دفع الآباء المؤسسون لمهنة الصحافة في مصر، أثمانا غالية وهم يناضلون في سبيل حرية الكلمة واستقلال الصحف والصحفيين، ولم يتوقف سعي الأجيال الأولى من أبناء صاحبة الجلالة للتخلص من الوصم الاجتماعي الذي كان يلاحقهم باعتبارهم «جورنالجية» يمتهنون حرفة كان يُنظر إليها على أنها تحط من قدر من يعمل بها، وبلغ الأمر إلى حد أن إحدى المحاكم قضت بتطليق رجل من زوجته لأنه كان يعمل بالجرائد التي كانت «أحقر الحرف».
عندما تجرأ الشيخ علي يوسف رئيس تحرير ومالك جريدة «المؤيد»، في نهاية القرن التاسع عشر، وطلب يد السيدة صفية من والدها الشيخ عبد الخالق السادات شيخ الطريقة الساداتية وأحد كبار الأعيان، رفض السادات بعد أن أشار عليه أقاربه بأنه لا يجوز أن يزوج ابنته بمن يعمل بمهنة «تقوم على نقل أخبار الناس».
ولأن صفية كانت مغرمة بالشيخ علي يوسف، فقررت أن تتزوج منه خلافا على رغبة أبيها الذي أقام دعوى أمام المحكمة الشرعية للمطالبة بإبطال عقد الزواج استنادا إلى أن مذهب الإمام أبو حنيفة النعمان يشترط لصحة الزواج «وجود تكافؤ بين الزوجين فى الإسلام والحرية والمال والصلاح والحرفة والنسب»، وهو ما لم يتحقق من وجهة نظره في زيجة ابنته من «الجورنالجي».
أحيلت القضية إلى القاضي الشرعي الشيخ “أبو خطوة”، وكان معروفا بتزمته وكرهه للصحافة والصحفيين، وتحدد يوم 25 يوليو 1904 لنظر الدعوى، في تلك الجلسة قدم الشيخ الفندي محامي السادات مذكرة حقر فيها من نسب الشيخ علي يوسف الذي تجاسر وتزوج ابنة الحسب التي ينتهي نسبها إلى سيدنا الحسين حفيد الرسول، ولا يجوز لها شرعا أن تعاشر من لا نسب له، فضلا عن أنه يحترف مهنة الجرائد التي هي «أحقر الحرف».
واستطرد الفندي في مذكرته قائلا: لا يخفى على عدالة المحكمة أن هذه المهنة –الصحافة- يحرمها الشرع، لأنها تقوم على الجاسوسية وإشاعة أخبار الناس بالحق أحيانا وبالباطل في معظم الأحيان.
انتهت القضية بصدور حكم بفسخ عقد الزواج والتفريق بين الزوجين، والذي جاء في حيثياته أن الشيخ السادات «ينتهي نسبه إلى سيدنا الحسين، بينما علي يوسف أعجمي، وثبت أن جده الرابع كان من أهل الكتاب، ويمتهن الصحافة وهي مهنة منهي عنها شرعا».
رغم تأثير الصحافة ودورها البارز في الدفاع عن قضايا الاستقلال الوطني والحرية والدستور في تلك الآونة إلا أن المجتمع كان ينظر بدونية إلى الصحفيين ومهنة الصحافة، شأن عدد من المهن الآخرى المتعلقة بالإبداع والفنون.
هزت قضية تطليق صفية السادات من الشيخ علي يوسف الرأي العام وصارت حديث الصحف والصالونات وجلسات المثقفين والساسة وأصحاب الرأي، ولفت الحكم وما صاحبه من لغط نظر العاملين بالصحف إلى ضرورة العمل على تأسيس كيان نقابي يدافع عن حقوقهم ويمثلهم أمام الجهات المختلفة.
حاول الشيخ علي يوسف ومعه عدد من أصحاب الجرائد وكبار الكتاب وقادة الأحزاب إقناع الحكومة بالموافقة على إنشاء نقابة للصحفيين، إلا أن تلك المحاولات وما تلاها لم يكتب لها النجاح حتى صدر مرسوم باعتماد نظام جمعية الصحافة في 20 إبريل سنة 1936 في عهد وزارة علي ماهر باشا، ولم يقدر لهذا المرسوم أن يدخل حيز التطبيق لأن البرلمان لم يعتمد المشروع المقدم.
بعد هذا التاريخ بنحو 3 سنوات، تحديدا في 27 نوفمبر 1939 تقدم رئيس الوزراء علي ماهر باشا إلى مجلس النواب بمشروع قانون لإنشاء نقابة للصحفيين، كان الدكتور محمود عزمي رائد الحريات العامة وأحد الآباء المؤسسين لهذه المهنة قد صاغ المشروع وعرضه على رئيس الوزراء باعتباره مستشاره الصحفي.
ولنحو عام ونصف ظل مشروع قانون تأسيس نقابة للصحفيين قيد المناقشة في البرلمان إلى أن صوت البرلمان بالموافقة على مواد القانون رقم 10 لسنة 1941، وصدر المرسوم الملكي بتأسيس النقابة في 31 مارس من ذات العام.
خلال مناقشة قانون النقابة في البرلمان، أُثيرت أزمة حادة، وحاولت الحكومة أن تضع في القانون نصا يحظر على النقابة الاشتغال بالسياسة كغيرها من النقابات المهنية، إلا أن النائب يوسف الجندي المعروف برئيس «جمهورية زفتى» أبدى معارضته الشديدة لهذا النص، مؤكدا أن تنظيم مهنة الصحافة وتكوين نقابة للصحفيين يستلزم الاشتغال بالسياسة، «إذا سنَّت الحكومة قانونًا من شأنه الحد من حرية الصحف مما يستدعي أن تناقشه هيئة النقابة فسيتم منعها من مناقشته بحجة اشتغالها بالأعمال السياسية مع أن طبيعة تنظيم المهنة تقتضي من النقابة الكلام في السياسة».
حُسمت المعركة لصالح هذا الرأي وقنع النواب بوجهة نظر الجندي، وخرج أول قانون للنقابة دون النص على حظر اشتغالها بالسياسة، ورغم ذلك حافظت النقابة وعبر مجالس إدارتها المتعاقبة على عدم الخلط بين العمل السياسي الحزبي الذي حرمّته على نفسها، والعمل السياسي الوطني الذي تمارسه بإبداء رأيها في القضايا الوطنية العابرة للتحزب والأيديولوجيا.
ظل هذا النص موجودا في قانون النقابة رغم التعديلات التي طرأت عليه، وانتقل إلى القانون الحالي للنقابة رقم 76 لسنة 1971، الذي نصت مادته رقم 47 على أن «مجلس نقابة الصحفيين يختص بوضع خطة العمل السياسي فى النقابة ومتابعة تنفيذها».
حددت مواد هذا القانون أغراض النقابة فى «العمل على صيانة حقوق الصحفيين وتحديد واجباتهم، تنظيم علاقات الصحافة مع الحكومة والجمهور، جزاء المخالفين لمبادئ المهنة ولوائحها، تسوية المنازعات التي قد تنشأ بين أعضاء النقابة أو بينهم وبين غيرهم، العمل على تحقيق كل مشروع أو عمل من شأنه رفع مستوى الصحافة وإعلاء كرامتها».
وحظرت المادة (2) من القانون على النقابة الاشتغال بأي عمل خارج هذه الأغراض، أما المادة (13) فذكرت على سبيل الحصر اختصاصات مجلس النقابة، «تمثيل النقابة والذود عن حقوقها ومصالحها وكرامتها، إعداد اللائحة الداخلية، وضع وتدوين القواعد الخاصة بمزاولة مهنة الصحافة.. تنفيذ قرارات الجمعية العمومية، إدارة أموال النقابة والإشراف على نظام حساباتها، وتسوية المنازعات وتأديب المخالفين لمبادئ المهنة ولوائحها».
ظلت أغراض تأسيس النقابة واختصاصات مجلسها محصورة فيما ورد فى قانون القانون الأول، ولم تخرج التعديلات التى طرأت على القانون رقم (185) الصادر فى 31 مارس عام 1955، أو القانون رقم (76) الصادر فى 31 مارس عام 1970، عن مضمون وروح تلك الأهداف، وإن كانت النسخة الأخيرة قد تحدثت صراحة عن عمل النقابة على ضمان حرية الصحفيين فى أداء رسالتهم.
وعليه، لم يتضمن قانون النقابة الأول بتعديلاته المتعاقبة، أى مواد عن إتاحة خدمات أو سلع مخفضة للصحفيين، ولم يتبارَ الآباء المؤسسين خلال انتخابات مجالس النقابة على الأقل فى العقود الأربعة الأولى إلا فى الذود عن حرية الصحافة وكرامة أبنائها.
لم يكن مطروحا على أجندة الجمعيات العمومية للنقابة خلال العقود الأولى من تأسيسها سوى توسيع هامش حرية الصحافة وضبط العلاقة بين الصحفيين والسلطة والجمهور، فضلا عن تسهيل عمل الصحفيين حتى يتمكنوا من إنتاج محتوى مهني يشبع شغف المتلقي فيتيح له الخبر والرأي والتحليل، وهو ما منح هؤلاء الكبار الهيبة والكرامة أينما وجدوا، وفى ذلك تُحكى مئات القصص التي تثبت أن أقلام الصحفيين كثيرا ما حاصرت السلطة، وأن تأثير ما كانوا ينشروه أكبر بكثير مما كانت تحاول الحكومات فرضه.
خاضت الجماعة الصحفية عشرات المعارك، لكسب مساحات أكبر من الحرية وللحفاظ على حقوق الصحفيين، كما اشتبكت مبكرا مع العديد من القضايا الوطنية بدء من الاستقلال والدستور مرورا بمقاومة ضغوط واستبداد الحكومات وصولا إلى مقاومة التطبيع، وفى كل هذه المعارك كانت نقابة الصحفيين حاضرة تدعم وتشد من أزر الصحفيين وتتفاوض باسمهم.
حاولت السلطة فى نهاية سبعينيات القرن الماضى تحويل نقابة الصحفيين إلى ناد اجتماعي حتى تتخلص من صداعها ولما فشلت دفعت فى اتجاه تغيير دفة اهتمامات أعضائها ووجدت من رجالها فى بلاط صاحبة الجلالة من يساعدها على تحقيق ذلك، فبدأت عملية مغازلة الصحفيين بالسلع والخدمات المخفضة.
مع الوقت تحول موسم انتخابات النقابة ليصبح أقرب إلى سوق يعرض فيه بعض المرشحين سلعا رخيصة لا علاقة لها بما أُسست النقابة من أجله، فهذا يقدم نفسه باعتباره مندوب وزارة الداخلية لدى الجمعية العمومية، قادرا على تسهيل إجراءات ترخيص السيارات وتخفيض قيمة المخالفات، وذاك مندوب وزارة التموين يمر على المؤسسات الصحفية عارضا على الصحفيين إضافة أبنائهم والمواليد الجدد على بطاقات الدعم، وثالث يتعامل باعتباره مندوب لشركات الأجهزة المنزلية والإلكترونية والهواتف .. إلخ. وبين هذا وذاك تتوارى القضايا الأساسية التي من المفترض أن يتم عرضها ومناقشتها في هذا الموسم، فلا يتحدث عن المهنة وأزماتها والقيود المفروضة عليها إلا ما ندر من المرشحين.
اعتبار الجانب الخدمي فقط كمعيار للمفاضلة بين المرشحين في انتخابات الصحفيين يمثل إهانة لأبناء القلم، خاصة أن المجلس المقبل تنتظره مهام ثقال تتعلق بالإطار التشريعي المنظم للمهنة، فخلال شهور وكما يعلم المتابعون سيعاد النظر في بعض قوانين الصحافة، وهو ما يفرض على الجمعية العمومية للصحفيين انتخاب مجلس مؤمن بحرية الصحافة ودورها وبحقوق أبنائها، حتى لا نكرر ما حدث عام 2018 عندما تورط البعض في «البصم» على تلك القوانين التي ثبت بالممارسة أنه تم تمريرها للسيطرة على المهنة وتقييد حق الصحفيين في ممارسة واجبهم في إخبار الناس وإعلامهم وهي المهمة الأساسية للمنصات الصحفية.
لا ينكر أحد أن الجانب الخدمي الذي يتنافس المرشحون على طرحه خلال هذا الموسم مهم، لكنه يأتي فى سلم الأولويات بعد الأهداف الأساسية التي أسست من أجلها نقابة الصحفيين، فهل يجوز أن نقدم المهم على الأهم؟ الأصل أن يتبارى المرشحون على تقديم بضاعة لها علاقة بالمهنة وحريتها واستقلالها وكرامة وحقوق أبنائها وتطوير أدائهم وامتلاك أدواتهم، حينها سيتحقق بالتبعية ما تحقق لأسلافهم.
أرجو ألا يحط أبناء القلم من قدر مهنتهم أو يخونوا ضمائرهم ويخالفوا المبادئ السامية التي أُسست عليها صاحبة الجلالة قواعدها، وينحازوا إلى من يحاول خداعهم والاحتيال على أصواتهم ليحقق مصالحه الشخصية في الحصول على مناصب ومواقع لا يستحقها، ويكفينا ما جرى.