في مؤلف قانون العقوبات، يقول الدكتور محمود عامر أستاذ القانون الجنائي “لوحظ أن المشرع الجنائي في العصر الحديث قد أسرف في استخدام قواعد قانون العقوبات في توفير الحماية الجنائية لكثير من المصالح الأقل أهمية حتى صار الجزاء الجنائي هو الوسيلة السهلة في يد المشرع  إلى درجة أن بات نطاق “التجريم الإداري” متسعاً إلى أقصى درجة، وصار إلمام المتخصصين أنفسهم بمضمون ونطاق القواعد التجريمية في المجتمع أمرًا صعبًا، ولعل هذا هو ما دعا الكثير من الفقهاء إلى إطلاق دعوتهم الشهيرة بالحد من التجريم في المجتمع، فاللجوء إلى الحماية الجنائية لا ينبغي أن يكون إلا في حالة عدم كفاية الجزاءات التي توفرها القوانين غير العقابية أو ثبوت عدم جدواها في حماية المصالح والحقوق التي يبغى المجتمع حمايتها، وهذا هو معنى أن قانون العقوبات يتسم بالخصيصية المساعدة.

وبشكل عام فإن سياسة التجريم في القوانين الجنائية  تنصب بالأصل على الافعال المخلة بنظام الجماعة، والتي تمثل اعتداءً على مصالح جديرة بالحماية الجزائية ، حيث تتميز هذه السياسة التجريمية بطبيعتها الخاصة النابعة من طبيعة التجريم  في هذه القوانين من حيث كونه في الأعم الأغلب تجريما: (نفعيا، تحوطيا)، ومن مصادر التجريم التي تختلف عموماً عن مصادر التجريم في قانون العقوبات، فبالإضافة الى القانون الصادر من السلطة التشريعية هناك حالات معينة تتولى فيها السلطة التنفيذية صلاحية إصدار أنظمة وتعليمات( لوائح) تكون كمصدر للتجريم والعقاب في هذه القوانين، وأخير فإن خصوصية هذه السياسة في القوانين الجنائية الخاصة متأتية من معايير التجريم في هذه القوانين، إذ يتخذ المشرع الجزائي من خصوصية المصلحة المحمية جنائياً وطبيعتها التي غالبا ما تتسم بالطابع المتغير، ومن طبيعة الخطر في بعض الجرائم على المصالح التي قدر المشرع حمايتها معايير للتجريم في هذه القوانين. وقد أكدت تلك المعاني المحكمة الدستورية العليا في الحكم رقم 84 لسنة 17 قضائية دستورية بقولها: “ومن حيث إن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، غدا أصلا ثابتا كضمان ضد التحكم، فلا يؤثم القاضي أفعالا ينتقيها، ولا يقرر عقوباتها وفق اختياره، إشباعا لنزوة أو انفلاتا عن الحق والعدل وصار التأثيم بالتالي – وبعد زاول السلطة المنفردة – عائدا إلى المشرع، إذ يقرر للجرائم التي يحدثها، عقوباتها التي تناسبها، فلا يكون سريان النصوص القانونية التي تنظمها رجعيا، بل مباشرا لتحكم الأفعال التي تقع بعد العمل بالقانون التي يجرمها ويفسر هذا المبدأ بأن القيم الجوهرية التي يصدر القانون الجنائي لحمايتها، لا يمكن بلورتها إلا من خلال السلطة التشريعية التي انتخبها المواطنون لتمثيلهم، وأن تعبيرها عن إرادتهم يقتضيها أن تكون بيدها سلطة التقرير في شأن تحديد الأفعال التي يجوز تأثيمها وعقوباتها، لضمان مشروعيتها ومن ثم كان إعمال هذا المبدأ لازما لتمكين المواطنين من الاتصال بتلك القيم التي يقوم عليها بنيان مجتمعهم، بما يوحد بينهم ويكفل تماسكهم اجتماعيا، فلا يزدرونها، وإلا كان إيقاع الجزاء الجنائي عليهم لازما لردعهم”.

وهذه المعاني الفقهية والتنظيرية لا تعني فيما يخص المواطن البسيط أن تنظيم الحقوق باستخدام القواعد القانونية، وعلى الأخص القواعد الجزائية أو الجنائية لا يصح أن يكون إلا لحماية المصالح الحقيقية سواء كانت تلك المصالح تخص المواطنين أنفسهم كحماية النفس والمال والحقوق المتعلقة بالأفراد، إضافة إلى حماية الحقوق العامة والممتلكات و الأموال العامة، وكذلك حماية مجموعة الحقوق التي يجب على الدولة التدخل لحمايتها بمقتضى القواعد التشريعية، وعند تلك الحدود يجب أن يقف حيز التنظيم العقابي، أو حد التدخل باستخدام القواعد التجريمية، أما ما يزيد عن ذلك أو يفوق تلك الحدود أو يتعدى نظيم تلك الحقوق فإنه يعد من قبيل التزيد في استخدام القواعد الجنائية، وهو ما يمثل الشطط التشريعي من قبل القائمين على العمل التشريعي، إذ تتمحور الفكرة الرئيسية في تنظيم القوانين الجنائية حول معنى الموازنة بين حماية المصلحة العامة وإتاحة حريات المواطنين، حيث إن التجريم في قوامه الأصيل يُشرع من أجل صون أو حماية الأفراد والمجتمعات، وتتجسد حماية الحريات العامة من خلال تبصير الأفراد بما هو غير مشروع من الأفعال قبل الإقدام عليها، بما يضمن لهم الطمأنينة والأمن، كما يجب أن تتوجه سياسة التجريم إلى حماية المصالح الاجتماعية، والتي تقتضي حماية المجتمع والأفراد من الاعتداء عليه، وتتضمن سياسة التجريم أيضاً بيان القيم والمصالح الجديرة بالحماية باستخدام العقاب ومنع إلحاق الضرر بالجماعة أو بقيمها، وفي هذا الإطار تباشر الدولة وظيفتها الجزائية لحماية المصالح الاجتماعية، ولا تكفي مجرد رغبة السلطة في تجريم فعل بعينه والخروج به من دائرة الإباحة إلى دائرة المنع أو الحظر، بل يجب أن تكون هناك حاجة مجتمعية لوضع الفعل في دائرة المنع، ولما كانت المصالح المجتمعية متباينة ومتضاربة فيما بينها، وجب على المشرع أن يوازن بين تلك المصالح وأن تكون التضحية بواحدة منها في سبيل حماية باقية المصالح المجتمعية مُبرراً، ويجب كذلك التضحية بالمصلحة الأقل أهمية.

وهذا ما يتماشى مع الأصل العام الذي تقوم كل الفلسفات القانونية العقابية على أساس افتراض البراءة، وأن التجريم وحظر الأفعال هو الاستثناء، كما استقرت جميع التشريعات العقابية شرقا وغربا على أصل مهم يتضافر مع تلك الأصول التشريعية، وهو مبدأ عدم جواز معاقبة غير المتهم، وهو المبدأ الذى استقرت عليه معظم التشريعات الجنائية، وأقرته كذلك مجموعة من الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وقد سبقت الشريعة الإسلامية الأنظمة الوضعية بعدة قرون في تأكيدها على مبدأ شخصية العقوبة، فقد جاء النص عليها في القرآن الكريم، والذى يمثل أصل التشريع الإسلامي في قول المولى سبحانه: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»، وهو ما أُطلق عليه اصطلاحا مبدأ «شخصية العقوبة» وهو ما عبرت عنه العديد من الأحكام بقولها: الأصل في الجريمة أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين بها كمسئول عنها، وهى بعد عقوبة يجب أن تتوازن وطأتها مع طبيعة الجريمة موضوعها، مؤدى ذلك. شخصية العقوبة وشخصية المسئولية الجنائية، تلازمهما.

وإذ إن مجلس النواب المصري منذ قيام ثورة يناير قد انعقد في ثلاث نسخ مختلفة إلا أنه في جميع نسخه قد اتخذ من الاتساع في نطاق التجريم أصلاً لم يحد عنه، ولم يلفت انتباهه إلى أن الأصل في الأمور الإباحة، أم التضييق لا يكون له مبرر إلا لحماية أمر يتسق مع الأصول العامة السابق الاشارة إليها وهو ما يصب في خانة العوار التشريعي بمستوياته المختلفة، نلك التي توجب تدخل المحكمة الدستورية في معظم تلك القواعد التي تم سنها، وهو الأمر الذي يعيب المنظومة التشريعية الجنائية بشكل كامل.