تعرف الدبلوماسية ببساطة باعتبارها “أداة فن الحكم”. إنها إحدى الطرق المهمة التي تمارس بها الدول نفوذها، وتسعى إلى إبراز قوتها على المسرح الدولي. تقوم جميع الدول بذلك، وتكون مقيدة -فقط- في قدرتها على تنفيذ دبلوماسية فعالة بعدة عوامل، مثل قوتها وموقعها واتصالاتها وطموحاتها وقيادتها.
في مقاله عن عودة الدبلوماسية العربية، يشير ألبرتو فرنانديز، نائب رئيس تحرير موقع ميمري/ MEMRI. إلى أنه في الشرق الأوسط الكبير، لطالما بدا -وكان صحيحًا بشكل عام- أن الدول العربية كانت في حالة من الفوضى.
يقول: بدا العالم العربي، الذي مزقته الحرب، والتطرف، والمشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكبرى، والفساد، وضعف القيادة، في وضع غير مؤات، مقارنة بالقوى غير العربية الأكثر حزما في المنطقة: إسرائيل وتركيا وإيران. لم يتغير هذا الواقع بشكل كامل، على الرغم من أن كل من تركيا وإيران تواجهان حاليًا صعوبات كبيرة مرتبطة بطبيعة هذين النظامين.
يضيف: كل شخص في المنطقة يمارس الدبلوماسية، ولكن هذا لا يعني أنه يمكنهم القيام بذلك بشكل جيد على قدم المساواة. قد تكون المهارة الدبلوماسية موجودة، ولكن قد تكون الدولة مقيدة باعتمادها على القوى الأجنبية -أو الأموال الأجنبية- أو الصراع الداخلي أو الاعتبارات السياسية.
لكن، وفق فرنانديز، بعض البلدان في المنطقة هي حالات صعبة، مما يجعلها لاعبًا سلبيًا عندما يتعلق الأمر بالدبلوماسية. هناك دول تلعب دورها بشكل جيد – يفكر المرء في سلطنة عمان – ولكن بخلاف ذلك، فهي جهات فاعلة صغيرة على المسرح الكبير.
أمّا دول مثل مصر والأردن، فلا تزال مقيدة باعتمادها على الآخرين لاعتبارات اقتصادية أو أمنية.
كما يمكن للعراق -وهو بلد كبير مثل مصر- أن يلعب دورًا أكثر أهمية في المنطقة. ولكنه مقيد إلى حد ما بالصراعات الداخلية على السلطة، التي لم يتم حلها بالكامل بعد.
اقرأ أيضا: استراتيجية اليمين الإيطالي في إفريقيا.. تأمين الطاقة وكبح الهجرة غير الشرعية
3 ملوك وجوكر
يوضح فرنانديز أنه على مدى السنوات القليلة الماضية، شهدنا عودة ظهور الدبلوماسية العربية من قبل عدد قليل من البلدان في المنطقة، التي برزت من حيث استقلاليتها، وتأثيرها، وإرادتها الأحادية في ممارسة نفوذها، وتعزيز مصالحها.
يقول: العوامل الأربعة كلها مهمة. من وجهة نظري، تمارس ثلاث من هذه الدول هذه الدبلوماسية بشكل عام بهدف تحقيق منطقة أكثر استقرارًا وأفضل في نهاية المطاف، بينما تلعب دولة رابعة دورًا مفسدًا في تمكين بعض الاتجاهات الرجعية والأكثر تدميراً في المنطقة.
يضيف: لقد أطلقت على هذه الدول الأربع، بعدد أوراق اللعب، ثلاث “ملوك” – المغرب، والإمارات، والسعودية. وواحد “جوكر” مثير للشغب هو قطر. لقد اتخذت هذه الدول، وكلها ملكيات وراثية استبدادية، سياسات ومبادرات لأسبابها وأجنداتها الخاصة.
وأكد: بينما قد أختلف مع بعض هذه السياسات، أحيانًا بقوة، يمكنني أن أرى منطق ما يحاولون القيام به.
يوّضح: جميع الدول الأربع بالمعنى العام “مستقلة”، من حيث أنها مدفوعة بالكامل تقريبًا بالمصالح الذاتية الداخلية البحتة. وقد تمكنت من المناورة بنجاح حتى عندما تواجه ضغوطًا من قوى خارجية، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
المغرب.. بوابة أوروبا
بالفعل، تمكن المغرب، في عهد الملك محمد السادس، من تحقيق إنجازات كبيرة في تعزيز سيطرته على منطقة الصحراء الغربية، والحصول على اعتراف الغرب به، واستفاد من مجموعة من العوامل، بما في ذلك كونه “حارس البوابة” للاتحاد الأوروبي، وهي ميزة على جارتها إسبانيا وخصمها اللدود الجزائر.
وأكد فرنانديز حقيقة أن المغرب وقع في فضيحة “قطرجيت” في محاولة للتأثير على الديمقراطيين الأوروبيين هو أمر “يؤكد فقط طموحاته. هذا بلد يلعب أوراقه الدبلوماسية بشكل جيد للغاية، على الرغم من افتقاره لثروات النفط الموجودة في الدول الثلاث الأخرى”.
الإمارات.. تحركات واسعة
يلفت الكاتب إلى أنه “ربما كانت الإمارات العربية المتحدة هي اللاعب الأكثر قدرة منذ عدة سنوات في المنطقة، في الجمع بين القوة الناعمة والقوة الصلبة لتعزيز مصالحها”.
يقول: إنها لاعب في جميع أنحاء المنطقة، من ليبيا والسودان إلى اليمن إلى سوريا. أنا لست متحيزا لنظام الرئيس السوري بشار الأسد البغيض، لكن يمكن للمرء أن يفهم منطق الإمارات الذي يسعى لإعادة نظام دمشق إلى الحظيرة العربية، من أجل إضعاف طموحات إيران. ما إذا كان هذا يمكن أن ينجح بالفعل هو سؤال آخر، ولكن لا يمكن للمرء سوى احترام اتساع طموحهم.
يضيف: لقد عملت الإمارات بجد ونجاح لتضع نفسها خارج منطقة الشرق الأوسط كصوت للتسامح الديني. وهو ما بدا في “بيت العائلة الإبراهيمية”، الذي خرج من وثيقة الأخوة الإنسانية لعام 2019 الموقعة في أبو ظبي. وكذلك جهود استضافة محادثات تغير المناخ COP28 في وقت لاحق من هذا العام.
اقرأ أيضا: “نيوم السعودية”| حلم اقتصادي تشوبه انتهاكات حقوقية
السعودية.. بروز الأمير
أمّا المملكة العربية السعودية، التي كانت لفترة طويلة ذات أداء ضعيف، وقد أنفقت الكثير في الماضي، ولم يكن لديها الكثير لتظهره من الناحية التاريخية. ربما جاء أكبر تغيير في دبلوماسيتها الفعالة تحت قيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. الذي سخر منه الغرب كثيرًا وتم التقليل من شأنه أيضًا.
يقول فرنانديز: يبدو أن السعوديين قد استقروا في إيقاع فعال يمهد الخطوات نحو الإصلاح الداخلي، وإعادة العلامة التجارية والتسويق، والدبلوماسية الحقيقية. مثل اتفاقية أمنية شاملة بين السعودية والعراق.
يؤكد: مرة أخرى، قد لا ينجح الجهد المبذول لفطم العراق -المهم استراتيجيا- بعيدا عن الوصاية الإيرانية. لكن محاولة القيام بذلك هي سياسة ذكية.
ولفت إلى أن تعهد الرياض في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي الأخير بإنهاء المساعدات الخارجية “غير المشروطة”، التي غالبًا ما كانت تُهدر أو تأتي بنتائج عكسية قد فات موعدها “من المؤكد أنها كانت رسالة يجب سماعها في أماكن مثل رام الله وبيروت، الثقوب السوداء التقليدية للمال السعودي”.
كما أظهر السعوديون في عام 2022 خبراتهم الدبلوماسية والإعلامية القوية، أثناء زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للملكة العربية السعودية، وفي وجود الرئيس التركي رجب أردوغان أيضًا. الذي وضع يده في يد الرياض بعد سنوات من الاستفزازات التركية ضد المملكة. وأيضا، ضد الإمارات ومصر.
وأكد فرنانديز أن “الأمريكيين هم من اضطروا إلى التخفيف من حدة سياساتهم وتكييفها مع السعودية وليس العكس. حيث تعامل كل من السعوديين والإماراتيين بشكل جيد مع التوتر الذي تنطوي عليه الحرب الروسية- الأوكرانية، وهواجس أمريكا في هذا الصراع، وليس حرق جسورهم مع أي شخص.
قطر.. سيطرة الإسلام السياسي
في هذه البلدان الثلاثة، كان النهج الجديد تجاه إسرائيل جزءًا من سياسة خارجية مستقلة وحازمة. لقد تحركت الإمارات بحماس وانفتاح، والمغرب تدريجياً في هذا الاتجاه. بينما كانت السعودية أكثر حذرا، ومن المرجح أن تستمر على هذا النحو، حيث أن الاتجاه نحو علاقات أفضل -في الوقت الحالي منفصلة وغير مباشرة- مع إسرائيل واضح أيضًا.
أما قطر، البطاقة الأساسية في المجموعة “فقد نجحت أيضًا في دبلوماسيتها على حساب السلام والاستقرار في المنطقة”، كما يقول فرنانديز.
يوضح: تمثلت أولوياتهم في تمكين حركة طالبان والجماعات الإسلامية السياسية والإرهابية، في مواجهة أردوغان وإيران. وفي الوقت نفسه، إيجاد طرق تبدو مفيدة للغرب، بطريقة تعمل في الوقت نفسه كرجل إطفاء.
ويؤكد أن هنا، ليس الدافع وراء قطر هو المصلحة الوطنية “بقدر ما هو دافع أيديولوجي مهيمن -الإسلام السياسي- الذي يميزها عن الدول الثلاث الأخرى في كل من رؤيتها العالمية، وأجندتها، وفي الطبيعة المدمرة والمزعزعة للاستقرار لسياساتها”.
ويلفت أيضا إلى أن قطر هي الأقدم -إلى حد ما- عندما يتعلق الأمر بسياساتها الخارجية. حيث يعود دعمها المتوقع للإسلاموية إلى عقود من الزمن. وقد استخدم السعوديون والإماراتيون الطريق نفسه، قبل أن يغيروا مساراتهم بشكل جذري -وهو دعم بعض المتطرفين الذين لا يزال القطريون يحتضنونهم- وهم مستمرون في فعل ما فعلوه من قبل.