تقطع “ثريا عبيد” مسافة 5 كيلومترات -مرتين أسبوعيًا- من قرية “الخربة ” إلى منطقة الخزان بمدينة العريش، لجلب المياه النظيفة إلى أسرتها. تصطحب جاراتها لتقسيم أجرة “العربة الكارو” التي تقلهن وأوانيهن، لتقليل التكلفة التي تصل إلى 100 جنيه لعملية النقل الواحدة، إضافة إلى 10 جنيهات لكل عبوة مياه.

“ثريا” وغيرها من النساء في القرى المحرومة من المياه النظيفة بالعريش في محافظة شمال سيناء، وفي مطروح، والمناطق الريفية الأخرى معدومة المرافق وشبكات المياه النظيفة، اعتدن على الوضع وتكيفن معه. لكنهن لا يفقدن الأمل في الحلم، أن تفتح تلك السيدات صنبور المياه بمنزلها لتجد مياه تكفيها شقاء الحمل والتعبئة والاستنزاف المادي.

تتكرر المشاهد بمنطقة السنوسية بمحافظة مطروح. تكلفة سيارة المياه “الفنطاس” تصل إلى 1000 جنيه في المرة الواحدة. يحجزها المواطنون من شركة المياه والصرف الصحي، بفواتير رسمية مسبقة الدفع، وينتظرون دورهم الذي قد يمتد لأكثر من عشرة أيام قبل أن تصل إليهم السيارة، وفق رواية آية محمد من سكان المنطقة.

نساء وأطفال يحملون جالونات مياه شرب في إحدى القرى المصرية (وكالات)
نساء وأطفال يحملون جالونات مياه شرب في إحدى القرى المصرية (وكالات)

الوصول إلى مياه نظيفة، وخدمات صرف صحي مأمونة لا تختلط بالمياه الجوفية، وبأسعار معقولة، هي كلها أمور تضمن “حياة كريمة” خالية من الأمراض للمواطنين.

على أرض الواقع، اتخذت مصر خلال السنوات الأخيرة خطوات هامة نحو تحسين البنية التحتية في مدن ومحافظات عدة من أجل تحقيق وصول مياه نظيفة للمواطنين.

ومع ذلك، ووفق آخر تقرير لليونيسيف، يعيش في المناطق الريفية حوالي 12% من السكان في مساكن غير موصولة بمنظومة مياه الشرب. وفي المناطق الحضرية لا تتصل مساكن 4% من السكان بالمياه. بينما في المناطق الحضرية العشوائية، لا يتمتع سوى 77% من الأسر بوصلات مياه إلى منازلهم. وفي كثير من الحالات، هي توصيلات غير قانونية بلا عدادات مياه.

غير صالحة للشرب

في هذه الأماكن النائية، من المعتاد أن تضخ شركة مياه الشرب والصرف الصحي المياه لساعات محدودة “من ساعتين لثلاث ساعات” مرتين في الأسبوع، على أن يتحمل المواطن مسئولية تخزينها في خزانات أعلى المنزل.

لكن هذه المياه، وفق السكان، مياه بحر محلاة غير صالحة للشرب. لذلك يتكلفون عبء شراء مياه أخرى صالحة للشرب (مقطرة) من بعض المعامل والشركات الخاصة، وهي تكلفة مادية أخرى.

يقول “عبد الستار أبو طلاق” من سكان قرية منطقة القصر بمطروح: “للتغلب على مشكلة انقطاع المياه المستمر الذي يمتد لمدة 20 يومًا أحيانًا، نلجأ لحفر بئر (الدقة)، لتلبية احتياجاتنا من المياه”.

تؤكد هذا الحديث، “حنان سلام” من منطقة الرسخ. تقول إنه مع قدوم فصل الصيف تغلق الشركة خطوط المياه تمامًا، على أن تتولى السيارات التابعة بيعها للمواطنين في مدينة مرسى مطروح.

أشرف الحفني الصحفي بشمال سيناء
أشرف الحفني الصحفي بشمال سيناء

يقول أشرف الحفني الصحفي بشمال سيناء، إن أهالي العريش يعتمدون على شراء مياه شرب مقطرة صالحة للشرب من دكاكين لأن الخط الرئيسي المغذي للعريش من القنطرة شرق البالغ قطره 700 مل لا يكفي، إضافة إلى أن نسبة الكلور بهذه المياه مرتفعة لا يستسيغها الناس.

النساء والأطفال الأكثر تضررًا

يعتمد وصول مياه نظيفة إلى المواطن على تحسين البنية التحتية لأنظمة المياه، بما يضمن عدالة التوزيع، وحماية صحّة الأفراد. فالبنية التحتية الضعيفة تُفاقم مشاكل نقص المياه وتزيد من فرص انتشار الأمراض المنقولة بالمياه الملوثة.

وتعد النساء من الفئات الأكثر تضررًا في مسألة الحرمان من المياه. إذ يتحملن العبء الأكبر في حمل وتوفير المياه، وبالتالي تتضاعف أعبائهن المنزلية. هذا بخلاف الأضرار الصحية والجسدية.

منى عزت استشاري التمكين الاقتصادي والنوع الاجتماعي
منى عزت استشارية التمكين الاقتصادي والنوع الاجتماعي

تقول منى عزت، استشارية التمكين الاقتصادي والنوع الاجتماعي، إن نقص المياه يؤثر بشكل مباشر على النساء، خاصة صحتهن الجسدية، التي تتأثر باضطرارهم لحمل المياه على رؤوسهن وأكتافهن لمسافات طويلة. وهو أمر يضر بأجسادهن بشكل مباشر، خاصة من كانت بينهن في حالة حمل؛ “ستتأثر هي وجنينها أيضًا”.

كذلك، فإن مشقة توفير المياه بالطرق البدائية تلك، تضاعف ساعات أداء الأعمال المنزلية المنوطة بها النساء. بينما يفاقم الفقر المائي الأضرار الصحية.

اقرأ أيضًا: الطبيعة تعاقب البشر على إفساد المناخ.. الثمن صحتكم والنساء يتصدرن الخطر

ويؤثر ترشيد استخدام المياه في عمليات التطهير والنظافة الشخصية، وغسل الملابس والأدوات. ما يجعل الأسرة عرضة للإصابة بالأوبئة والميكروبات. هذا فضلًا عن تباعد فترات استخدام “الحمامات” -توفيرا للمياه- ما يزيد من معدل الإصابات بأمراض الكلى.

ولا تكون المياه المخزنة بالجودة نفسها. تقول منى عزت إن المياه الجارية أقل عرضة للتلوث بالبكتريا من المياه المخزنة في أوان أو خزانات، تحتاج إلى تطهير مستمر، أو تسخينها بدرجات حرارة عالية ولمدد طويلة حتى تكون صالحة للشرب.

كذلك الأمر بالنسبة للأطفال، هم الفئة الأخرى الأكثر تضررًا بعدم الحصول على مياه مستمرة وصالحة للشرب. إذ أن المياه النقية ضرورة أساسية للنمو السليم، وتلوثها يزيد من مخاطر انتقال الأمراض كالتيفود والإسهال.

ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، هناك طفل يموت كل دقيقتين بسبب الأمراض التي تنقلها المياه الملوثة، أو بسبب الإسهال الذي يُحدث جفافًا في جسد الطفل. ما يتسبب في وفاة 1.5 مليون طفل سنويًا، معظمهم من الأطفال دون سن الخامسة الذين يعيشون في البلدان النامية.

يوجد حوالي 160 مليون طفل حول العالم يُعانون من أمراض التقزم وسوء التغذية المرتبطين بشكل مباشر بنقص المياه الصالحة للشرب أو عدم وجود خدمات الصرف الصحي التي تزيد تلوث المياه.

اختلاط المياه بالصرف

تحتاج العدالة فى توزيع خدمات المياه والصرف الصحي إلى سياسات أكثر شمولية، على المستوى الإنساني. فلا يمكن النظر إلى المياه بمعزل عن الصرف الصحي، وهما معا عاملين حيويين في حال لم يتوفرا بشكل جيد، في زيادة نسب التلوث والأمراض. وفي حال تحسنهما فإنهما من أهم عوامل تحسين الصحة ومن ثم التعلم والإنتاجية الاقتصادية للسكان.

وفي مصر، تشير بيانات العام 2014، إلى 8.4 مليون شخص محرومين من الوصول إلى شبكة صرف صحي محسنة في المناطق الريفية. وبشكل عام، فإن 10% من المصريين لم يستفيدوا من الوصول إلى شبكة صرف صحي حديثة، مع تفاوتات ملحوظة جغرافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

الدكتور محمد عز العرب استشاري الأمراض الفيروسية والكبدية بالمعهد القومي للكبد
الدكتور محمد عز العرب استشاري الأمراض الفيروسية والكبدية بالمعهد القومي للكبد

وقد بلغت نسبة السكان الذين لا يحصلون على خدمات صرف صحي كافية في المناطق الريفية حوالي 15%. ذلك مقارنة بحوالي 1% في مساكن المناطق الحضرية، وتزيد نسب اختلاط مياه الشرب بالصرف الصحي في المناطق التي تعتمد على الآبار والمياه الارتوازية، التي تمثل خطورة بالغة على صحة الإنسان. ذلك لأنها لا تخضع لتحليل بيان نسبة المعادن والرواسب بها، وفقًا لما يشير إليه الدكتور محمد عز العرب استشاري الأمراض الفيروسية والكبدية بالمعهد القومي للكبد.

اقرأ أيضًا: الأطفال والتغيرات المناخية| ناقوس الخطر على نغمته الحادة.. ومصر في الفئة شديدة التأثر

يقول “عز العرب” وهو المستشار الطبي للمركز المصري للحق في الدواء، إن أخطر مصادر التلوث هي الملوثات البيولوجية، وتنتج من الأنشطة الصناعية وحالات الكوارث الطبيعية. الأمر الذي حذرت منه منظمة الصحة مؤخرًا في كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا.

أما المياه غير المعالجة فتكون أكثر عرضة للتلوث بالبكتيريا والفيروسات، مثل (روتا، والبكتريا المسببة للكوليرا، والديزنتاريا، والتيفود) التي تؤدي للنزلات المعوية الحادة والجفاف، خاصة لدى الأطفال، وتنتج نسب وفيات مرتفعة. وفي الوقت نفسه، تزيد نسبة ترسبات المعادن بالمياه الملوثة بالآبار الارتوازية المكشوفة أو المختلطة بالصرف الصحي مثل (الزئبق والكاديم، والنيكل).

يقول “عز العرب”، في حديثه لـ”مصر 360”: “إن تلك المعادن تترسب في أعضاء الجسم، خاصة الكلى والكبد، وتؤدي إلى خلل في وظائفهما على المدى الطويل”.

المدارس ونقص المياه

تشير أحدث الإحصاءات لمنظمة اليونسيف إلى أن 98% من المدارس في المناطق الحضرية بها وصلات لمياه نظيفة، مقابل 84% في المناطق الريفية. لكن غالبًا لا تصل المياه للمدارس لضعفها أو انقطاعها تمامًا، واعتمادها على الخزانات التي لا تخضع لعملية تطهير، ما يجعل التلاميذ عرضة للأوبئة.

سيارات المياه في إحدى مدارس العريش شمالي شرق البلاد، نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 (وكالات)
سيارات المياه في إحدى مدارس العريش شمال شرقي البلاد، نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 (وكالات)

أحمد حسن، رئيس النقابة المستقلة للمعلمين، يقول إن نقص المياه النظيفة عائق أمام العملية التعليمية. خاصة بالمناطق الريفية والنائية. إذ يمثل تهديدًا لصحة الأطفال، الذين هم أكثر حاجة لاستخدام الحمامات وأدوات النظافة بشكل مستمر.

ويبيّن “حسن” أن جميع المدارس بها وصلات مياه، وهناك توجيهات لجميع الإدارات التعليمية بأن يكون بكل مدرسة خزان مياه لمعالجة نقص المياه. لكن هناك مشكلة تتعلق بتطهير الخزانات بشكل دورى. كما أن هناك قصورا لدى الإدارات التعليمية في المتابعة. حيث لا تخاطب الوحدات المحلية أو هيئة الأبنية التعليمية.

يضيف أن الإنفاق على خدمات البنية الأساسية وتطويرها بالمدارس يتم عبر ميزانيات لا مركزية بالمديريات التعليمية بالمحافظات، وأحيانًا بتقليص المصروفات عمدًا وإرجاع جزء من الميزانية للوزارة، إذ يعود ذلك بالمكافآت على وكلاء الوزارة ومسئولي اللا مركزية. ما يشجع على تقليص الإنفاق على الخدمات بالمدارس من أجل الاستفادة من الأموال التي يتم إرجاعها.

الدكتور على صديق رئيس وحدة حقوق الإنسان التابعة لوزارة التنمية بمحافظة أسيوط
الدكتور على صديق رئيس وحدة حقوق الإنسان التابعة لوزارة التنمية بمحافظة أسيوط

معالجة الأزمة

ويقول الدكتور على صديق، رئيس وحدة حقوق الإنسان التابعة لوزارة التنمية بمحافظة أسيوط، إن المنازل المحرومة من وصول المياه النظيفة، غالبًا ما تكون دون رخصة. وبالتالي لا تصلها المرافق. كما تعتمد الوحدات المحلية بالمحافظات أحيانًا على جهود المجتمع المدني لتوصيل مياه الشرب.

ويوضح “صديق” أن وحدة حقوق الإنسان بأسيوط، حال تلقيها شكاوى خاصة بالمياه تحولها إلى إحدى الجمعيات الأهلية التي تتولى عملية التواصل مع الوحدات المحلية لتركيب عدادات لهذه المنازل وتوصيل المياه عن طريق متبرعين للتكلفة المالية.

وهو يشير إلى أزمة نقص المياه النظيفة بأنها تتراجع خلال الفترة الأخيرة. خاصة مع انطلاق مبادرة “حياة كريمة” التي تولت توصيل خدمة مياه الشرب والصرف للمناطق المحرومة بالقرى والنجوع، على حد قوله.

ويأتي تطوير مشروعات البنية التحتية واستكمالها بحيث تمتد لباقي المناطق الجغرافية المحرومة كأحد أبرز مستهدفات الاستراتيجية التي تسعى الحكومة لتنفيذها فيما يخص الحق في مياه الشرب الآمنة والصرف الصحي.

وتسعى خطة العام الجاري لاستكمال مشروعات المرحلة الأولى التي تقدر تكلفتها بحوالي 1.17 مليار جنيه. منها: محطات معالجة بمدينة المنشأة، وقرية الغنيمية بمركز البلينا، والجلاوية بمركز ساقلتة، بمحافظة سوهاج، بتكلفة 2.8 مليار جنيه.