إذا كان عقل إنسان في حالة تيه، فليدرس علم الرياضيات- فرانسيس بيكون-1625م.

غالبًا ما يُنسب الفضلُ إلى عالم الفلك والرياضيات الإيطالي جاليليو جاليلي في اكتشاف الدور الحيوي الذي تلعبه الرياضيات في حياتنا وفي محاولتنا لفهم الكون. يقارن جاليليو الطبيعة في مقال صدر عام 1632 بعنوان “المختب” (Il Saggiatore) بكتاب مفتوح للقراءة، لكنه يحذر من أننا لا يمكن أن نقرأ أو نفهم هذا الكتاب، ما لم نتعلم اللغة التي كتب بها.

يقول: “والفلسفة مسطورة في ذلك الكتاب العظيم، الطبيعة، والمفتوح دائمًا تحت بصرنا. إلا أننا لن نفهم الكتاب حتى نتعلم أولًا كيف نفهم اللغة ونقرأ الحروف التي كتب بها. إنه مكتوب بلغة الرياضيات وحروفها المثلثات والدوائر والأشكال الهندسية الأخرى. والتي يستحيل بدونها للإنسان أن يفهم كلمة واحدة منه، فبدونها نمضي متخبطين في متاهة مظلمة”.

كان جاليليو يفكر بشكل أساسي في دور الرياضيات في الفلك والفيزياء، ولا غرابة في هذه الصياغة المقصورة على الهندسة، فلقد كان علم الفلك، والذي حقق أكبر قدر من التقدم في عصر جاليليو، متوائمًا تمامًا مع الهندسة، كما كان إسهامه الأساسي، في نظرية السقوط الحر والمقذوفات، مصاغًا في أغلب الحالات في قالب هندسي نظرًا لضعف التطور في علوم الجبر.

لكن “كيت ييتس” عالم الأحياء الرياضية في جامعة باث في المملكة المتحدة في كتابه “رياضيات الحياة والموت: سبعة مبادئ رياضية تشكل حياتنا” يتبنى مفهومًا أوسع من الهندسة. الرياضيات موجودة في كل شيء وفي كل مكان، ولا تقتصر على العلوم الفيزيائية، ونحن نمارسها يوميًا، وعلى مدار الساعة، سواء أدركنا ذلك أو لم ندرك، وسواء كنا نحب الرياضيات أو نكرهها.

نحن دائما في حاجة إليها، لفهم كل ما نراه وكل ما نفعله. وكل ما يحدث حولنا: من درجة الحرارة وحالة الطقس وحركة المرور في المدينة، إلى إرسال الأقمار الصناعية إلى الفضاء، من الاتصالات والأنشطة اليومية إلى فهم التفجيرات النووية والدراسات والإحصائيات الطبية وإحصائيات الجريمة إلى مباريات الكرة وتقييم الحجج التي يقدمها المحامون في قاعات المحاكم.

كما أنها ضرورية لفهم وتفسير كثير من الحوادث والكوارث، ومثال ذلك حادث اصطدام المسبار الفضائي الذي أرسلته وكالة الفضاء الأمريكية إلى المريخ بسطح الكوكب. فقد كشفت التحقيقات أن الوكالة كانت تستخدم نظام الوحدات المترية، بينما كان أحد المقاولين المتعاقدين معها يستخدم نظام الوحدات البريطانية. (البوصة والقدم والياردة، في مقابل المليمتر والسنتيمتر والمتر).

يؤكد المؤلف أن كتابه ليس كتابًا في الرياضيات، ولا يضمنه أية معادلات رياضية، وعلى الرغم من أنه كتاب بسيط وممتع، لكنه يتناول بعض الموضوعات المهمة للغاية. أحد هذه الموضوعات المهمة التي يعالجها الكتاب هو علم الأوبئة. والمثال الذي يقدمه هو أزمة مرض “الإيبولا” التي اجتاحت غرب إفريقيا ابتداء من عام 2013. وقتها أصاب القلق معظم الدول خارج إفريقيا من احتمال وصول المرض إلى شواطئها، ولكن ما هي حقيقة ومدى هذا الخطر؟

في بريطانيا بدأت الحكومة في فحص الوافدين من البلدان عالية الخطورة في أكبر مطارات البلاد وفي محطات القطار في لندن، لكن فريقًا من علماء الرياضيات أعلنوا أن هذا النهج غير فعال. لماذا؟

لأن لكل مرض فترة تسمى فترة الحضانة، وتُعرّف فترة الحضانة للمرض بأنها الفترة الفاصلة بين التعرض لمسبب المرض وظهور الأعراض الأولى. وبالنسبة لإيبولا، تم تحديد فترة الحضانة بحوالي 12 يومًا في المتوسط. ونظرًا لأن هذه الفترة طويلة نسبيًا، مقارنة بالوقت الذي يحتاجه شخص ما للسفر إلى قارة أخرى، فحتى لو وصل إلى لندن شخص مصاب بالإيبولا، فمن المحتمل أن يكون بلا أعراض، كما كشف علماء الرياضيات أنه في أحسن الأحوال، أنه لن يتم اكتشاف أكثر من 7% فقط من المصابين.

بدلًا من قتل البعوض علينا تجفيف البرك والمستنقعات، وبدلًا من مواجهة النتائج، علينا حل المشكلة من المنبع. كانت هذه هي الاسترتيجية التي اقترحها علماء الرياضيات، من الأفضل حل المشكلة في مصدرها، واستثمار الموارد في غرب إفريقيا على أمل احتواء تفشي المرض. يقول “ييتس” إن فهم قواعد الرياضيات البسيطة والتمثيل الرياضي المناسب يمكن أن يمنحنا نظرة ثاقبة للأوضاع وأن يساعد في توجيه السياسة” وإن هذا التدخل كان مثالًا على التدخل الرياضي في أفضل حالاته”.

يناقش الكتاب أيضًا انتشار مرض “السارس” في كندا عام 2003 ويتسائل: ما هي الأمراض المعدية التي يجب أن نخافها أكثر من غيرها؟ وللإجابة على السؤال يقول إن هناك فارق بين الأمراض شديدة العدوى والأمراض القاتلة، وإن الأمراض شديدة العدوى ليست بالضرورة قاتلة، كما إن الأمراض الفتاكة التي تقتل بسرعة، ليست بالضرورة شديدة العدوى. والعلم وراء ذلك واضح ومباشر: إذا كان المرض مميتًا للغاية، فإنه سيقتل ضحاياه قبل أن يتمكنوا من نقل المرض. ما يجب أن نخافه، إذن، هو الأمراض التي تتميز بمزيج من الموت والعدوى.

ويشير إلى الحصبة، وهي مرض شديدة العدوى، فكل شخص مصاب عادة ما يصيب ما بين 12 إلى 18 شخصًا آخر، ولكن معدل الوفيات منخفض نسبيًا. وعلى النقيض من ذلك، فإن الإيبولا أقل عدوى بكثير- فكل مريض يصيب 1.5 آخرين فقط، في المتوسط – لكنه أكثر فتكًا، حيث يقتل أكثر من نصف المصابين. لكن وسط هذه الأوصاف المروعة للأمراض هناك خبر سار، فالأمراض سريعة العدوى والانتشار، والتي تقتل في نفس الوقت معظم الأشخاص الذين تصيبهم، هي نادرة جدًا وعادة ما يقتصر وجودها على أفلام الكوارث في هوليود.

مثال آخر على جمال الرياضيات ودورها في حياتنا وكيف يمكن أن تنقذنا من الهلاك: لنفترض أنك في مدينة لا تعرفها، تشعر بالجوع وتريد أن تتناول الطعام، تصل إلى شارع به الكثير من المطاعم، لكنك لا تعرف أيها الأفضل والأرخص. فهل ستدخل أول مطعم يصادفك؟ أم يتوجب عليك قطع الطريق إلى نهايته واستعراض قوائم الطعام في جميع المطاعم واحدًا تلو الآخر؟ وكم من الوقت ستحتاج لفعل ذلك؟

من غير المحتمل أن يكون المطعم الأول هو الأفضل، وليست هناك حاجة للذهاب إلى نهاية الشارع، لأنه من غير المحتمل أيضًا أن يكون المطعم الأخير هو الأفضل. الاستراتيجية الأكثر فاعلية التي تقترحها لنا الرياضيات هي فحص أول 37 في المائة من المطاعم. فإذا كان هناك 10 مطاعم مثلا، عليك بفحص ثلاثة منها، واختيار الأفضل من بينها. لماذا 37%؟

هذه النسبة، هي في الواقع، مقلوب “عدد أويلر”. وعدد أويلر رقم ثابت، غير نسبي، موجود في الطبيعة، يسمى أحيانًا بثابت النمو أو أساس اللوغاريتم الطبيعي، ويرمز له بالحرف اللاتيني e، ويساوي 2.718 تقريبًا. وسمي بعدد أويلر نسبة إلى عالم الرياضيات والفيزياء السويسري الشهير ليونارد أويلر.

إن جمال هذا الحل يكمن في أنه لا يسري فقط على اختيار مطعم أو مقهى، وإنما يسري كذلك على كثير من القضايا والموضوعات والمواقف التي تفرض علينا الاختيار بين بدائل متعددة. عندما تبحث عن أقصر مسار إلى مستشفى أو سوبر ماركت مثلا، عليك أن تختبر ثلث عدد المسارات المتاحة على الأقل، وإذا كنت تبحث عن عربة هادئة في القطار، يجب عليك البحث في نطاق ثلث عدد عربات القطار، ويتوجب على المدير المسئول عن التوظيف أن يراعي أول 37% على الأقل من المتقدمين للوظيفة، بالطبع، يمكن للمدير أن يكون دقيقًا، وأن يأخذ في الاعتبار جميع المتقدمين للوظيفة، لكن احتمال أن يكون شخص ما من النسبة الباقية -البالغة 63%- أفضل بكثير من أفضل مرشح في الـ 37% الأولى هو احتمال منخفض جدًا.

عشاق الرياضيات قد يشعرون بخيبة أمل لأن المؤلف يعرض لهذه النتيجة دون أن يستخدم المعادلات الرياضية للبرهنة على صحتها، لكنه لو فعل ذلك كان سيضطر لانتهاك قراره بعدم تضمين معادلات رياضية في كتابه، ويمكن لمن يريد أن يعرف القصة كاملة أن يعود إلى أحد كتب الرياضيات الجامعية.

لا شك أنكم يمكن أن تكونوا قد واجهتم مثل هذا الموقف مرات من قبل، وفي الغالب لم تفكروا في أن الرياضيات يمكن أن تساعدكم على اتخاذ القرار الصحيح، لكن في المرات القادمة، وعندما تجدون أنفسكم مضطرين للاختيار بين بدائل متعددة، تذكر عدد أويلر!

المثال الأخير الذي أسوقه من هذا الكتاب حول إحصاءات الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو مثال يوضح كيف يمكن أن تستخدم الأرقام الخاطئة والإحصائيات المضللة في إخفاء الحقائق وخداع الناس وتبرير العنصرية، وكيف يمكن أن تكون الرياضيات سدًا منيعًا ضد الأفكار العنصرية.

في ذروة حركة حياة السود مهمة-(Black Lives Matter)- أعلن الصحافي البريطاني “رود ليدل” أن الخطر الأكبر على السود في الولايات المتحدة هو “الأشخاص السود الآخرون”. وكتب على مدونته إن “جرائم قتل السود في المتوسط تبلغ أكثر من 4000 كل عام، وإن السود الذين قتلوا على أيدي رجال الشرطة، لا يزيد عددهم عن 100 كل عام. هيا: احسبوها”-هكذا كتب.

وهكذا فعل المؤلف، حسبها، ليكتشف أن الأرقام التي اعتمد عليها ليستدل غير صحيحة، وأن العدد الحقيقي للسود الذين قتلتهم الشرطة هو ثلاثة أضعاف الرقم المذكور، وأن عدد جرائم قتل السود للسود مبالغ فيها. ومع أن العدد الإجمالي للقتلى على أيدي الشرطة منخفض، مقارنة بالعدد الإجمالي لعدد القتلى بالأسلحة النارية، لكنه لا يزال “مقلقًا”، والعديد من ضحايا إطلاق النار على أيدي الشرطة هم من السود. ومع إن معدل قتل الشرطة للسود أقل بقليل من واحد في مقابل كل 2000 ضابط شرطة – لكنه “أعلى بثماني مرات من معدل قتل السود للسود”.

في الختام، ليس مطلوبًا من كل الناس أن يتعلموا الرياضيات، لكن معرفة بعض القواعد والقوانين الأساسية للرياضيات ضروري، لأنه يمكن أن يساعدنا في اختيار أفضل الخيارات المتاحة ويمنعنا من ارتكاب أسوأ الأخطاء الممكنة، والتي قد يترتب عليها كوارث. الرياضيات درع ضد الخداع والتضليل والعنصرية، وفي بعض الأحيان، يمكن أن تصبح مسألة حياة أو موت، وأن تحمي الملايين من الموت.