ترامب قبل وبعد انتخابه بشأن خططه للتعامل مع القضية الفلسطينية فيما يُعرف بصفقة القرن -بما في ذلك سحب مشروع قرار بشأن إدانة إنشاء المستوطنات الإسرائيلية كانت مصر قد تقدمت به إلى مجلس الأمن أثناء عضويتها به في ديسمبر 2016.
وتم تحقيق تلك الأهداف أيضا من خلال توظيف جماعات الضغط القريبة من إسرائيل، ومن الإمارات والسعودية، للتأثير على المُشَرِّعِين في الولايات المتحدة للحيلولة دون اتخاذ إجراءات حيال أوضاع حقوق الإنسان في مصر، ورفع أي تجميد لصفقات التسليح الأمريكية. كما تمت الاستجابة عند الضرورة للضغوط الأمريكية للإفراج عن معتقلين مُحَدَّدِين، مثل محمد سلطان، وآية حجازي، أثناء رئاستَىّْ أوباما، وترامب على التوالي.
وتم تحقيق نفس الأهداف مع دول الاتحاد الأوروبي من خلال توظيف البُعْدَيْن الاجتماعي والاقتصادي. فقد تم تكثيف التنسيق في مجال مكافحة الهجرة غير الشرعية؛ وتم استخدام أموال الدعم الخليجي، ثم التوسع في القروض، لشراء منتجات أوروبية مثل صفقات محطات توليد الكهرباء التي تنتجها شركة سيمنس الألمانية، والقطارات الأسبانية والمجرية، وحاملة المروحيات ميسترال، وطائرات الرافال الفرنسية عام 2014 -وكانت أول مرة تُصَدَّرُ فيها تلك الطائرات للخارج، بعد أن تراجعت النمسا عن صفقة مماثلة عام 2005 بسبب تكلفتها المرتفعة.
هذا بالإضافة إلى مواصلة سياسة توطيد العلاقات مع قبرص واليونان التي بدأت أثناء حكم الرئيس الأسبق مبارك، من خلال التنسيق معهما في مسائل ترسيم الحدود البحرية، وتقسيم حقول إنتاج الغاز في البحر المتوسط، وفي مواجهة تركيا؛ من أجل توظيف العلاقة مع هاتين الدولتين لعرقلة اتخاذ أي قرار مشترك في إطار الاتحاد الأوروبي للضغط على مصر؛ مع التوسع كذلك في التنسيق مع عدد من دول شرق أوروبا التي تقودها حكومات يمينية متطرفة في إطار مجموعة فيشجراد لنفس الغرض.
وتمحورت العلاقة مع الدول الإفريقية في البداية حول الحصول على الاعتراف بشرعية التغيير الذي حدث في مصر عام 2013 بعد أن اعتبره الاتحاد الإفريقي انقلابا عسكريا وعَلَّقَ عضوية مصر فيه بناءً على ذلك. وتم النجاح في استعادة عضوية الاتحاد الإفريقي باستخدام الضغوط السياسية الأوروبية، والحوافز الاقتصادية الخليجية من جهة؛ ثم توقيع اتفاق المبادئ الخاص بسد النهضة مع إثيوبيا والسودان في مارس عام 2015 قبل قمة الاتحاد الإفريقي التي قررت رفع تجميد عضوية مصر بثلاثة شهور.
ثم رَكَّزَت سياسة مصر الإفريقية على مسألة مياه النيل ومحاولة اكتساب مساندة الدول الإفريقية في مواجهة إصرار إثيوبيا على بناء سد النهضة دون ضوابط رغم توقيع اتفاق المبادئ المشار إليه. لكن رغم الاستثمارات المصرية الكثيرة في إفريقيا، وتوفير المنح التدريبية التقنية، والعسكرية للعديد من الدول الإفريقية، لم يغير ذلك من مواقف معظمها. إذ ظلت أقلية منها تلتزم الحياد على أفضل تقدير، بينما استمرَّت الأغلبية في الميل إلى مساندة الموقف الأثيوبى من منطلق أن الحصص المصرية والسودانية التاريخية في مياه النيل تُعْتَبَرُ نتاجا للحقبة الاستعمارية. وإلى جانب الاهتمامات المصرية بمياه النيل، استمر العمل على تطوير العلاقات الاقتصادية مع الدول الإفريقية اعتمادا على منظور قاصر بأن الأسواق الإفريقية مُهَيَّأَةٌ لاستقبال المنتجات المصرية بسبب انخفاض جودتها، وبالتالي تكلفتها، مقارنة بالمنتجات الأوروبية.
وقد توطدت العلاقات مع روسيا والصين بناءً على تفضيل مصر للتعامل مع تلك الدول لأنها لا تتدخل في الشئون الداخلية. وقد انعكس ذلك في تعزيز المصالح الاقتصادية المشتركة بإبرام صفقات سلاح مع الدولتين، والتوسع في القروض من كليهما لتمويل مشاريع ضخمة مثل إنشاء محطة نووية في الضبعة شمال مصر بتمويل وخبرة روسية، وإنشاء عاصمة إدارية جديدة بتمويل واستثمارات صينية، وتطوير مناطق صناعية وتجارية حول قناة السويس.
كما انعكس ذلك سياسيا عام 2014 عند الامتناع عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار الخاص بإدانة احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية؛ ثم عام 2022 عندما صوتت مصر لصالح القرار الخاص بإدانة الغزو الروسى لأوكرانيا -نتيجة لقوة الحملة الغربية لإدانة الغزو هذه المرة- مع الإدلاء ببيان لشرح التصويت تَفَادَى إدانة روسيا بالاسم، وحرص على الإشارة إلى الاستفزازات التي تعرضت لها، ودعا إلى الاستجابة لمشاغلها؛ ثم امتنعت مصر عن التصويت على طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان. وانعكس ذاك مع الصين في الامتناع عن إدانة التضييق الصيني على الأقليات المسلمة؛ بل وترددت أنباء عن ترحيل عدد من المبتعثين الصينيين لدى الأزهر.
رابعا: مراجعة دوافع السياسة الخارجية المصرية:
يتضح مما تقدم أن الدافع الرئيسي للسياسة الخارجية المصرية منذ عام 2013 تمثل في اكتساب وتوطيد الشرعية على المستوى الدولي، ودرء أي تشكيك في تلك الشرعية خاصة من منطلق حقوق الإنسان؛ ثم توفير موارد اقتصادية إضافية لاستخدامها لتحقيق الهدف الأول، وأهداف أخرى تتعلق بتسيير أمور الدولة واكتساب الشرعية الداخلية.
وتقديري أن مراجعة الدافع الرئيسي ثم الدافع الثانوي بالتحرر من مسألتي الحاجة لاكتساب الشرعية الدولية -التي تحققت بدرجة كبيرة وتجاوزها الزمن، وللرد على انتقادات انتهاكات حقوق الإنسان؛ ومن الحاجة الملحة لتوفير موارد اقتصادية من الخارج؛ قد تفتح آفاقا أوسع للسياسة الخارجية المصرية، من خلال الاستقلال عن الاستجابة لأولويات دول أخرى، والتركيز على تحقيق أهداف خاصة بالمصالح المصرية، والقضاء على أهم مصادر ضعف الموقف الدولي والداخلي. وقد يساهم ذلك في تحقيق الأهداف الوطنية للسياسة الخارجية المتمثلة في تعظيم الموارد المتاحة للدولة، وتقليص التحديات التي تتعرض لها؛ وكذلك مصالح النظام المتمثلة في البقاء، واكتساب المصداقية والشرعية.
خامسا: التحرر من الدوافع المصطنعة لاتِّباع سياسات أكثر فاعلية:
على صعيد دول الخليج العربي فإن التحرر من الحاجة لشرعية إقليمية، ومن السعي الدائم للحصول على مساعدات اقتصادية؛ يُتيح للسياسة المصرية أن تَتَّبِعَ نهجا أكثر استقلالا، دون الحاجة لاتخاذ مواقف عدائية تجاه هذه الدولة أو تلك؛ ودون الحاجة للتورط في نزاعات بعيدة عن الحدود والمصالح المصرية المباشرة، سواءً في اليمن، أو إيران. وقد يفتح ذلك المجال أمام القيام بدور فاعل للوساطة في تلك النزاعات، يساهم في تعزيز المصداقية دوليا، وإقليميا؛ ويؤدي إلى تنويع مصادر الدعم الاقتصادي، ويجعل ذلك الدعم أكثر ميلا إلى الاستثمارات والمصالح المشتركة، وأكثر استدامة، ويوفر كمية أكبر من الدعم من خلال إتاحة تمويلات بحجم أقل لكن من مصادر أكثر بدلا من الاعتماد على ممول رئيسي واحد أو اثنين، وربط مساعدات الآخرين بالعلاقة بهما.
وقد تحقق ذلك نوعا ما عندما تم استقبال مساعدات واستثمارات من قطر لمَّا تباطأت السعودية والإمارات في توفير الدعم مؤخرا؛ وقبل ذلك حينما تم التوجه للعراق في نهاية 2015 عندما علَّقت السعودية دعمها انتظارا للبت في ملكية تيران وصنافير. وقد يساهم ذلك أيضا في تفادي مصادر التوتر العابر أو المستمر، الذي يعود لأسباب ترتبط بتوقع أو طلب طرف معين سلوك معين من الطرف الآخر، والإصرار عليه، نتيجة طبيعة العلاقة بين الطرفين، ونكوص الطرف الآخر عن اتخاذ الموقف المطلوب.
بالنسبة للسودان، فإن التحرر من الاعتبارات السياسية المتعلقة بمساندة النظم العسكرية أو الجيوش الوطنية في مواجهة الثورات الشعبية، يوفر فرصا أكبر للحصول على ثقة مختلف مكونات الحياة السياسية السودانية، ومساعدتها على التوصل إلى توازن مناسب يساهم في تحقيق الاستقرار والانتقال الديمقراطي في السودان، والمحافظة على تماسك الدولة السودانية؛ مما يتيح إمكانية التنسيق معها بصورة أكثر فاعلية بشأن سد النهضة.
وفيما يتعلق بليبيا يتيح ذلك التركيز على المصالح المشتركة، والسعي لتحقيق المصالحة بين مختلف الفصائل، وتحقيق الاستقرار وتوحيد البلاد، بما يوفر مصدرا إضافيا للمحروقات، والاستثمارات؛ بدلا من تشجيع المكون العسكري، الذي يتمثل في اللواء حفتر وحلفائه، على غزو طرابلس والاستئثار بالسلطة. وهي السياسة التي تسبب كذلك توترات مع عدد من الدول الأوروبية، والأمم المتحدة التي تعترف بالحكومة في طرابلس؛ وكذلك مع تركيا.
وبالنسبة لإسرائيل، فإن التحرر من الحاجة إلي وسيط للضغط على الولايات المتحدة لتخفيف انتقاد حقوق الإنسان في مصر، يُكْسِبُ العلاقة توازنا، يُمَكِّنُ مصرَ من اتخاذ مواقف أكثر حزما تجاه التجاوزات الإسرائيلية بشأن الاستيطان وحقوق الفلسطينيين التي تؤثر أيضا على استقرار الأوضاع على حدود مصر الشرقية.
كما أن التحرر من هواجس تدخل حماس في شئون مصر، واتخاذ مواقف أكثر حزما تجاه سياسات إسرائيل، يساهم في اكتساب ثقة الجانب الفلسطينى؛ ويُعَزِّزُ القدرة على التنسيق معه بصورة أفضل لاحتواء أي تصعيد؛ ومتابعة وفاء إسرائيل بما تلتزم به من تفاهمات، دون الإخلال بالالتزامات الواقعة على مصر تجاهها؛ مما يجعل جهود التهدئة أكثر استدامة، ويُكْسِبُ مصرَ وزنا إقليميا ودوليا إضافيا، مقارنةً بتركيا وقطر اللتين ليست لهما حدود مباشرة مع فلسطين. وقد يساعد ذلك أيضا على توفير شعبية أكبر للنظام داخليا بالنظر إلى مكانة القضية الفلسطينية لدى الرأي العام.
وبالنسبة للعلاقة مع تركيا، فإن التحرر من الاعتبارات السياسية السابق ذِكْرُها يسمح بالبناء على الحوار القائم حاليا على استحياء، من خلال التركيز على المصالح المشتركة بشأن موارد البحر المتوسط، وكيفية الاستفادة منها بصورة أكبر دون الحاجة للوقوف في صف اليونان وقبرص، ولا في صف تركيا، بشأن النزاعات القائمة بينهما.
وقد يفتح ذلك الباب للتهدئة مع تركيا، والتعاون الاقتصادي معها في مجالات أخرى بما في ذلك في ليبيا والسودان، بدلا من التنافس الحالي الذي يؤدي إلى إهدار الإمكانيات السياسية والاقتصادية للدول الأربع بسبب مساندة فصائل على حساب أخرى لعرقلة التعاون مع الطرف المنافس، بدلا من تكامل الإمكانيات المتاحة لتحقيق المصالح المشتركة.
وتعتمد مراجعة السياسة تجاه أوروبا والولايات المتحدة، على عنصرين رئيسيين، الأول: مراجعة السياسات المتبعة بشأن حقوق الإنسان. إذ إن مجرد تحسين أوضاع حقوق الإنسان في مصر سيحرر مصر من الحاجة الدائمة لتبرير تلك الانتهاكات، ولو كانت فردية، ومن الحاجة لتقديم تنازلات في مجالات أخرى من أجل إبطال أثر الانتقادات المستمرة لأوضاع حقوق الإنسان.
كما سيسهم ذلك في تعزيز دعائم أي حكومة تعتمد مثل تلك المراجعة، ويزيد من قوتها التفاوضية مع دول المعسكر الغربي سواء في المجالات الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية. والعنصر الثاني: هو التخلص من عقدة الحاجة إلى الشرعية –التي تجاوزها الزمن كما ذكرنا، ونفي تهمة الانقلاب العسكري، التي تدفع كذلك إلى تنازلات، وإلى إهدار الموارد من أجل إسكات الأصوات التي تندد بذلك.
وعلى الصعيد الإفريقي يمكن إلى جانب قضية مياه النيل، التركيز على العلاقات السياسية مع الدول الإفريقية بصورة مستقلة، وتناولها بصورة أكثر انفتاحا وندية؛ وتوسيع التعامل الاقتصادي مع إفريقيا في مختلف المجالات بمنتجات وخدمات تضاهى المستويات العالمية، مما يؤدي إلى ربط تلك الدول بمصر بعلاقات اعتماد متبادل أكثر استدامة، ويساعد كذلك على تطوير الصناعة في مصر ورفع كفاءتها وتنافُسِيَتِها. ولا شك أن تنويع دوافع ومحركات السياسة المصرية تجاه إفريقيا سيساهم تدريجيا في تغيير الصورة النمطية لمصر في إفريقيا التي تتسم نسبيا بالسلبية مقارنة بالدول العربية الأخرى في شمال إفريقيا، ولا سيما الجزائر والمغرب، اللتان تطبقان الاعتبارات المشار إليها بكفاءة.
وبالنسبة لروسيا والصين، يؤدي التحرر من الاحتياج إلى شركاء لا يتعرضون للشئون الداخلية، إلى إضفاء التوازن على العلاقة من الناحية الاقتصادية والسياسية. ويتيح القيام بدور للوساطة في الحرب الأوكرانية الروسية يتجاوز نقل رسائل، أو التعبير عن التمنيات. وقد يُعَزِّزُ ذلك من قدرة مصر على استيراد احتياجاتها الغذائية من طرفي النزاع. كما قد يساهم في توفير شروط أفضل للاستثمارت الصينية في العاصمة الإدارية وقناة السويس، إذا شعرت الصين أن هناك منافسة حقيقية من دولٍ أخرى.
سادسا: الخلاصة: تغيير المنظور من أجل تحقيق الأهداف بأناقة وفاعلية:
نخلص مما تقدم أن وضع السياسة الخارجية المصرية يعكس أمورا لا تتعلق بالعلاقات بالدول الأخرى فقط، بل ترتبط بدرجة متساوية إن لم تكن أكبر، باعتبارات السياسة الداخلية. وأن المراجعات لا بد أن تمتد إلى السياسة الخارجية. وأن مراجعة السياسات الداخلية تؤثر على السياسة الخارجية، وأن مراجعة الأخيرة تؤثر بدورها على الوضع الداخلي.
كما نخلص، وهذا هو الأهم، إلى أن مراجعة السياسة الخارجية لا تتطلب تغييرات جذرية في الأهداف والمصالح الأساسية للدولة، ولا في الطبيعة العامة للعلاقات القائمة مع أهم الأطراف الخارجية، بل تتطلب فقط التحرر من قيود فرضها فهم النظام القائم وإدراكه للظروف المرتبطة بكيفية وصوله للسلطة، ولرد الفعل الدولي والإقليمي تجاهها، ومن ثَمَّ السياسات التي يتَّبِعُ وفقا لذلك. وأن مجرد مراجعة المنظور paradigm shift الذي تنطلق منه السياسة الخارجية الحالية، يمكن أن يحقق بكفاءة أكبر، وبصورة أكثر أناقة، نفس الأهداف الاستراتيجية للدولة وللنظام نفسه؛ بما في ذلك اكتساب وتعزيز الشرعية والمصداقية على المستويين الخارجي والداخلي، وتعزيز الموارد السياسية والاقتصادية المتاحة للدولة، وتنويع مصادرها؛ من خلال إضفاء التوازن، وسد الثغرات في التعاملات الخارجية؛ وتوخِّي الفعالية في إدارة الاقتصاد، والحياة السياسية، والتحرر من قيود لا يوجد موضوعيا ما يُجْبِرُ مصر على الالتزام بها.