قبل أيام ثلاثة، طرحت مصر أول صكوك سيادية لها في الأسواق الدولية. وذلك في عودة إلى سوق الديون الدولية لأول مرة منذ مارس/ آذار 2022، عندما بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا. أتت تلك الصكوك كمحاولة بديلة لتمويل الديون بعد تخفيض تصنيف مصر الائتماني من قبل وكالة “موديز”. ما أثر على جاذبية أذون الخزانة والسندات التي تطرحها للمستثمرين الأجانب.
منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، بدا أن الحكومة المصرية عادت بقوة إلى “الأموال الساخنة”، والتي كان خروج نحو 25 مليار دولار منها إثر الحرب جزءًا من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر. وقد ساهم تدفق نحو 925 مليون دولار، في الحادي عشر من يناير، في إبقاء سعر الجنيه عند متوسط 30 جنيهًا.
“الدرس الذي تعلمناه هو أنك لا يمكنك الاعتماد على هذا النوع من الاستثمار، إنه يأتي فقط للحصول على عوائد مرتفعة، وما إن تحدث صدمة فإنه يغادر البلاد”. هكذا قال وزير المالية محمد معيط في يونيو/ حزيران الماضي. أكد أن الحكومة لم يعد يمكنها الاعتماد على المشتريات الأجنبية لأذون وسندات الخزانة لتمويل ميزانيتها. بل يجب العمل على تعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر.
لكن في ظل تباطؤ الاستثمار الأجنبي المباشر والفجوة التمويلية التي قدّرها صندوق النقد الدولي بـ 17 مليار دولار خلال برنامج يستمر 46 شهرًا، يبدو أن الحكومة لم تجد بديلًا سوى العودة للأموال الساخنة. ذلك رغم الكلفة الباهظة المتوقعة على الموازنة العامة، في ظل عدم جاذبية أوراق الديون المصرية، واضطرارها لرفع الفائدة كي تكون أكثر جاذبية.
تقول كالي ديفيس، محللة في “أكسفورد إيكونوميكس” ومقرها لندن: “لسوء الحظ، فإن هذا يعرض المصريين لخطر مزيد من التدفقات المالية الساخنة إلى الخارج في سياق صدمة خارجية أخرى. ومع ذلك، فإن وضع التمويل الخارجي المباشر مريع للغاية لدرجة أنني أعتقد أن الحكومة ستكون سعيدة لجذب هذه الأنواع من الأموال على المدى القصير لتغطية فجوة التمويل لديها”.
ووفق وكالة “موديز”، فإن تراجع سيولة النقد الأجنبي في مصر قللت من الغطاء المالي المتاح لمواجهة التزامات الديون متوسط وطويلة الأجل. وتشرح أن مصر مطالبة بسداد 20.4 مليار دولار خلال العام المالي 2024، من أصول الديون القائمة عليها والفوائد، و23.2 مليار في 2025، بجانب 26 مليار دولار قروض قصيرة الأجل؛ ناصحةً الحكومة بالبحث عن نموذج بديل يخلق نموًا حقيقيًا.
ما الصكوك السيادية وتأثيرها المحتمل؟
الصكوك السيادية هي أوراق مالية حكومية، قابلة للتداول تصدر لمدة محددة، وتمثل حصصًا شائعة في حقوق منفعة الأصول أو تأجيرها. وتمثل فرصة واعدة للاستثمار في المشروعات التي تدشنها الدولة، والحصول على أرباح. مع ما تكفله تلك الصكوك من إعادة المبلغ المدفوع فيها للمستثمر بالكامل في نهاية مدة الصك.
ويُطلق عليها أحيانًا الصكوك الإسلامية، لأنها متوافقة مع مبادئ الشريعة الإسلامية وهو ما يسهم فى جذب شريحة جديدة من المستثمرين الراغبين بالاستثمار وفقًا للشريعة الإسلامية بالعملتين المحلية والأجنبية.
وطرحت مصر إصدارها من الصكوك في بورصة لندن بحجم 1.5 مليار دولار لأجل 3 سنوات، مقابل فائدة مرتفعة بشكل ملحوظ سجلت نحو 11%. وأتى ذلك متزامنًا مع استعدادها لسداد 1.25 مليار دولار سندات دولارية سابقة، مستحقة في نفس اليوم.
واختارت مصر بنوك أغلبها خليجية، وهي: “سيتي جروب”، و”كريدي أجريكول إس إيه”، و”الإمارات دبي الوطني كابيتال”، و”بنك أبوظبي الأول”، و”إتش إس بي سي”، و”بنك أبوظبي الإسلامي” للعمل على بيع الصكوك المحتمل.
وبحسب مذكرتي وكالتي التصنيف الائتماني “موديز” و”ستاندرد أند بورز”، فإن برنامج الصكوك مقابل الحصول على حقوق الانتفاع بأصول عقارية، لمدة 50 عامًا. ويبلغ الحد الأدنى لقيمة الصك 200 ألف دولار أمريكي.
ويصدر رئيس مجلس الوزراء يصدر بتحديد الأصول الثابتة والمنقولة المملوكة للدولة “ملكية خاصة” التي تصدر على أساسها الصكوك. بحيث تكون هناك آلية لتقييم حق الانتفاع بتلك الأصول التي تصدر على أساسها الصكوك أو مقابل تأجيرها لهذا الغرض، وفقًا لبيان سابق من وزارة المالية.
وبحسب موقع “المال” فإن الصكوك تتشابه مع مع السندات فى أن كليهما يصدر بقيمة اسمية. أما الفرق بينهما فيتمثل في أن للسند فائدة ثابتة، أما ما يدفع على الصكوك ليس فائدة ثابتة، وإنما هي ربح مصدره النشاط الذي استخدمت فيه أموال حملة الصكوك أو الإيراد المتولد من الأصول.
وتهدف الصكوك، التي ستدرجها الشركة المالية المصرية في بورصة لندن، إلى المساعدة في تخفيف الأعباء على العملة المحلية مقابل الأجنبية وسداد الديون وتمويل الاستثمار ومشروعات التنمية، حسبما جاء في شبكة “سي أن بي سي” الأميركية.
يقول الخبير الاقتصادي علاء عبد الحليم، في حديث لموقع “الحرة“، إن الصكوك تعتبر أحد الأساليب الجديدة لتوفير مصادر تساعد مصر على الوفاء بديونها. لكنه أشار إلى أنه في الحقيقة تزيد هذه الصكوك من تكلفة الديون بنسبة كبيرة ربما تصل إلى تريليون جنيه مصري، خاصة أنها بفائدة مرتفعة. “قيمة هذه الديون تعتبر سابقة خطيرة في مصر وستؤثر بشدة على الموازنة العامة وجميع القطاعات الحيوية، مثل التعليم والصحة”.
ويتساءل الخبير الاقتصادي عما إذا كانت الحكومة قد أخذت موافقة البرلمان على مثل هذه الخطط بشأن الديون وفقًا للمادة 28 من الدستور. ونفى أن تكون لدى الحكومة أي خطة سواء حالية أو مستقبلية للحد من الديون أو كيفية التعامل معها.
هذا الحديث اتفق معه المحلل بمعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط ومقره واشنطن، تيموثي قلدس. قال إن الحكومة أصبحت في أزمة حقيقية جراء خضوعها لشروط صندوق النقد الدولي، الذي بنى آليات لا تترك لمصر خيارًا سوى الإذعان.
وأضاف أن مصر ليس أمامها حاليا خيارات كثيرة سوى مزيد من الاقتراض للخروج السريع من الأزمة. لكنه تساءل عما إذا كان الاقتراض هدفه الوحيد شراء مزيد من الوقت أم أن الحكومة لديها خطة واضحة لأوجه الإنفاق والاستغلال الفعال لهذه الأموال أم ستضيعها على مشاريع ترفيهية ليست لها قيمة اقتصادية تخدم فقط النخبة التابعة للنظام، كما حدث على مدار السنوات السابقة.
ازدياد الديون قصيرة الأجل
أعلن البنك المركزي تراجع الدين الخارجي خلال الربع الأول من العام المالي الجاري بقيمة 728 مليون دولار، مدفوعًا بتراجع الدين طويل الأجل. وبحسب بيانات الدين الخارجي، تراجع إجمالي الدين الخارجي إلى نحو 155 مليار دولار بنهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، مقابل 155.708 مليار دولار في نهاية يونيو/ حزيران.
واستحوذ الدين الطويل الأجل على نسبة 82.3% من إجمالي الدين الخارجي، فيما استحوذت الديون قصيرة الأجل على ما يقارب 18%. وتمثل الديون قصيرة الأجل تلك التي يقل أجل سدادها عن سنة واحدة، بتعريف البنك الدولي. وهي أكثر خطورة من الديون طويل الأجل.
وأدى هذا الازدياد في الدين الخارجي قصير الأجل، إلى ارتفاعه كنسبة من الاحتياطي النقدي الأجنبي وصولًا إلى مستوى يقترب من 83% بنهاية سبتمبر/ أيلول من العام الماضي. علاوة على ذلك، انخفض صافي الاحتياطي الأجنبي لمصر بشكل كبير من 40.9 مليار دولار في فبراير/شباط 2022 إلى 34 مليار دولار في ديسمبر/ كانون الأول 2022.
اقرأ أيضًا: صكوك مصر السيادية.. الاستدانة بفوائد قصوى لسداد ديون بفوائد منخفضة
ومنذ تخفيض قيمة العملة بداية العام، أصدرت الحكومة عددًا كبيرًا من أذون الخزانة لأجل 91 يومًا جمعت منها نحو 169 مليار جنيه في شهر يناير/كانون الثاني فقط. وقد أقبل المستثمرون بكثافة على الديون قصيرة الأجل، ذات آجال 3 شهور و6 شهور و9 شهور وسنة، في ظل معدل فائدة مرتفع وصل إلى 21.5%.
وارتفعت أذون الخزانة والسندات المحلية غير المسددة إلى 4.3 تريليون جنيه في ديسمبر/كانون الأول 2022، وفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن وزارة المالية. وبلغت قيمة أذون الخزانة (قصيرة الأجل) المستحقة 1.7 تريليون جنيه: 755.3 مليار جنيه في 364 يومًا، 137.3 مليار جنيه في 273 يومًا، 377.8 مليار جنيه في 182 يومًا، و 456.6 مليار جنيه في 91 يومًا بحسب التقرير.
وأظهر التقرير أن استحقاق أذون الخزانة هذه يمتد من 3 يناير/كانون الثاني 2023 إلى 26 ديسمبر/ كانون الأول 2023. الخبير المصرفي أحمد شوقي. أكد أن مصر لا يمكنها الاستغناء عن استثمارات أدوات الدين المحلية كمصدر تكميلي للعملات الأجنبية والاستثمار جنبًا إلى جنب مع الاستثمارات المباشرة. وأضاف أن أذون الخزانة هذه معروضة بأسعار فائدة أعلى من المعدلات المطبقة من قبل بعد أن تم رفع أسعار الفائدة الرئيسية بالفعل.
تحذر كالي ديفيس محللة “أكسفورد إيكونوميكس” من أن الخطر، على الرغم من ذلك، هو أن التدفق المفاجئ للأموال الساخنة يقلل من الحاجة الملحة لتقليل تأثير الدولة في الاقتصاد.
قالت: “لا يزال هناك ما يقدر بنحو 5 مليارات دولار من البضائع تنتظر في الموانئ بينما لا تزال عمليات السحب النقدي في الخارج خاضعة لقيود، لذلك لا تزال هناك بعض العقبات. إذا كانت خطط الحكومة لجذب العملات الأجنبية الضرورية، والتي تشمل زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر وتدفقات المحفظة، قاصرة، فإن هذا سيخلق مجالًا لمزيد من ضعف العملة”.
بينما يقلل عمرو الألفي، رئيس قسم الأبحاث في برايم للأوراق المالية، من شأن المخاوف من أن الحكومة قد تكرر بالضرورة نفس الخطأ الذي حدث في السنوات السابقة، مؤكدًا أن أذون الخزانة المملوكة للأجانب لا تشكل سوى 5% من إجمالي أذون الخزانة القائمة.
تكلفة أكبر على الموازنة
يرى محللون أنه سيكون من الصعب على مصر أن تجتذب المزيد من الأذون والسندات بعد رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي 4.5 نقطة مئوية في أسعار الفائدة على مدار العام الماضي، وبعد أن خفضت وكالة “موديز” التصنيف السيادي لمصر بدرجة واحدة في 7 فبراير/ شباط.
رغم ذلك، في الرابع عشر من الشهر الجاري ولتمويل العجز في الموازنة العامة أصدرت الحكومة أذون وسندات خزانة بقيمة إجمالية بلغت 80.5 مليار جنيه، تتوزع على النحو التالي: أذون خزانة – لأجل 91 يومًا بقيمة 13 مليار جنيه – لأجل 182 يومًا بقيمة 20 مليار جنيه – لأجل 273 يومًا بقيمة 21 مليار جنيه – لأجل 364 يومًا بقيمة 23.5 مليار جنيه.
يلفت الخبير الاقتصادي، إبراهيم نوار، إلى أن 96.3% من القيمة المطلوبة لتمويل الموازنة هي قروض قصيرة الأجل (أقل من سنة)، في حين تتضاءل قيمة التمويل الطويل الأجل، وتتراجع نسبة السندات في مقابل زيادة كبيرة جدا في التمويل بالديون القصيرة الأجل.
ويضيف أن خطورة ذلك تتمثل في زيادة عدد مرات الاحتياج إلى إعادة التمويل، وهو ما يتم بتكلفة أعلى منذ بداية السنة المالية حتى الآن. ويضيف أن الأذون لأجل 91 يومًا تمثل العمود الفقري للتمويل الحكومي حاليا، لذا فإن معدل العائد على أذون الخزانة وصل إلى 22.2% أي ما يزيد عن المعدل المحسوب في قانون الموازنة العامة للدولة بحوالي 7.7 نقطة مئوية.
اقرأ أيضًا: قراءة في “الصكوك السيادية”.. رهان على سد الفجوة التمويلية وسلطات كبيرة لـ”الهيئة الشرعية”
يوضح “يعني ذلك عمليًا أن تكلفة الاقتراض الحكومي تتجاوز الآن التكلفة الواردة في قانون الميزانية بنسبة 52.6%. هذا يعني أن كل زيادة في العائد بنسبة 1% الذي تحصل عليه المصارف لإقراض الحكومة تنتج عنه زيادة في الدين العام للدولة بمقدار 42 مليار جنيه، وليس 28 مليارا كما هو وارد في الموازنة”.
يُجمل نوار سبب أزمة الاقتصاد المصري في أنه بات يدور في فلك الديون، ويبحث مسؤولو السياسية النقدية عن حل لأزمة اليوم من دون اكتراث للأزمة التي يصنعونها غدًا، مع المزيد من الاستدانة كأنه إدمان، بحيث يستدين المسؤول عن السياسة الاقتصادية والمالية للدولة كي يسدد ديونًا قديمة، ويستدين اليوم ديونًا مستحقة السداد بعد 90 يومًا، بعائد مرتفع غير موجود في أي دولة أخرى، وعندما تنقضي هذه المدة القصيرة ويحين موعد السداد، وتخفيض التصنيف الائتماني، تقدم الحكومة عائدًا أعلى وتستدين مرة أخرى لتسدد هذه الالتزامات.
وفق معهد الشرق الأوسط بواشنطن، تأمل الحكومة في أن استثمارات دول الخليج الصديقة الغنية بالنفط، ولا سيما الإمارات والسعودية وقطر، مقترنة بعودة “الأموال الساخنة”، وزيادة عائدات السياحة، ودخل قناة السويس، والنفط والغاز الطبيعي، وتحويلات المصريين المغتربين ستلبي احتياجاتها العاجلة في العام المقبل. “لكن هذا يشبه المشي على حبل مشدود. في النهاية، حتى صندوق النقد الدولي والعديد من المراقبين لا يستبعدون رد الفعل الاجتماعي والسياسي المحتمل إذا استمرت نفقات المعيشة لغالبية المصريين في الارتفاع”.