عقب ثورة يناير 2011 انقسم الرأي العام المصري بشدة بين قوى التغيير وقوى الأمر الواقع ثم بين القوى المدنية والدينية، خلق هذا الانقسام حالة من الاستقطاب الحاد مهدت الطريق لدولة 30 يونيو 2013 التي عمقت من حالة الانقسام ريثما يتم لها إحكام السيطرة على المجال العام، استفادت دولة 30 من الانقسام في تبرير ما فرضته من قبضة الحديد والنار في إدارتها للبلاد، ولم تكن الأغلبية من المصريين تمانع في تلك القبضة -بصورة مؤقتة- لأجل استعادة ما كانت البلد في حاجة إليه من أمن واستقرار، لم تكن هذه الأغلبية التي أيدت دولة 30 يونيو 2013 في أيامها الأولى تتصور أن هذه القبضة من حديد ونار سوف تكون منهج حكم دائم ومستمر ومستقر، فما كانت الأغلبية تراه مؤقتا أصبح دائما، وماكانت تراه حلولا طارئة لموقف عابر أصبح سياسات مستقرة لما يقرب من عشرة أعوام، عشرة أعوام من ديكتاتورية فقدت مبررها وضرورتها ومن ثم بدأت تفقد -بالتدريج- جمهورها بما في ذلك الفئات من الجمهور التي هي غير معنية كثيرا بمسائل الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان.

بدأ جمهور 30 يونيو ينسحب منها وينصرف عنها ويزهد فيها بمرور السنوات، زاد من ذلك الانصراف ما اتبعته من سياسات اقتصادية واجتماعية وأمنية وإعلامية ألحقت الضرر بأغلب المصريين بمن فيهم من كانوا يصطفون على جانب 30 يونيو، ولما اتخذت 30 يونيو لنفسها لقب “الجمهورية الجديدة” كانت جمهورية بلا جمهور، مجرد شعار على شاشات التلفزيون وفي الخطب الرسمية، ولدت الجمهورية الجديدة غير ذات صلة وثيقة مع الشعب.. ولدت بينها وبين الشعب فجوة، هذه الفجوة زادت مع الأيام، وبازديادها بدأت ملامح الانقسام والاستقطاب تتغير من أفقي إلى رأسي، من خلافات بين قوى اجتماعية وسياسية، ومن استقطابات بين قوى دينية ومدنية، إلى حالة شاملة من عدم الرضا عن سياسات الجمهورية الجديدة، حالة تشمل كل طبقات المصريين، من رجال الأعمال الذين يملكون طائرات خاصة إلى الخريجين العاطلين الذين يسرحون على تكاتك، ومن سكان الكومبوندات الفخيمة إلى سكان العشوائيات، ومن القوى العلمانية إلى القوى المدنية، ومن الأنصار التقليديين لكل سلطة إلى أنصار التغيير والثورة.

غيرت الجمهورية الجديدة مسارات الانقسام والاستقطاب لتكون موجهة ضدها بالأساس، وأصبحت الانقسامات والاستقطابات بين القوى الشعبية في خلفية المشهد، فقد أصبح تناقض مصالح عموم المصريين مع سياسات الجمهورية الجديدة هو التناقض الأكبر الذي يشغل الحيز الأكبر والأخطر من المشهد العام، الانقسامات والاستقطابات الأخرى قائمة ولكنها توارت على الهوامش وتحت الجلد وصارت في حالة كمون.

هذا معناه أن الرأي العام قد قطع شوطا طويلا من حالة الانقسام والاستقطاب التي أعقبت ثورة 25 يناير 2011 إلى حالة من التوحد ضد سياسات الجمهورية الجديدة التي ألحقت الضرر بأرزاق كل الطبقات مما وحد الجميع ضدها، لكن هذا التوحد لا يجد تعبيرا عنه في المجال العام، هو فقط ملموس ومشهود في أدق وأعم تفاصيل الحياة اليومية لكافة المصريين، لكن في صوت خفيض غير جهير، ليس حبيس الصدور فالناس يخرجون على مدار الساعة مكنون الصدور، يتداولونه فيما بينهم مثلما يتداولون الأنفاس بين شهيق وزفير.

لكن الناس وما في الصدور وما يزفرون من الصدور كل ذلك حبيس القفص الحديدي الكبير الذي طوقت به الجمهورية الجديدة البلاد والعباد فشاع الخوف وذاع الرعب واتعظ السايب من ضرب المربوط، فالذين في السجون درس وعظة وعبرة لمن هم خارجها، هذه -باختصار شديد- حالة الرأي العام بعد أكثر من عشر سنوات على ثورة 25 يناير 2011، هو موجد ضد السلطة بالدرجة الأولى. لكن انقساماته ضد بعضه لا تزال قائمة حتى لو انزوت وتوارت على هوامش المشهد، ثم هو رأي عام قوي بشموله لكل الطبقات، كما هو قوي لأنه مبني على تجربة عشر سنوات من حكم الجمهورية الجديدة، وكل عام من حكمها يمر على المصريين يمر ومعه لهم المزيد من القهر والفقر وقلة القيمة في الإقليم والعالم، هو رأي عام صاحب حجة ومنطق، فهو لا يطلب غير حقوقه كمواطنين شرعيين في البلد يؤدون ما عليهم من التزامات وواجبات ومسؤوليات ومن حقهم أن ينالوا ما لهم من حقوق وعيش وكرامة وعدالة وأمن وأمان.

لكن القفص الحديدي الكبير الذي يشمل البلاد ويحتوي العباد يجعل من هذا الرأي العام القوي الموحد مجرد إمكانات لا إمكانيات، مجرد معطيات لا إثباتات، مجرد حضور لكن منزوع الفعل والتأثير، فمازال هذه الرأي العام أبعد -قليلا أو كثيرا- عن اللحظة التي يستطيع فيها التحول إلى إرادة واعية ناضجة مستنيرة تفرض كلمتها وترفع صوتها وتملي إرادتها.

والمصريون -بالغريزة السياسية كشعب قديم- يدركون أن هذه اللحظة سوف تكون من نوع اللحظات الحاسمة التي يغير عندها تاريخهم وجهته في مسار يوافق مصالحهم ويستجيب لمطامحهم ويرفع عنهم ما لحق بهم من قهر ثم فقر ثم قلة قيمة خلال السنوات العشر الأخيرة.

***

عرفت مصر ظاهرة “الرأي العام” ضمن ما عرفت من مستحدثات القرن التاسع عشر التي لم تكن معروفة فيما قبل، وقد ترافقت ظاهرة الرأي العام مع الظهور التدريجي لمفهوم الشعب كمصدر للسيادة، ومفهوم المواطن كصاحب حقوق عليه واجبات، ومفهوم الدولة المحكومة بإرادة عامة لا شخصية، وكل ذلك هو النقيض التاريخي لما كان سائدا قبل القرن التاسع عشر من مفاهيم “ولي الأمر” و”الرعية” و”واجب طاعة الرعية لولي الأمر”. فمع القرن التاسع عشر بدأت -بالتدريج البطيء- مصر تخرج من سياسة العصر الوسيط إلى العصر الحديث، ومازالت -حتى لحظة كتابة هذه السطور والربع الأول من القرن الحادي والعشرين يوشك على ختامه- رهينة الصراع بين عصورها الوسيطة التي لم ترحل بعد وعصرها الحديث الذي لم تدخله بصورة حاسمة قاطعة، فما زالت مخلفات العصر الوسيط مستقرة في تلافيف العقول والمؤسسات الحاكمة مثلما هي مستقرة في تلافيف الضمير الشعبي، ومازالت السياسة الحديثة تقاوم حتى تكسب موضع قدم سواء في أجهزة الحكم أو في الثقافة العامة.

عرفت مصر بوادر الرأي العام -بمعنى قوة الشعب في مواجهة قوة الحكم- مع الغزو الفرنسي عند خاتمة القرن الثامن عشر، ثم اختفى بعد تسلط حكم محمد علي باشا عند مطلع القرن التاسع عشر، ثم عاد الرأي العام للظهور بقوة مع إعلان إفلاس مصر 1876 وحتى الغزو البريطاني 1882، ثم اختفى بعد الغزو واستمر على ذلك حتى حادث دنشواي 1906 حيث أعدم الإنجليز فلاحين أبرياء ثم حادث طابا في العام ذاته حيث دب الصراع بين الإنجليز والعثمانيين على هل طابا ضمن حدود مصر الجغرافية أم خارجها، ثم اختفى مع إعلان الحماية واندلاع الحرب العالمية الأولى 1914، ثم عاد مع الثورة المجيدة في مارس وإبريل 1919، ثم اختفى بعد حكم الجيش في 23 يوليو 1952، ثم عاد مع ثورة 25 يناير المجيدة، ثم اختفى مع ما يسمى الجمهورية المجيدة 2014 وما بعدها.

ارتبط الرأي العام في ظهوره بفكرتي الاستنارة الفكرية ثم الثورة، ارتفاع في منسوب الوعي السياسي لدى شرائح اجتماعية بعينها، ثم تتم ترجمة هذا الوعي في مواقف ذات طبيعة احتجاجية، تكفي للتعبير عن غضب الشعب من سلطة الحكم. السنوات الخمس الأولى من القرن التاسع عشر كانت مستنيرة بوعي عاصف، إذ كانت القاهرة في قلب الأحداث العالمية وعلى أرضها تدور فصول من الصراع بين امبراطوريات أوروبا الاستعمارية، ثم تمكن محمد علي باشا من تجميد الرأي العام وتثبيت علاقة الرعية وولي أمرها وما يجب عليها من الطاعة للحاكم، ثم عاد الرأي العام للظهور في الربع الأخير من القرن التاسع عشر حيث الصحافة الحديثة والتعليم وكافة المؤثرات الأوروبية مع ديون إسماعيل ثم الثورة العرابية، ثم عبر عن نفسه بكل ما يشرف الشعب المصري في ثورة 1919، ثم جاءت ثورة 23 يوليو 1952م بنظرية أن أبناء الشعب في الجيش ينوبون عن الشعب، فعاد الشعب -بالتدريج- إلى هوامش المشهد، يتفرج أو يصفق أو ينسحب بهدوء حتى يعتزل، المهم ألا يصدر عنه ما يزعج صفو السلطة ولا يبدر منه ما يكدر الأمن العام، كل ما هو مطلوب منه هو تصديق ما تبثه أبواق السلطة من مخدرات الوطنية ومكيفاتها، فصدق ومازال يصدق أن السلطة انتصرت في حرب 1956، وبعضه صدق ومازال يصدق أن حرب 1967 لم تكن غير نكسة عابرة، ثم قيل له إن حرب أكتوبر المجيدة 1973 آخر الحروب وأن السلام مع إسرائيل سوف يجلب الرغد في العيش والرخاء في الحياة، وقبل ذلك كله كان الشعب قد تقبل -بوعي أو بغير وعي- فكرة أن الحكم للجيش يتداول عليه ضابط وراء ضابط، وتقبل فكرة أن الرئيس يهندس البرلمان، والبرلمان يرشح الرئيس، والرئيس يفوز بتسعة وتسعين في المائة في استفتاء عام هو فيه المرشح الأول والأخير، ثم لما انتهت الاستفتاءات جاءت الانتخابات بما هو أسوأ، تمثيليات هزلية كل من يشارك فيها يعلم أنها ليس فيها ما يشرف ولا ما يدعو للاحترام، واستمر الوضع على ذلك ستين عاما كاملةً حتى ظن الحكام أن الشعب قد دان للسيطرة وأن فاعليته السياسية ماتت أو كادت تموت.

لكل ما سبق، لم يصدق الرئيس مبارك كل ما رآه في 25 يناير 2011، لم يكن يصدق أن هذا هو الشعب الذي حكمه ثلاثين عاما دون أدنى إزعاج يُذكر، لم يصدق -وله العذر ألا يصدق- أن الشعب من الممكن أن تقوم له قيامة فيشق عن نفسه طين القبور وينهض من مراقده ومدافنه ثم ينبعث حيا نابضا بالثورة في الميادين، لم يكن مستعدا ليصدق أن ما يراه هو الشعب الذي ظل يزور إرادته في استفتاءات مهينة وانتخابات مشينة لفترة ثلث قرن من الزمان، لم يصدق مبارك ورجاله من الحرسين القديم والجديد أن هذا الشعب لم يعد كتلة بيولوجية وأن العكس يحصل وهو أنه يتحول إلى روح سياسية وإلى إرادة شعبية وإلى قوة فعل في التاريخ، لذلك فإنه لم يتجاوز القصد عندما قال كلمته المشهورة “خليهم يتسلوا”، فهي كلمة -على بساطتها- كاشفة لما تعجز المجلدات عن تسطيره وتحبيره، تكشف عن رؤيته الشخصة ورؤية دولته ومؤسساته ورجاله للشعب، رؤيتهم للشعب باعتباره كائن قاصر غير ناضج وغير ذي همة وغير ذي إرادة ولا يمكن أن يصدر عنه إذا اجتمع واحتشد إلا ما يصدر عن الأطفال أو عن التافهين الفارغين من الهموم والشواغل، لا يمكن أن يصدر عنه إلا التسلية، لم يكن مبارك ورجاله ودولته يعرفون عن الشعب إلا أنه ذلك الكائن المستسلم الذي يحكمونه بالسهولة التي يتنشقون بها الهواء شهيقا ثم زفيرا، ولا مجهود مطلوب أكثر من المجهود الذي يستدعيه الشهيق ثم الزفير، ثم بدا لهم من الشعب مالم يكونوا يحتسبون.

في هذه اللحظة من التاريخ تبلور رأي عام مصري حديث ناضج مستنير هو امتداد للحظات مماثلة في التاريخ الحديث من المواجهة مع نابليون ذاته إلى المواجهة مع المماليك والعثمانيين، ثم المواجهة مع الاستعمار وسلالة محمد علي معا مرتين متتاليتين تكمل أخراهما الأولى في الثورتين العرابية ثم ثورة 1919، وصحيح أن ثورة 23 يوليو 1952 نفذها عسكريون لكن كانت مسبوقة برأي عام جعلها مبررة ومشروعة ووفر لها الغطاء الأخلاقي والوطني ثم هذا الرأي العام لم ينصرف عنها إلا بعدما كشفت عن وجه ديكتاتوري عسكري لم يكن في حسبان تلك الأجيال من المصريين أن يكون هو ختام نضالهم من أجل الاستقلال والدستور والديمقراطية والحريات العامة، وقد تكرر الأمر مع 30 يونيو 2013 فقد كانت مسبوقة برأي عام قوي استغلته هى الأخرى كما فعلت 23 يوليو من قبل، استغلته حتى فرضت سيطرتها ثم انقلبت عليه، ثم أسكتته بلجام من الصمت الثقيل.

***

الجمهورية الجديدة -عن عمد وقصد- أماتت ثم أقبرت كل ما هو رأي عام، في السنوات العشر لم يتحدث غير الرئيس وعدد من الأبواق الإعلامية لا يزيدون عن أصابع اليدين، حتى الوزراء لم تعد لهم حرية الكلام إلا في حضور الرئيس وبين يديه وبإذنه وهم في كامل الخضوع والخشوع والامتثال، وحتى لو تحدث الوزير فإن كلامه لا صدى له عند الناس، لأن الناس على يقين أنه لا يتحدث من رأسه ولا بلسانه ولا بإرادته إنما يتحدث من رأس الرئيس ولسانه وإرادته. هذه الحالة حصلت في تاريخنا الحديث مرتين، مرة بعد الاحتلال البريطاني، ثم مع الجمهورية الجديدة، وهنا أنقل عن الكاتب الكبير عباس محمود العقاد من كتابه “حياة قلم” من ص 99 وما بعدها أنه بدأ يعمل في الصحافة من عام 1907 في العام الذي أعقب حادثة دنشواي وشهد تأسيس الأحزاب وانتعاش الصحافة قليلا ثم بزوغ الرأي العام الذي كان قد تلاشي مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ويفخر بأنه الصحفي الوحيد الذي انتبه لفن الأحاديث الصحفية مع الوزراء والمسؤولين، وأنه انفرد بحديث صحفي مع سعد زغلول حين تم تعيينه وزيرا للمعارف كبادرة حسنة من الاحتلال في الاستعانة بذوي الكفاءة من الكوادر الوطنية، ويقول أنه لم يكن عيبا من الصحفيين أن يتجاهلوا الوزراء وأحاديث الوزراء، وبنص تعبير العقاد في ص 100 “الأحاديث أمر مرهون بأوانه، لا يدركه أحد قبل موعده ولا بعده، ولا هو -يقصد فن الحديث الصحفي مع الوزراء- بالمعقول في صحافة مصر على عهد الاحتلال قبل حادث دنشواي وقبل قيام الأحزاب، من كان يحادث الوزراء المصريين في شؤون السياسة العامة؟ وماذا يقول الوزير للرأي العام إذا أراد المقال؟ وأي برنامج له يعرضه على الناس؟ وأي رأي للوزير بعد رأي المستشار الإنجليزي في وزارته ثم بعد رأي المندوب السامي؟”.

ثم يقول العقاد كلاما عما كان يجري تحت سلطة الاحتلال في مطلع القرن العشرين ينطبق تماما على الحالة الراهنة تحت سلطة الجمهورية الجديدة إذ يقول “إن حديثا يجري مع وزير لا يملك من أعمال وزارته غير التوقيع ثم السكوت لهو اللغو بعينه، فلا حرج على الصحفيين المصريين إذا تجنبوه معذورين”.

لهذا فإن العقاد يعتبر إحياءه لفن الحديث الصحفي مع وزير من طراز مختلف مثل سعد زغلول نقطة فاصلة في تاريخه الصحفي وتاريخ الوطنية المصرية ذاتها إذ يقول: “حتى خطر لي أن اقتحم هذا الباب لأول مرة، فكان اقتحامي إياه في الحق عنوانا لصفحة جديدة في تاريخ الوطنية المصرية، ولم يكن مجرد سبق في الصحافة يتكرر كل يوم، وجرى الحديث الأول مع سعد زغلول في وزارة المعارف”.
وإذا كان فن الحديث الصحفي مات تحت الاحتلال فإن كافة فنون الصحافة ماتت تحت الجمهورية الجديدة من 2014 ومابعدها.

هذا التشابه حد التطابق بين فترة ما بعد الاحتلال مع فترة الجمهورية الجديدة يعني أن الرأي العام تراجعت فرص ازدهاره لأدنى ماكان متاحا في عهد مبارك قبل ثورة 25 يناير 2011 بل وأدنى مما كان متاحا في عهود الخديوية القديمة قبل الثورة العرابية من مائة وخمسين عاما أو أقل قليلا، وذلك مع ملاحظة أمرين فيما يخص مبارك والخديوية القديمة بالمقارنة مع الجمهورية الجديدة:

1 – الملاحظة الأولى: أن الثلاثين عاما من حكم مبارك لم تخل في يوم واحد من المعارضة، المعارضة بكل أطيافها كانت موجودة، وكانت تتمتع بحرية الكلام دون حرية الفعل والحركة، أصل المعارضة كان مسموحا به وكان الممنوع هو أن تتطور وتنمو وتخرج عن حدود الإطار المسموح به تحت سقف منخفض لا تتجاوزه، فكرة استئصال المعارضة من الجذور أو دمجها في النظام بما يلغي وجودها المستقل كما هو الحال في الجمهورية الجديدة لم يكن هو المعمول به في حقبة مبارك، التزوير والقهر كانا موجودين، وكانا هما الأصل، ثم إلى جوارهما هوامش محدودة وأخرام معدودة يمر منها بعض تيارات الهواء لعل الشعب يمكنه أن يتنفس، أما مع الجمهورية فلا هوامش للحركة ولا أخرام يمر منها هواء للتنفس.

ثم في السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك زادت مصادر القلق الشعبي من الداخل، وترافقت مع الضغوط من الخارج، وهذا وذاك مع تشقق النظام بين رجال الأب وشباب النجل، مع ظهور منابر صحفية وإعلامية غير مملوكة للدولة، كل ذلك أفسح للرأي العام حتى احتشد المصريون -بكثافة غير مسبوقة- في التاريخ يعبرون عن أنفسهم ليس في مواجهة حكام غرباء ولا أجانب لكن في مواجهة حاكم مصري من أبويين مصريين ومن الجيش المصري ومن القرية المصرية، كان هذا هو التطور الذي عبر عنه الرأي العام في 25 يناير 2011، رأي عام يحمل تعريفا جديدا للوطنية، فلم تعد الوطنية كما كانت في القرنين التاسع عشر والعشرين هي المواجهة مع الغريب أو الأجنبي بل باتت مواجهة صريحة مع الوطني ذاته ومع الوطنية التي ضاقت عن التعبير عن كل الشعب وباتت فقط تخدم الحاكم ومن حوله من أقليات الانتفاع. وهذا هو أعظم تحول جاءت به ثورة 25 يناير 2011، وهو إعلان وفاة وطنية الأقلية، وطنية تزوير إرادة الشعب، وطنية ورثت عن الأجنبي أسوأ ما فيه ثم زادت عليه ما شاءت من قهر وفقر وتجهيل وتضليل دام ستة عقود من ثورة 23 يوليو حتى ثورة 25 يناير. هذا النموذج من الوطنية التف ودار وناور ثم عاد من أوسع الأبواب بعد 30 يونيو 2013. وإذا كان من حق الشعب في عهد مبارك أن يتسلى فليس له من حق في عهد الجمهورية الجديدة إلا قهر يُسكته ثم فقر يشغله بنفسه بحيث يكلم نفسه على مدار أربع وعشرين ساعة، وقد نجحت الجمهورية الجديدة في أن جعلت الشعب -الأغنياء قبل الفقراء- يمشون يكلمون أنفسهم في الشوارع من فرط ما على أدمغتهم من ضغوط وهموم ومخاوف وأحمال ثقال.

2 – الملاحظة الثانية: أن الخديوية سواء قبل الاحتلال البريطاني أو بعده كانت دائما بين عدة ضغوط: ضغوط الصراعات الداخلية بين أقطاب الورثة للحكم والنفوذ من سلالة محمد علي باشا، بما فيها الصراعات بين الأشقاء أنفسهم، ثم بين الأشقاء والأعمام. ثم ضغوط من السلاطين العثمانيين في الأستانة، ثم ضغوط من القوى الأوروبية التي وصلت لأكثر من اثني عشر دولة، وكل دولة لها قنصل يمثلها في القاهرة تعتبره ويعتبر نفسه شريكا فعليا في حكم البلاد وتوجيه دفتها وصناعة قرارها، ثم في كل الأحوال هناك صراعات النخب المحلية سواء من المتمصرين أو من المصريين، وسواء من ذوات الترك والشركس أو من الأعيان الفلاحين، لكل تلك الضغوط لم تعد الخديوية مطلقة السلطة ولا طليقة اليد ولا حرة القرار والتصرف.

هذه الضغوط أخرجت الخديوية من عزلة القصور إلى رحابة الرأي العام كمصدر للاستقواء فيما يحيط بالخديو من مخاطر خاصة عندما يدرك أن بقاءه في السلطة تحت التهديد بالانقطاع ثم الزوال، أدرك ذلك منهما اثنان لم يكن ينقصهما الذكاء وسعة الحيلة والمناورة، وهما الخديو إسماعيل ثم حفيده عباس حلمي الثاني.

أ – الخديو إسماعيل قرر أن يشتغل معارضة وهو في الحكم، معارضة ضد التدخل الأجنبي، فأرخى العنان للصحافة، ثم أطلق المعارضة إلى أبعد مدى في مجلس شورى القوانين، ثم أباح تكون حزب وطني هو بذرة كل معارضة بعد ذلك، بل حرض ضباط الجيش -لأول مرة في تاريخ الجيش الحديث- على الخروج في مظاهرة، كل ذلك حدث عندما تعرضت سلطته للخطر، عندما فرض عليه الإنجليز والفرنسيين تشكيل وزارة تتولى الحكم معه برئاسة نوبار باشا 1878 ثم فرضت عليه وزيرين: بريطاني للمالية وفرنسي للأشغال، أي جعلوا منه خشخيشة فوق رأسها طرطور لا أكثر ولا أقل، هذه المناورات التي قام بها إسماعيل لمصلحته الشخصية كانت بذرة هامة جدا في خلق رأي عام سياسي حديث، وهذا الرأي العام لم يوفر له الحماية من القوى الأوروبية التي قررت عزله، لكن هذا الرأي العام نما وازدهر وكان وقود الثورة ضد نجله توفيق 1881 – 1882. وتظل حقبته بكل تناقضاتها فترة ثرية في تاريخنا الحديث. في الوثائق الرسمية نقرأ أن الخديو أمر نوبار باشا بتشكيل وزارة تشترك مع الخديو في تحمل أعباء الحكم مثلما يحدث في ممالك أوروبا الحديثة، لكن الحقيقة أن القرار لم يكن قرار الخديو، كان قرر الإنجليز والفرنسيين، الخديو وافق من موضع ضعف، ثم التف -كعهد الدولة العميقة التي وضع أسسها جده محمد علي باشا- التف على القرار بما يشبه الثورة الشعبية بكل ما تعنيه كلمة الثورة الشعبية.

ب – شيء قريب من هذا تكرر مع حفيده عباس حلمي الثاني، كان يدرك أن عزله وشيك، ورأى الإنجليز يغلون يده عن سرقة مال الأوقاف فحولوا ديوان الأوقاف إلى نظارة أي وزارة لتكون ميزانية الأوقاف من ميزانية الدولة ومن ثم يسهل عليهم حرمانه من الاستحواذ على أموالها ليمول بها أنشطته السرية ضدهم، ثم ليسهل عليهم مراقبتها ضمن مراقبتهم لميزانية الدولة كلها. كان القصد الذي سعى له الإنجليز والفرنسيين من تشكيل وزارة 1878 هو غل يد الخديو إسماعيل أن تمتد للمال العام، كذلك جاء تحويل ديوان الأوقاف إلى نظارة أي وزارة لغل يد حفيده الخديو عباس حلمي الثاني أن تمتد إلى أموال الأوقاف يستخدمها ضدهم. بالقطع لم يكن هدف الإنجليز والفرنسيين حماية المال العام ولا نزاهة الحكم ولا الحرص على أموال الشعب بل كان الهدف هو تجريد الخديوية من أي قدرات مالية يستخدمونها في مناكفة التدخل الأجنبي الذي جعل من حكام مصر من سلالة محمد علي باشا مجرد أسماء بلا سلطة فعلية.

ومثلما فعل جده إسماعيل حين دبر الثورة من الخفاء ومن وراء ستار، كذلك اجتهد عباس حلمي الثاني في كسب الرأي العام، بما هو رأي عام، أي بما أن الشعب قوة يمكنه الركون إليها وهو يواجه ما يشعر أنه عزل قريب، لهذا تحرك على ثلاثة مسارات: أولها محاولة كسب السلطان العثماني في الأستانة حتى لا يوافق على قرار عزله كما سبق ووافق على قرار عزل جده، ثم ثانيها محاولة كسب النخبة الوطنية مثل سعد زغلول، ثم ثالثها سعى ليس فقط لكسب الرأي العام لكن للظهور بمظهر شعبي محض، كقائد يتحرك وسط شعبه بحب منه وبترحيب منهم -أشبه ما يكون بالمظاهرات التي كان يقودها الرئيس الليبي معمر القذافي بعد أن اندلعت الثورة الشعبية ضده في 17 فبراير 2011 – يقول عباس العقاد في ص 147 من كتابه “حياة قلم” كان الخديو يعلم أن لورد كتشنر -المندوب السامي للاحتلال البريطاني- يصر على خلعه ويرشح لمنصب الخديوية منافسا له من أمراء بيت حليم (بيت الأمير محمد عبد الحليم ابن محمد علي باشا)، وكان الخديو يعلم أن كتشنر لن يغلبه بقوة غير قوة الخلافة في الأستانة، أو قوة الرأي العام في مصر، وفي طليعتها قوة المعارضة في الجمعية التشريعية”.

ثم يقول العقاد: “فأما قوة الخلافة فقد احتاط لها الخديو بسفرة تلك السنة -يقصد 1914- وعدل عن زيارة المصيف الأوروبي كعادته في السنوات الماضية، ليبقى إلى جوار الخليفة متأهبا لإحباط المؤامرة عليه”.

ويقول: “وأما قوة الرأي العام، فقد احتاط لها الخديو، برحلة شعبية في الوجه البحري، تعمد فيها زيارة الأعيان في قصورهم، وزيارة الفلاحين في أكواخهم، واستقبال الشعب حول سرادقات الاحتفال حيثما نزل بقرية من قراهم، بلا حواجز تحجز عنه الكبار ولا الصغار ولا الرجال ولا النساء، وحرص على إبراز صداقته للمعارضين في الجمعية التشريعية، فجعلهم في صدارة الأعيان الذين تقع قراهم على خط الرحلة، ودعاهم إلى مصاحبته في قراهم وفي غير قراهم، وأولهم سعد زغلول”. ثم يشير العقاد إلى أن الخديو -فعل مثلما يحدث في أيامنا هذه- حيث اتفق مع كل الصحف على التفرغ لتغطية الرحلة والتركيز عليها وتخصيص كافة الصفحات لأخبارها.

***

الجمهورية الجديدة استغلت الرأي العام واستفادت من قوته عند تأسيسها، ثم خدعته ثم استغنت عنه ثم انقلبت عليه ثم خوفته ثم قهرته ثم أفقرته ثم أسكتته سكوتا غير مسبوق بعد قيامها، ثم هو بعد عشر سنوات من حكمها قد أفاق واسترد وعيه وكسب خبرات عظيمة فإذا هو على غير وفاق معها، الفجوة كل يوم تتسع بين الرأي العام والجمهورية الجديدة، لكن هذا الرأي العام رغم شموله كل الطبقات غير قادرة على كسر حاجز الرهبة والتعبير عن نفسه بطريقة سياسية في إطار الدستور والقانون، وتنفرد الجمهورية الجديدة بأمرين:

1 – أولهما غياب قيادات لها وزن فكري مثل العقاد وغياب قيادات لها وزن سياسي مثل سعد زغلول وغياب زخم مثل زخم ما قبل 25 يناير 2011.

2 – وآخرهما أن الجمهورية الجديدة طليقة اليد في الداخل دون أدنى ضغوط من أية قوة خارجية إلا ما فيما يتصل بالسياسات المالية المضطربة.

السؤال: كيف للرأي العام الذي وحدته سياسات القهر والفقر أن يعبر عن نفسه في إطار الدستور والقانون رغم القبضة الحديدية؟

***

الجواب في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.