قبل أسبوعين أدلت الكاتبة الكبيرة فاطمة المعدول، زوجة الكاتب المسرحي الكبير لينين الرملي، بتصريحات في برنامج الستات ما يعرفوش يكذبوا، عن علاقة الكاتب الراحل بمحمد صبحي.
جاءا التصريحات عاقلة، منصفة لعلاقة الاثنين، التي شابتها التوترات، والقصص التي تقلل بكل تأكيد من صبحي، وتجعل منه مجرد صنيعة لينين الرملي، وتنكر أي دور له أو لموهبته كممثل يملك كل مقومات النجومية التي كانت ستبزغ بلينين أو بدونه، لكنها كانت ستأخذ مسارا مختلفا، ربما تضعه في مكانة جيدة كمضحك موهوب، لكنها بالتأكيد لن تكون مكانة الذي ترك أعمالا فنية تجمع بين المتعة والأهمية.
بحسب وصف المعدول الذي ينم عن روح إنسانية كبيرة: فإن لينين الرملي كان المخ وصبحي هو العضلات، وهو توصيف يضع الأمور في سياقها الصحيح، قائلة: من يستطيع أن “يعمل الهمجي مثلا إلا صبحي”.
وكالمعدول أؤكد انحيازي المسبق، إلى لينين، بحكم موقعي كمثقف، فلن أميل كثيرا إلى النجم، رغم ذلك أرى أن صبحي قد ظُلم فيما يخص تلك العلاقة تحديدا، ولا أنفي مسؤوليته عن ذلك الظلم، بتصديره لنفسه في موقع الرقيب الأخلاقي، وهو موقع مزعج حتى بمفهوم الأخلاق نفسها، إذ يختزلها إلى مجرد مواقف رجعية منحطة، فتفتقر أول ما تفتقر إلى الأخلاق، فيجعل منها أخلاق عجوز متصلب يرفض فكرة أن الزمن يتخطاه أو يجعل منها نظرة طفل ساذج يرفض أن ينضج، ولأنها توجه أول ما توجه إذا ما صدرت من فنان إلى الفن نفسه، مصدر نجوميته وشعبيته وثروته أيضا، كما أنه وعن طريق التنكر للأخطاء نفسها التي ارتكبها في زمنه، يدين الآخرين بأكثر الحيل خسة، عبر إدانة نفسه، ثم منحها العفو، بينما لا يمنحه أبدا للآخرين.
تقول القصة المكررة أن صبحي، والتي مصدرها الأساسي مذكرات لينين الرملي، كان ديكتاتورا في عمله، وأنه كان يسعى كي لا يصبح أحد أكثر نجومية منه، فيميل إلى “تطفيشه”، ليست عبلة كامل هي المثال الوحيد، بل يقال أيضا أن الطفلة ليزا التي لعبت بطولة الثمانيناتي الشهير، هند والدكتور نعمان، من تأليف لينين الرملي وبطولة كمال الشناوي، كانت ليزا هي التي لعبت دور الطفلة في مسرحية الهمجي، قبل الطفلة هدى هاني، والتي لم تكن سيئة، لكن يبدو أن ليزا كانت متألقة على نحو استثنائي، والأمر نفسه حدث مع ماجدة الخطيب التي لعبت بطولة مسرحية الجوكر، لكن صورتها بدلا منها هناء الشوربجي، وتقول الحكايات أنها قدمت أداء استثنائيا، وأن الخلاف الأخير بينهما كان سببه خروج صبحي على النص في مسرحية وجهة نظر، وهو الأمر الذي يحرمه صبحي نفسه على من سواه.
لكن أليس هذا هو ديدن النجوم، عضلات بلا مخ، مغرورين، لهم حسابات تعبد الصورة الفارغة التي يصدرونها، ويقاتلون من أجلها؟ هل تنسحب تلك التصرفات على صبحي فقط؟ ربما تأخذ قنابل الدخان التي أطلقها لينين في نهاية حياته، الأهمية لأنها تسمح لنا أن نقارنها مع صورة المصلح الأخلاقي التي حاول صبحي تصديرها، لأننا ضبطنا المتحدث عن الأخلاق بلا أخلاق، لكن مصدرها عند لينين لم يكن أمينا بالدرجة نفسها، بل فكرة مثقفين “أخرى” أن يهدم تمثال بجماليون الذي صنعه بيديه.
لكن صبحي لم يكن مجرد تمثال صنيعة آخر، بل كان ممثلا موهوبا ومخرجا متميزا في حدود أدوات المسرح الكلاسيكية، التي كان متمكنا منها عبر الموهبة والدراسة، وكان يملك في تقديمه في بداياته لمسرحيات كهاملت وروميو جوليت وعدد من أعمال موليير، طموح فنانين بحق، بل أثبت في كل مرة أخرج فيها نصا للينين الرملي، أنه أفضل من أخرج من تلك الأعمال، وإن كان قد انتقد إخراج “عصام السيد” لمسرحية “أهلا يا بكوات” أحد أنجح عروض المسرح القومي، وهي من تأليف لينين، فأقول إنه على حق، ليس انتقاصا من قدر عصام السيد، بل لأنه قطعا كان سيخرجها بشكل أفضل، فرغم كل نجاحات لينين خارج فلك صبحي، ونجاحات صبحي خارج فلك لينين، إلا أن أحداً لا ينكر أن اجتماعهما معا كان أكثر حالاتهما اكتمالا وبقاء في الذاكرة، الذاكرة كما أرادها لينين لنفسه حيث يطرح سؤال عمره عن حرية الإنسان وحرية اختيار مصيره، قدمها صبحي في أبهى وأدق صورة، بل يحسب له أنه غامر كنجم، بإخراج تلك الأعمال التي ربما لو كان قدمها ممثل آخر لعد بعضها ضمن العروض الفنية المتميزة التي لا يشاهدها سوى قلة.
الحقيقة التي لم تقل أبدا، أن بقدر ما صنع لينين الرملي “المخ” نجومية صبحي، أن صبحي أيضا بقدر ما وراء أن يصبح اسم لينين الرملي شعبيا ودارجا، لأن صبحي كان كل ما يحتاجه المفكر، إذ هو رأس بلا جسد أو ساقين، والنجم هو لحمه وصورته.
ما حدث بانفصالهما أن لينين أراد أيضا أن يكون نجما، لأنه افتقد نجمه، حتى إنه قرر أن يخرج بعض أعماله بنفسه، وصبحي أراد أن يكون مفكرا ومؤلفا، لكنه عضلات بلا مخ، لذا تمخض لنا بهراءات الأخلاق؛ لأنها تبدو بالنسبة له كثقافة مفكر. باستثناءات قليلة أعتبر ما أعقب انفصالهما عن بعض رحلة تيه طويلة لكليهما.