في مايو/ أيار من العام الماضي، وقع “أحمد رسلان” على عقد شراء وحدة سكنية ضمن مشروع “سكن مصر”. وذلك بقيمة تصل إلى 1.1 مليون جنيه، ضمن مبادرة الـ3% التي أعلنت عنها الحكومة، والتي توفر للمقترضين الحصول على سكن مقابل فائدة سعرية بـ3% لمدة 30 سنة.

دفع “رسلان” مقدم تعاقد 150 ألف جنيه، مضافًا إليها 5% وديعة صيانة، و1% مصاريف إدارية، و0.5% مصروفات مجلس أمناء. “اشترتها بتحويشة العمر، وهفضل ادفع قسط شهري بقيمة تبلغ 2833 جنيهًا لـ30 سنة جاية من حياتي”؛ يقول الثلاثيني ذو الأصول الصعيدية.

بنّت الحكومة من هذه الوحدات 108 آلاف و402 شقة، منذ أن طرحت الحكومة مشروع “دار مصر” لأول مرة في 2016، وتبعها مشروع “سكن مصر” في العام التالي 2017، ثم مشروع “جنة مصر” في 2018، وأخيرًا مشروع “الطابع الحديث” في 2021. ذلك وفقًا لبيانات نشرة الإسكان السنوية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

ويندرج مشروع “سكن مصر” ضمن برنامج الحكومة المصرية للإسكان المتوسط للشباب من حديثي التخرج، والذي يضم أيضًا مشروعات: دار مصر، وجنة مصر، والطابع الحديث (أحدث المشروعات المطروحة)، نُفذت في عدد من المدن المصرية وعواصم المحافظات المختلفة، من بينها: القاهرة الجديدة، والشروق، و6 أكتوبر، والعبور.

تُظهر مراجعة بيانات نشرة الإسكان، أن إجمالي حجم الأموال التي استثمرتها الحكومة في المشروعات الأربعة بلغت 47.05 مليار جنيه، منذ أن بدأتها في العام 2016 وحتى عام 2021.

بحسب كراسة شروط “دار مصر” وبمراجعة أخبار الإعلانات عن الحجز بتلك المشروعات، يتبين أن الحكومة طرحت هذه الوحدات للبيع للمواطنين بأسعار متفاوتة. إذ تراوح سعر الوحدة في مشروع “دار مصر” بين 672.9 ألف جنيه و981.7 ألف جنيه للوحدات بمساحة بين 130 إلى 140 م2.

أما مشروع “جنة مصر”، فتراوح سعر الوحدة فيه بين 745.8 ألف جنيه و1.67 مليون جنيه، لمساحات تتراوح بين 100 إلى 150 م2. بينما يتراوح سعر الوحدة بمشروع “سكن مصر” بين 364 ألفًا و948.4 ألف جنيه للمساحات بين 106 إلى 118 م2.

هذه الأسعار قبل الزيادات الأخيرة التي أعقبت ارتفاع معدلات التضخم وتراجع قيمة الجنيه. حيث التزمنا بالقياس على نفس الأسعار التي كانت معروضة حتى عام 2021.

لكن ما تكشف عنه أرقام “نشرة الإسكان” بجهاز الإحصاء، والتي استمدت بياناتها من مستخلصات البناء الخاصة بهيئة المجتمعات العمرانية وشركات القطاع العام ومديريات الإسكان بالمحافظات العاملة بالمشروعات الأربعة، يؤكد أن الحكومة باعت الشقة للمواطن بما هو أعلى بكثير من تكلفتها الحقيقية. إذ تراوحت النسب بين 58.8% و116.3%.

مع الأخذ في الاعتبار أن نسب البيع تلك، قبل انضواء تلك الوحدات لمبادرة التمويل العقاري ذات سعر الفائدة 3%، والتي تُزيد من سعر الشقة، بنسب تقترب من 50% أو تتخطاها. ما يُزيد العبء على المواطن المُشتريّ للشقة.

كيف بدأت القصة؟

في 2015، أعلنت الحكومة عن مشروع “دار مصر”، وعدّته نقلة في تاريخ الإسكان مصر، حسب الوصف المدّون عبر الموقع الإلكتروني للهيئة العامة للمجتمعات العمرانية.

كان من المقرر لهذا المشروع أن ينفذ في 12 مدينة، حسبما جاء في كراسة الشروط بالمرحلة الأولى والثانية.

ومنذ 2015 وحتى عام 2021، بنّت الحكومة 52 ألفًا و32 شقة بمشروع “دار مصر”، في 12 مدينة، هي: “العبور، والقاهرة الجديدة، و15 مايو، والشروق، ودمياط الجديدة، وبرج العرب، والعاشر من رمضان، والسادات، والشيخ زايد، و6 أكتوبر، والمنيا الجديدة، وبدر”.

خلال تلك الفترة، بلغ حجم الأموال المستثمرة من جانب الحكومة نحو 19.9 مليار جنيه. من بينها ترفيق الوحدات السكنية بالغاز والكهرباء والمياه وخطوط الهاتف ورصف الطرق الرئيسية.

وبناءً على حجم تلك الأموال التي صرفتها الحكومة، حسبما سجل الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في بياناته الرسمية، فإن متوسط تكلفة الوحدة من إجمالي المنصرف على المشروع خلال فترة الإنشاء الممتدة بين 2015 و2021 بمشروع “دار مصر”، بلغ نحو 382.4 ألف جنيه.

هذا مع الأخذ في الاعتبار، تغير صرف الجنيه بعد 2016 “التعويم الأول للجنيه”، وما تبعّه من زيادات في أسعار مواد البناء وارتفاع سعر الأرض، وارتفاع أسعار العمالة وغيرها. فضلًا عن زيادة أسعار شقق “دار مصر” من عام لآخر، تبعًا لإعلانات الطرح الحكومي. لذا تم احتساب المتوسط الإجمالي للتكلفة.

أعلنت الحكومة عن أسعار “دار مصر”، بقيم مالية تراوحت بين 672.9 ألف و981.7 ألف جنيه للوحدات بمساحة بين 130 إلى 140 م2. ما يعني زيادة عن متوسط تكلفة الشقة بمتوسط بلغ 444.9 ألف جنيه، وبنسبة تُقدر بنحو 116.3%، بناء على عملية حسابية أجريناها على متوسط تكلفة الشقة ومتوسط بيعها.

حجم الوحدات السكنية والاستثمارات خلال الفترة بين 2016 إلى 2021 - المصدر الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء
حجم الوحدات السكنية والاستثمارات خلال الفترة بين 2016 إلى 2021 – المصدر الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء

برنامج سكن مصر

بدأ مشروع “سكن مصر” في عام 2017، حين تم الإعلان عنه في منتصف ذلك العام، ونُفذ المشروع في 10 مدن مصرية، ضمّت: “العلمين الجديدة، وغرب أسيوط، وبدر، والمنصورة الجديدة، ودمياط الجديدة، والمنيا الجديدة، و6 أكتوبر، والشروق، والقاهرة الجديدة، والعبور”.

وقد تباين سعر الوحدات السكنية في مشروع سكن مصر من مدينة لأخرى حتى العام 2021، بين 364 ألفًا و948.4 ألف جنيه، وذلك لمساحات تتراوح بين 106 إلى 118م2.

وخلال الفترة بين 2017 وحتى عام 2021، بنّت الحكومة 38 ألفًا و490 شقة، بمبالغ مالية حوالي 15.9 مليار جنيه في مشروع “سكن مصر”. ما يُشير إلى أن متوسط تكلفة الشقة بلغ 413 ألف جنيه. لكن عند بيعها بلغ المتوسط العام نحو 656.2 ألف جنيه.

وبذلك باعت الحكومة الشقة للمواطن بأزيد من متوسط تكلفتها، بقيمة تصل إلى 243.2 ألف جنيه، ونسبة تُقدر بحوالي 58.8%، بناء على عملية حسابية جمعت بين المقارنة بين متوسط سعر التكلفة ومتوسط سعر البيع للمستهلك.

جنة مصر.. للميسورين فقط

انطلق مشروع “جنة مصر” في العام 2018، ووصفته هيئة المجتمعات العمرانية بأنه إسكانًا فاخر. لذا تم الاكتفاء بطرحه في 7 مدن فقط، هي: “العبور، والمنيا الجديدة، والقاهرة الجديدة، و6 أكتوبر، والشروق، والشيخ زايد، ودمياط الجديدة”.

وقد بلغ حجم الاستثمارات بالمشروع منذ انطلاقه في العام 2018 إلى 2021، نحو 10.4 مليار جنيه، بنتّ الحكومة خلالها نحو 15 ألفًا و384 شقة.

قُدر متوسط الوحدة السكنية في هذا المشروع بنحو 676.1 ألف جنيه. لكن الحكومة عند طرحها لتلك الوحدات أعلنت عن أسعار تبدأ من 745.8 ألف وحتى و1.67 مليون جنيه، بحسب مكان الطرح والمساحة التي تتراوح بين 100 إلى 150 م2. ما يُشير إلى أن الحكومة باعتها بأزيد من سعرها بنحو 531.7 ألف جنيه، ونسبة تُقدر بـ78.6%، بناء على نفس العملية الحسابية التي أُجريت على مشروعي سكن ودار مصر.

بدأ مشروع “الطابع المميز”، وينتمي لفئة الإسكان المتوسط، في 2020/ 2021، وبلغ حجم الاستثمارات به 858 مليون جنيه، استخدمت لبناء 2496 وحدة. ما يُشير إلى أن متوسط تكلفة الوحدة بلغ حتى الآن نحو 343.7 ألف جنيه. لكن لعدم اكتمال المشروع، وجدنا أن إجراء العملية الحسابية لن تكون دقيقة مثلما حدث مع المشروعات الثلاثة الأخرى.

سعر الشقة بعد مبادرة الـ3%

يقول وسام إبراهيم، شاب مصري من محافظة سوهاج، إنه اشترى كراسة شروط مشروع “دار مصر” بعد مبادرة الـ 3%. لكنه تراجع، لأن الشقة التي كان ينوي التعاقد عليها كان سعرها في كراسة الشروط نحو 920 ألف جنيه بمساحة 130 م2، بينما بعد دخولها ضمن مبادرة الـ3% زاد سعرها إلى نحو 1.4 مليون جنيه.

يضيف: “اكتشفت أن القرض التمويلي الذي سأحصل عليه من بنك مصر كان سيصل إلى 782 ألف جنيه. وكان لازمًا علي سداد مبلغ نحو 150 ألف جنيه كمقدم تعاقد ووديعة صيانة بنسبة 5% و1% مصروفات إدارية و0.5% لمجلس الأمناء، حسبما جاء في كراسة الشروط. هذا فضلًا عن سداد قسط شهري بقيمة 3400 جنيه لمدة حوالي 30 سنة. لذا صرفت نظر عن مشروعات الإسكان”.

تحدد كراسة شروط مشروع “دار مصر” أسلوب السداد. وهو ينقسم لعدة محاور، بداية من سداد 60 ألف جنيه. وهو مبلغ يُرد في حالة عدم تخصيص الوحدة، إضافة إلى مبلغ 500 جنيه لا تُرد كمصروفات تسجيل.

وتُشير الكراسة في الصفحة قبل الأخيرة منها إلى نماذج استرشادية لأسعار الشقق. لافتةً إلى أنه في حال كان سعر الشقة 833.2 ألف جنيه، يصل سعرها في نهاية المطاف إلى نحو 1.65 مليون جنيه، سيدفع منها المشتري 124.9 ألف جنيه، فيما سيكون قسمة القسط الشهري حوالي 1163 جنيهًا. فضلًا عن مبلغ 41.6 ألف جنيه وديعة صيانة. وهذا في حال كان دخل المشتري يبلغ نحو 2900 جنيه شهريًا، إضافة إلى 1% مصروفات إدارية، و0.5% مصروفات لمجلس الأمناء.

تسليع السكن

يقول الباحثان بمرصد العمران، منظمة حقوقية مصرية، سلمى شكر الله ويحيي شوكت، إن سياسات الحكومة تسببت في تسليع سوق السكن، سواء تم ذلك بشكل مباشر، أو عبر الاستثمار في مشروعات ضخمة للمساكن فوق المتوسطة والفاخرة، أو من خلال استمرارها في رفع القيود عن السوق وتشجيع المضاربات.

ويُضيف الباحثان في ورقة بحثية منشورة عبر موقع مرصد العمران، أنه رغم جاذبية دفعات التمويل العقاري المدعوم، والتي تُجدول على مدى 10 أو 20 سنة. لكن تظل القيمة المالية للوحدات السكنية مرتفعة، وأكبر من دخول المواطنين المصريين.

ويُوصي الباحثان، بضرورة وقف تسليع سوق العقارات وضبطه، من خلال التراجع عن التشجيع الرسمي لـ”تصدير العقار”، والقيام بدلًا من ذلك بحماية القدرة الشرائية المحلية، إضافة إلى كبح المضاربة في سوق العقارات عن طريق إعادة رفع ضرائب التصرفات العقارية على العقارات المباعة خلال عشر سنوات من شرائها، مع خفضها لمدد أطول.

فضلًا عن تشجيع الإنتاج الاجتماعي للمسكن من خلال إعادة هيكلة قوانين الإسكان التعاوني، وزيادة الشفافية في سوق الأراضي والعقارات، من خلال قاعدة بيانات وطنية متاحة للعامة تفصِّل أسعار الشراء والتأجير، بحسب الورقة البحثية. مع وقف تسليع سوق الأراضي وضبطه من خلال تخصيص أراضي الدولة فقط من خلال عقود حقِّ الانتفاع وليس البيع، وفرض تنوع لفئات الدخل المختلفة على الوحدات السكنية في المشاريع الخاصة، وزيادة حجم الأراضي المخصصة للإنتاج الاجتماعي للمسكن.

في النهاية، ربحّت الحكومة عبر سياستها في المضاربة على أسعار الشقق عبر برامجها دار وسكن وجنة مصر، وخسر المواطن حقه في الحصول على سكن بسعر يتماشى مع متوسط ثمن التكلفة.