لا يمكن فصل النجاح الذي حققته تجربة حزب “العدالة والتنمية” في سنوات حكمها الأولى عن الأساس العلماني الذي وضعه بطل تركيا القومي مصطفى كمال أتاتورك، وفرض على القوى الدينية والمحافظة أن تدخل المجال السياسي بشروط الدولة المدنية وليس بشروطها الدينية. كما فتحت الباب لظهور مصلحين من داخل النظام، أبرزهم رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية الراحل تورجت أوزال، الذي آمن بالعلمانية والديمقراطية، وقام بإصلاحات اقتصادية مثلت حجر زاوية في استقرار التجربة التركية في العقود الأخيرة.

والحقيقة، إن النجاح الذي حققته تجربة أردوغان وحزب “العدالة والتنمية” في العقد الأول من حكمه، يعود في جانب رئيسي منه لتجربة أوزال، التي وضعت الأساس القانوني لقبول كل القوى السياسية المؤمنة بالديمقراطية والعلمانية، سواء كانت محافظة أو ليبرالية أو يسارية.

وهو ما بنى عليه أردوغان مشروعة الإصلاحي في السنوات العشرة الأولى من حكمة. وخاصة في مجال الحريات العامة وحقوق الأقليات، ودعم الحرية الاقتصادية، قبل أن يعاني مؤخرًا من أزمات البقاء الطويل في السلطة (21 عامًا)، وتشهد البلاد قدرًا من التراجع.

والحقيقة، إنه منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 على يد الزعيم مصطفى كمال أتاتورك والبلاد تشهد تجارب قادة حافظوا على ثوابت المنظومة السياسية القائمة، دون التفكير في إصلاحها أو تجديدها ولو من داخلها. صحيح، أن هناك من حاول مبكرًا أن يجدد فيها قبل الأوان، فانقض عليهم “حراس النظام”، مثلما جرى في عام 1960 مع الزعيم عدنان مندريس، الذي أعاد الأذان وتكلم باحترام عن الإسلام، وسعى إلى توسيع هامش الحريات، فاتهمه الجيش بالتآمر على العلمانية وانقلب على حكمه وأعدم.

أما التجربة الثانية التي نساها البعض في ظل احتفاء أو هجاء الكثيرين بتجربة أردوغان، وهي تجربة تورجت أوزال التي غيرت وجه تركيا وكان بطلها رجل مستنير آمن بالعلمانية المنفتحة، التي تقبل حضور الدين في المجال العام وليس المجال السياسي. كما آمن بدور القطاع الخاص، وأجرى أهم عملية إصلاح اقتصادي شهدتها تركيا في النصف قرن الأخير.

وقد ولد خليل تورجت أوزال ( Halil Turgut Özal ) في 13 أكتوبر 1927، وشكـَّل في عام 1983 حزب الوطن الأم (ANAP) بعد رفع الحظر عن الأحزاب من قِبل الحكومة العسكرية، التي جاءت عقب انقلاب 1980 وقادة الجنرال كنعان إيفرين.

وفاز حزب أوزال بالأغلبية البرلمانية في الانتخابات العامة التي جرت عام 1983، وأصبح رئيس وزراء تركيا. وقرر بعدها وبالتوافق مع الرئيس العسكري في ذلك الوقت (كنعان ايفرين) عودة السياسيين المحظورين عقب انقلاب 1980 لممارسة نشاطهم السياسي.

وأعيد انتخاب أوزال مرة أخرى كرئيس للحكومة، بعد أن حصل حزبه للمرة الثانية على أغلبية برلمانية في الانتخابات التي جرت عام 1987، ونجا في أعقابها من محاولة اغتيال أثناء مؤتمر حزبي في 1988. ثم انتخب في عام 1989 رئيسًا للجمهورية التركية (وكان بحكم دستور ذلك الوقت محدود الصلاحيات)، وبقي في هذا المنصب حتى وفاته بأزمة قلبية مفاجئة عام 1993.

وقد وضع أوزال أساس التقدم الاقتصادي والصناعي المعاصر، وحرر الاقتصاد التركي من قيود كثيرة، وحوَّل معظم مشاريع الدولة إلى القطاع الخاص، واستطاع أن يرتفع بمعدل النمو الاقتصادي من 3,3% في عام 1983 إلى 9.1% عام 1990، وزيادة الصادرات من 5.7 مليار دولار في عام 1983 إلى 11.6 مليار دولار عام 1989.

وظهرت آثار سياسته المنفتحة على العالم الخارجي في زيادة الصادرات، وزيادة تعاقدات شركات المقاولات التركية مع العالم الخارجي، وخاصة دول الخليج وبلدان عربية أخرى، وزيادة حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة من 113 مليون دولار في عام 1984، إلى 663 مليون دولار في عام 1989.

كما اتبع الرجل سياسة خارجية تدعم روابط تركيا بالدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي، وتوثق روابطها بالغرب، وانفتح على الدول العربية، والتقى الرئيس مبارك أكثر من مرة، وأسهم بدور فعال في حرب الكويت الأولى، بالمشاركة مع الدول العربية والكبرى في التحالف الدولي لتحرير الكويت، الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية. كما دعم حقوق الأقلية الكردية في تركيا.

صحيح، أن بعض هذه السياسات كانت محل نقد وبعضها الآخر كان محل نقاش حاد، إلا أنه من المؤكد لولا وصول أوزال إلى حكم تركيا لما فتح الباب أمام بناء اقتصاد رأسمالي منتج تحرر من قيود النظم السابقة. كما أنه فتح الباب أمام إنهاء عصر الانقلابات العسكرية، بخلق نموذج اقتصادي منتج قائم على المنافسة الحرة والتنمية وجذب رؤوس الأموال، وأيضًا السماح لمختلف القوى السياسية المؤمنة بالعلمانية والديمقراطية أن تعمل بحرية دون الخوف من فزاعات الحكم العسكري السابق.

ولذا لم يكن غريبًا أن التجربة الانقلابية التي جاءت بعد وفاته في عام 1997 سميت بالانقلاب الأبيض أو الناعم، لأن الجيش لم يحكم ولم يتدخل مباشرة في العملية السياسية، إنما أجرى استعراضًا للقوى في مواجهة حكومة أربكان الإسلامية، والتي رآها كثيرون معادية للعلمانية، فسقطت وتنحى أربكان عن الحكم دون إراقة دماء كما كان يحدث من قبل.

تجربة أوزال نقطة فارقة في تاريخ النظام السياسي التركي، فقد مثل الرجل خليطًا شرقيًا مبهرًا من العلمانية والتدين، ومن الإيمان بدور الجيش في النظام السياسي كحارس للقيم والمبادئ العلمانية، وفي نفس الوقت رفض أن يتولى أمور الحكم والإدارة.

تجربة المصلح الجراح أو المصلح من داخل النظام مثلت في تجارب كثيرة نقطة تحول فاصلة. وهي تجارب بدت وكأنها منسية في عالمنا العربي، نظرًا لقلتها دون أن يعني ذلك غيابها.