تعد تجربة أغلب الأنظمة السياسية المصرية المختلفة مع القروض الدولية مأسوية وكارثية بكل المعايير باستثناءات محدودة في تجربتي محمد علي وعبد الناصر التي استطاعت توظيف تلك القروض في خدمة أهداف التنمية، والجميع يدرك العواقب الناتجة من استمرار هذه السياسات، والتي تدور في نفس الحلقة المفرغة لتحظى بنفس النهايات من تدهور مستوى المعيشة وانخفاض العملة الوطنية.

وتزايد الدين الخارجي المصري وفوائده وأقساطه في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق حتى وصل إلى ما يزيد على 166 مليار دولار بما يؤثر على ميزان المدفوعات.

وهو ما يضع أسئلة عدة تتعلق بأسباب وخلفيات تفاقم هذا الدين وكيفية الخروج من هذا المأزق خاصة بعد القرض الأخير الذي وافق عليه صندوق النقد الدولي، وهو ما يجعلنا نقوم بإطلالة على السياسات المختلفة للعصور السابقة في التعامل مع القروض، والتي أوقعتنا فيما يمكن تسميته بـ(فخ للديون)، وعواقب ذلك على الاقتصاد المصري.

وكتب الكثير من الاقتصاديين حول نتائج تزايد الديون الخارجية وأبرزهم د. جلال أمين في كتابه “قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي إلى عهد مبارك”، وقدم تحليلا سياسيا واقتصاديا متميزا لدوافع تقديم وتلقي هذه القروض، والتي جرت بعضها في وقت كان الوضع ملائما للاعتماد على الذات!!

كيف يتم استخدام القروض؟

يشير الكاتب إلى بعض المحددات الأساسية لسياسات الدول في هذا المجال وأهمها:

-إن تلقي القروض لا يعتمد على وجود من يحتاج إقراضه فقط، ولكنه يتوقف أيضا على وجود فوائض مالية كبيرة لدى المقرضين عموما سواء حكومات أو بنوك. وسعي تلك الأطراف للاستفادة من الأرباح التي يمكن أن تجنيها من وراء إقراض بعض أموالها للخارج.

-هناك قاعدة مهمة في هذا الشأن تشير إلى معيار الحكم بما إذا كان الاقتراض مبررا أو لا، وما إذا كانت درجة الاستدانة خطيرة، لا يختلف كثيرا في حالة الدولة عنه في حالة الفرد، فالعبرة ليست بالضبط بنسبة الاقتراض إلى الدخل، وانما ترتبط في الأساس بمدى القدرة على الوفاء بالدين في فترة زمنية معقولة، وهذه القدرة تتوقف بدورها على استخدامات القروض، أي ما أنفقت فيه، وعلى شروط الاقتراض.

وينبغي التأكيد على أن الاعتماد على الديون لرفع معدل التنمية لابد أن يؤدي في وقت لاحق إلى التضحية بالتنمية من أجل خدمة الديون، ما لم تكن أسعار الفوائد على القروض أقل من معدل العائد على الاستثمارات التي تذهب هذه القروض إليها، وهو ما لم يتحقق.

أما الدفاع عن التورط في الديون بحجة إصلاح المرافق العامة -حسب الكاتب- فهو دفاع مرفوض لأكثر من سبب أولها ما ذكرناه من خطأ الاعتماد على القروض غير الميسرة لتمويل مشروعات لا تساهم مساهمة مباشرة في زيادة الإنتاج، أو تساهم فيها بمعدل يقل عن فوائد القروض.

ـ ارتفاع حجم المديونية واستمرارها لفترة طويلة لابد أن يؤثر في مؤشرات ثلاثة مهمة: ارتفاع المديونية وازدياد عبء خدمتها، أقساطا وفوائد، وإضعاف القدرة على الاستثمار ومن ثم على رفع معدل نمو الناتج الإجمالي ومتوسط الدخل، والقدرة على تصحيح الهيكل الإنتاجي. ويضعف كذلك من القدرة على تخفيف حدة التفاوت بين الدخول.

وينظر باحثنا الاقتصادي بتقدير لنجاح تجربة التنمية في مصر في الفترة من 1956 – 1965 التي حققت خلالها معدلا عاليا للنمو وتغيرا ملحوظا في الهيكل لاقتصادي، ومستوى معقول من الاكتفاء الذاتي في الغذاء دون أن تتحمل البلاد عبئا ثقيلا من المديونية الخارجية، وهو ما يرجع إلى حد كبير ما اتسمت به السياسة الاقتصادية في تلك الفترة من درجة عالية من الاتساق والانسجام بين مختلف الأدوات، حيث تدخلت الحكومة في أدق تفاصيل النشاط الاقتصادي وطبق نظام التخطيط بدرجة من الجدية لم تعرف مصر مثلها من قبل، وخضعت الأسعار للسيطرة وخفض الاستثمار الأجنبي الخاص إلى الحد الأدنى، وكاد يقتصر الاستثمار الوطني بأكمله على القطاع الخاص.

على العكس من ذلك اتسمت سياسة الانفتاح الاقتصادي منذ عام 1974 وحتى 1986 بدرجة عالية من التردد وعدم الاتساق في تطبيق مبدأ الحرية الاقتصادية، فلا هي طبقتها بحذافيرها، ولا هي تبنت سياسة التدخل الحكومي الصارم بمختلف متطلباتها، ومن ثم لم تحرز مزايا هذه ولا تلك، بل عانت من نقائص كليهما.

وفي تقييمه للأنظمة السياسية المختلفة يناقش “أمين” ما أطلقه البعض على تجربة محمد علي باشا بأنها كانت مثال جيد لمحاولة بناء تنمية مستقلة بينما يرى أن هذه التجربة شهدت اندماجا في الاقتصاد العالمي بدرجة كبيرة، وكانت أقل اعتمادا على النفس بكثير، حيث بلغت التجارة الخارجية في الاقتصاد المصري معدلا كبيرا، من خلال تصدير القطن والاستيراد لتزويد الجيش بمعدات، أو لدعم صناعاته الجديدة بما تحتاج إليه.

مع ذلك يصح وصف هذه التجربة بأنها مهمة لعدة أسباب أولها بما توفر لمصر وقتها من اكتفاء ذاتي في الغذاء. وثانيها: تمتع مصر بدرجة عالية من القدرة على المساومة مع المصدرين والمستوردين على السواء بسبب تطبيق نظام الاحتكار. وثالثا أن هذا الرجل لم يسمح بنفسه في التورط في الديون نعم، كانت تمر بميزان المدفوعات في عهده بعض سنوات العجز، لكنه سرعان ما يعقبه فائض، ويرى (أمين) أن العبرة في درجة الاستقلال ليست بمدى استغناء الدولة عن التجارة الخارجية، أو عن علاقاتها الاقتصادية بالعالم الخارجي، بل بمدى ما تتمتع به من قوة المساومة في علاقاته الخارجية.

ديون بلا تنمية

لم يمض وقت طويل على اعتلاء سعيد العرش في 1854، حتى بدأ يتورط في الدين فبعد أقل من ثلاث سنوات من حكمه بدأ يتأخر عن دفع مرتبات موظفيه ودفع الجزية للسلطان وإذا لم تكفه القروض المحلية وأذونات الخزانة لجأ سعيد في 1860 لعقد أول قرض خارجي من أحد المصارف الفرنسية، ولكنه كان قرضا باسمه لا باسم الحكومة، وعندما مات سعيد في 1863 كان إجمالي حجم الدين نحو 18 مليون جنيه أو ما يعادل خمسة أمثال إيرادات الدولة في السنة السابقة على وفاته.

وفي سجل سعيد في الاقتصاد لا يوجد ما يستحق الذكر، في الصناعة لم يضف مصنعا واحدا، وفي الزراعة لم يبذل أي جهد لتطوير نظام الري.

من جهة أخرى يتناول الكتاب تجربة حكم (إسماعيل) مشيرا إلى أوجه الشبه الصارخة بينها وبين تجربة السادات لافتا النظر بشدة إلى تشابه نمط التنمية بينهما، ففي الحالتين كان جل الاهتمام منصبا على مشروعات التنمية الأساسية دون إحداث أي تغيير يذكر في هيكل الاقتصاد لصالح التصنيع.

بالإضافة إلى ارتباط الزيادة الكبيرة في المديونية بمعدل نمو بالغ الارتفاع في الدخل القومي، وبازدياد واضح في مصادر النقد الأجنبي، فلم يمنع الرخاء من التورط في مزيد من الديون في الوقت الذي كان يجب فيه أن تستخدم الموارد الذاتية الجديدة في تسديد الديون السابقة، وفي الحالتين وعلى الأخص في عصر السادات استخدم جزء كبير من هذه القروض في تمويل مشروعات لا تضيف إضافة ملحوظة إلى الإنتاج بما في ذلك شراء السلاح. الأمر الذي لابد أن يثير التساؤل مرة أخر عن نوع النصائح أو “الضغوط” التي كان يتعرض لها الحكم في الحالتين، وعن المصالح الخارجية والداخلية التي كانت تجد مصلحتها في تشجيع الاتجاه نحو الاستدانة، إما تسهيلا لفرض الإرادة في المستقبل أو تصريفا لمنتجات لا تجد من يشتريها.

وإذا كان الكاتب قد وصف عهد محمد علي بأنه كان عهد تنمية بلا ديون، فإنه على النقيض يصف عهدي سعيد وإسماعيل بأنه عصر الديون بلا تنمية.

وخلال العقود الثلاثة الأولى من الاحتلال البريطاني، كانت السمة الرئيسية للاقتصاد المصري النمو السريع لخدمة الدائنين، إذ تحولت مصر إلى دولة مصدرة لرأس المال بدلا من أن تكون مستوردة له، ودفعت مصر خلال الثلاثين عاما الأولى من الاحتلال نحو 145 مليون جنيه، ومع ذلك ظلت مدينة في 1914 بمبلغ 86 مليون جنيه.

جاءت نقطة التحول الأساسية الدين بتحول مصر من دولة مدينة إلى دولة دائنة، لتتمكن في عام 1943 من تحويل ما تبقى من ديونها الخارجية إلى دين محلي، الدائنين فيه هم المصريون أو أجانب مقيمون بمصر.

في عام 1956 أصبحت مصر كما حدث في منتصف القرن التاسع عشر غير مدينة للخارج، ولكن كان عليها الشروع في برنامج طموح للتنمية. وهو ما أدى إلى تغيير شامل لصورة ميزان المدفوعات والمديونية خلال الفترة من 1959 – 1965، وهي أكثر السنوات تمثيلا للنظام الاقتصادي الناصري، فهذه هي سنوات التنمية بالغة الطموح، والارتفاع الملحوظ في معدلات الاستثمار، وفي متوسط الدخل على الرغم من الزيادة السريعة في السكان والتغير الواضح في هيكل الاقتصاد ومعدل التصنيع، وهي الفترة التي شهدت تجربة مصر الوحيدة في التخطيط الشامل، والتدخل الجدي لإعادة توزيع الدخل.

لجوء مبرر للاقتراض

وبلغ ما تلقته مصر من مساعدات وقروض خلال هذه الفترة بـ800 مليون جنيه مصري، وهو ما كان يمثل نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وحسب “أمين” كان لجوء مصر للاقتراض في ذلك الوقت مبررا تماما، ولم يخلق لمصر من الأعباء ما كان يصعب عليه النهوض به مع الاستمرار في التنمية، والتي أوقفت نتيجة ضغوط خارجية بلغت قمتها بحرب 1967.

أما من حيث شروط الاقتراض فقد كانت في جملتها من أفضل ما حصلت عليه مصر في تاريخ مديونيتها الخارجية على الإطلاق، وهي الفترة الذهبية لمصر والعالم الثالث عموما من حيث القدرة على الاقتراض من كل المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي بأقل قدر من التضحية بحريتها في التصرف.

على عكس ذلك في الفترة التي تولى فيها أنور السادات الحكم زادت ديون مصر الخارجية زيادة مذهلة بمختلف أنواعها من نحو 5 بلايين دولار في 1970 إلى 30 بليونا في 1981، أي أنها تضاعفت في هذه الفترة نحو ست مرات.

بينما لم تقترن تلك الزيادة المذهلة في المديونية بأي تصحيح لهيكل الاقتصاد بل صاحبتها زيادة كبيرة في درجة الاختلال في هيكل الإنتاج وفي هيكل العمالة، ولم يقترن توقيع اتفاقية السلام في 1979 بتخفيض الانفاق العسكري، بل على العكس زاد هذا الانفاق بشدة وزاد الالتجاء في تمويله إلى القروض الخارجية أيضا تلك التي ساهمت فيها الولايات المتحدة بأكبر نصيب وبأسعار الفائدة التجارية التي كانت بالغة الارتفاع في ذلك الوقت.

وخلال الخمس سنوات الأولى من حكم مبارك، زاد إجمالي ديون مصر الخارجية المدنية والعسكرية مرة أخرى من نحو 30 بليون دولار في 1981 إلى نحو 45 بليون دولار في منتصف عام 1986، أي بزيادة قدرها 50% في خمس سنوات.

وبحلول أزمة الخليج، حصلت مصر على إعفاءات كبيرة من ديونها أدت لانخفاضها إلى 24 بليون دولار في منتصف عام 1994 أي نصف ما كانت عليه في منتصف عام 1990.

وبالتدريج وصلت تلك الديون في نهاية عهد مبارك إلى 34 بليون دولار بحلول عام 2011 ليشهد هذا العام ثورة شعبية عارمة تطيح بحكمه ضد ما وصف من فساد واستبداد وغياب للعدالة الاجتماعية، وسيطرة طبقة رجال الأعمال واستخدام موارد الاقتصاد المصري لخدمة مصالحها، بالتوازي مع منهج الخصخصة وبيع الأصول والذي تصاعد مع السنوات التي تلت عام 2013، ووصلت فيه الديون إلى أرقام فلكية. فهل تعلمنا من التجارب الاقتصادية المختلفة؟!