مرت العلاقة بين دول إفريقيا والقاهرة بمحطات حكمتها ظروف سياسة عدة، وشكلت الواقع الحالي. وفى ورقة سياسات جديدة بعنوان “كيف يرانا الأفارقة؟”، الصادرة عن “مصر 360″، يرصد الباحث محمد عبد الكريم مرتكزات رؤية الأفارقة لمصر، ورؤية القاهرة للقضايا الإفريقية.

يركز عبد الكريم، المختص فى الشأن الإفريقي، على نموذج السودان كحالة يمكن من خلالها رؤية دولة إفريقية للقاهرة.  ذلك فى ضوء المواقف المتباينة للقوى السودانية، لا سيما بعد ثورة ديسمبر/ كانون الأول 2018، والتي كانت -حسب الورقة- محطة لإعادة تشكل مواقف السودانيين من مصر.

فى ورقة سياسات جديدة صادرة عن “مصر 360” يرصد الباحث محمد عبد الكريم مرتكزات رؤية الأفارقة لمصر ورؤية القاهرة لقضايا إفريقية

تتبع الورقة مرتكزات “الفعل المصري”، وكذلك “الاستجابة الإفريقية لتحركات القاهرة بعد 2014 والتى شهدت نشاطا دبلوماسيا ملحوظا، ودعما بمشروعات اقتصادية”.

وفى الورقة، يستعرض عبد الكريم مواضع خلل فى الرؤية المتبادلة بين القاهرة والأفارقة. ويشير في السياق إلى أوجه منها. حيث النظر للقارة بالغة التنوع ككتلة “سياسية وحضارية” واحدة يتوقع لها أداء محدد.

اقرأ أيضا: “دام” يصدر ورقة بحثية جديدة.. مسار استراتيجية حقوق الإنسان بين الرؤيتين الرسمية والحقوقية

هذا بجانب عدم إدراك لافت لتطور ارتباطات دول القارة بالفاعلين الدوليين والإقليميين، ويقيم الباحث تدخلات مصرية فى بعض الأزمات التي شهدتها القارة.

للاطلاع على الورقة كاملة:

الرؤيتان

تتعدد الصور الذهنية لمصر، منها نظرة مثالية، كدولة رائدة في دعم حركات التحرر الوطنية الإفريقية وقيادة العمل الوحدوي الإفريقي وسياسات “عدم الانحياز” وصورة أخري تقارن مصر “الناصرية” بالأداء الحالي.

حسب الورقة، حظيت مسألة الفهم الإفريقي المصري المتبادل بقدر كبير من الاهتمام– مِصْرِيًّا- مع تولي الرئيس عبد الفتاح السياسي رئاسة الاتحاد الإفريقي مطلع العام 2019 دُعمت بنشاط دبلوماسي ملحوظ. هذا بجانب مظاهر اهتمام في وسائل الإعلام بقضايا إفريقيا، و انسحبت على مجمل العمل السياسي والأكاديمي والبحثي.

لكن ذلك الاهتمام، حسب عبد الكريم، لم يسهم في وضع “استراتيجية” واضحة المعالم تجاه القارة وقضاياها، وتم التركيز -بشكل كبير- على الدور الإعلامي وتعميق رؤى نمطية، وأحيانًا شكلت خصمًا من أوراق صانع القرار في بعض الملفات.

كما أن كثيرا من المقاربات كانت أقرب إلى للاستجابات اللحظية. كما في مسألتي عضوية إسرائيل في الاتحاد الإفريقي، والمرحلة الانتقالية في السودان.

هذا، بجانب خفوت صوت القاهرة في العديد من الأزمات الخطيرة، إما لاعتبارات الحساسيات السياسية أو لغياب رؤية دقيقة للمشهد.

ويرتبط هذا الأداء المصري إفْرِيقيّا وانحصاره في دوائر ضيقة، بطبيعة التغيرات في القارة والتدخلات الإقليمية والدولية وعجز عن إدارة الارتباطات الإقليمية للقاهرة.

صورة مصر لديهم

تحاول الورقة فهم وعرض صورة مصر في المخيلة الإفريقية، وهي تقع بين تصور تاريخي تقليدي يضع مصر مرجعًا حَضَارِيًّا، ومصدرا لدعم حركات التحرر الوطني وقائدة للعمل الإفريقي الوحدوي؛ وأخرى تتمثل في رؤية معاصرة لمصر بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011.  تتأرجح بين رغبة في عودة دور مصري “مفقود” و “عتاب” إفريقي على هذا الدور.

ترصد الورقة، ملامح صورة مصر كقوة سلام واستقرار في القارة الإفريقية، وامتلاك علاقات متوازنة وودية مع أغلب دول القارة. ويتضح ذلك في إسهام القاهرة في ملفات حفظ السلام ودعم قوات الأمن الإفريقية في مواجهة الأنشطة الإرهابية.

وفي مقابل هذه النزعة المؤسساتية، تفتقر مصر لهوية أيديولوجية واضحة لدى أغلب الأفارقة. كما تزداد صورة سلبية عن مصر في الدول العربية الإفريقية بعدم التدخل “المناسب في الصومال الذي طالما اشتكت نخبه منذ سنوات من هامشية الدور المصري وعدم التدخل الفعال لاعتبارات الارتباطات الإقليمية أو لعجز في اختراق الترتيبات البينية في القرن الإفريقي. غير ما يشاع عن التدخل “المتحيز” -كما في الحالة الليبية- بوقوف القاهرة في صف “شرق ليبيا” رغم الخطاب الدبلوماسي الشمولي والذي لم يسفر في النهاية عن قناعات راسخة على الأرض بين كافة مكونات الأزمة الليبية.

تحاول الورقة فهم وعرض صورة مصر في المخيلة الإفريقية، وهي تقع بين تصور تاريخي تقليدي يضع مصر مرجعًا حَضَارِيًّا
تحاول الورقة فهم وعرض صورة مصر في المخيلة الإفريقية، وهي تقع بين تصور تاريخي تقليدي يضع مصر مرجعًا حَضَارِيًّا

اقرأ أيضا: ورقة سياسات| رأس المال الخليجي في شرق إفريقيا وتأثيره “الضار” على مصر

مصادر الصورة عن مصر

وبين مصادر الصورة الذهنية لمصر لدى إفريقيا، تبرز   عوامل منها سياسات مصر الخارجية في الشأن الإفريقي: وهو أداء قوي نسبيًا وفق معطيات الأمر الواقع، وانخراط مباشر وقوي في دول الجوار وإقليم الساحل عبر المشاركة في عمليات حفظ السلام وتنسيق السياسات الأمنية. اضافة إلى علاقات اقتصادية آخذة في التصاعد، كما في حالة زامبيا وتنزانيا.

وتعتبر أدوات القوة الناعمة مرتكزا أساسيا، ومنها أدوار المؤسسات الدينية، الكنيسة القبطية والأزهر، ومنافذ الإعلام.

كما تمثل الدبلوماسية الشعبية people-to-people diplomacy: مساحة وجود، خصوصا بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011. وإن ظل بشكل أولي للغاية، ولم يتطور إلى سمة “مؤسساتية” ناجعة، كما أن بعض تجلياته الأخيرة المحدودة (كما في السودان) لم تحظ بمقبولية مشجعة لارتهانها بمواقف سياسية مسبقة.

إضافة إلى ذلك، تعد المساعدات والشراكات الاقتصادية أكثر وضوحًا من حيث الدور، وبتأسيس “الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية” EAPD في العام 2014 وهي تقدم المعونات والمساعدات، وإيفاد الخبراء، وبناء القدرات.

حالة السودان

لا يمكن القطع بمدى تأثير صورة مصر الذهنية في إفريقيا على حجم النفوذ المصري ومصالح مصر في القارة إلا في حدود نماذج معدودة، بينها حالة السودان. حيث تبرز المسألة السودانية وتجلياتها بشكل واضح، كما تكشف مقاربة مصر في هذا الملف عن جوهر معضلة تآكل الحدود بين المقاربة المؤسساتية والتناول الأمني.

ويلاحظ أن الرؤية السودانية “الشعبية” لهذا الموقف تبدي عدة ملاحظات مبدئية أبرزها عدم إدراك القاهرة لرؤى الأجيال الشابة في السودان وما نشأت عليه تَعْلِيمِيًّا وَحَرَكِيًّا من تبرم إزاء ما تراه ممثلًا لأفكار “الأخ الكبير” أو “الشقيقة الكبرى” مقابل جنوح لقبول أكبر لدور إثيوبي لاعتبارات مختلفة.

كما تتجاهل مصر تعدد الأصوات السودانية التي ترى أن لبلادها الحق في اختيارات، وأن القاهرة لم تتبن بالأساس موقفًا داعمًا لحراك ثورة ديسمبر/ كانون الأول، ضد عمر البشير.

الاستخفاف بقوى الثورة السودانية

وكان ملموسًا منذ فترة “ما قبل سقوط البشير” أن دوائر دعم صنع القرار تنظر بعين الاستخفاف الشديد إزاء قوى الثورة السودانية والحركات الشبابية الصاعدة.

وظهر ربط غير مفهوم بين هذه القوى وقوى ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، أو حتى عدد من فصائل ثورة 30 يونيو/ حزيران، من حيث طبيعة التكوين والأداء وآفاق نجاحها.

لذا، لم يكن مباغتًا للمتابع للشأن السوداني تخبط القاهرة في إدارة علاقاتها مع أهم دولة إفريقية تتشابك عُضْوِيًّا مع تصورات الأمن القومي المصري. وتعمق الرؤية السودانية “المدنية” لمصر كقوة مناهضة للثورة السودانية، مقابل رؤية بالغة التعاطف مع إثيوبيا.

كما بدا مثيرًا للدهشة نظر المكون المدني “للتجربة الإثيوبية” على أنها تجربة ديمقراطية جديرة بأن تكون مثالًا للمسار الديمقراطي السوداني.

وهناك نظرة أخرى لمصر، حيث تمثل تراجعا عن التحول الديمقراطي إثر “الربيع العربي”، ومنبع الدهشة- على الأقل هنا- هو طبيعة التجربة الإثيوبية وصعود آبي أحمد لرئاسة الوزراء بقرارات نخبوية ودعم خارجي وليس نتاج لتجربة ديمقراطية تقليدية حتى في حدها الأدنى.

الحاجة للتقارب مع القوى المدنية السودانية

لكن بغض النظر عن دوافع “المكون المدني” في التخوف من أي تدخل للقاهرة فإن الأخيرة اكتفت بخطوات مبتسرة وغير متدرجة لتعزيز أي تقارب “مؤسساتي” مع المكون المدني، حتى مع القوى ذات الخبرة التاريخية في العلاقة مع مصر مثل أحزاب الأمة والاتحادي والتيار العروبي وغيرهم.

واكتفت القاهرة في واقع الأمر- وفق الشواهد الحاضرة- على تبني رؤى متضاربة وانساقت وراء تصورات ربما عفا عليها الزمن في إدارة العلاقات مع السودان وفاقم من هذه التأثيرات السلبية وجود تربص مفهوم من قبل كثير من مكونات الحراك المدني إزاء أي تحرك من قبل القاهرة.

جاءت “ورشة القاهرة” (فبراير/ شباط 2023) التي حضرتها مكونات سودانية لإقناع الأطراف الممانعة للتوقيع على “الاتفاق السياسي الإطاري”

اقرأ أيضا: ورقة سياسات| الوساطة القطرية.. من أفغانستان إلى القارة الإفريقية

انحسار دور القاهرة في المرحلة الانتقالية

جاءت “ورشة القاهرة” (فبراير/ شباط 2023) التي حضرتها مكونات سودانية، لإقناع الأطراف الممانعة للتوقيع على “الاتفاق السياسي الإطاري” للحوار في القاهرة. ومع الاعتراف بأهمية “الورشة” وما أكده مشاركون سودانيون من عدم تدخل القاهرة. لكنها تكشف عن طبيعة الجهود المصرية، التي تتسم بشكل عام بالتأخر الواضح في ملاحقة المتغيرات على الأرض.

وتدل الورشة على انقطاع القدرة على التواصل الحقيقي والفعال مع القوى الشابة وتفهم تطلعاتها أو الرد على تخوفاتها. يضاف إلى ذلك تجاهل القاهرة بشكل كبير طبيعة التحولات الجارية بين الشباب والنخب، وربما تمثل الرؤية التقليدية التي يقوم عليها عدد من “الحرس القديم” في السياسات الإفريقية عائقًا أمام حدوث اختراق حقيقي وتقارب أكبر مع السودان.

كيف تعاملت مصر مع الصورة الذهنية؟

مثلت رئاسة السيسي للاتحاد الإفريقي نقطة انطلاق محتملة لصياغة استراتيجية مصرية، أو برنامج عمل أسوة بالعديد من القوى الإقليمية والدولية.

كما   لم تنجح دوائر مؤسساتية في وضع تصور واضح، أو معلن لسياسة مصر الإفريقية وما كان ينتظر من تغيير ملائم في دينامياتها وأدواتها.

وكان للنشاط الدبلوماسي الإفريقي للرئيس السيسي منذ زيارته للجزائر في يونيو/ حزيران 2014 دورا ملحوظا في تعزيز الصورة الذهنية لمصر الرسمية بين دول القارة الإفريقية، هذا بجانب زيارات مكثفة لقادة أفارقة للقاهرة استمرت منذ هذا التاريخ.

وسعت هذه الدبلوماسية بالأساس إلى استعادة صورة مصر الذهنية كواحدة من أهم محركات العمل الإفريقي الثنائي والجماعي، مع ملاحظة التركيز على ملفي مواجهة الإرهاب وتكوين قوة إفريقية مشتركة للتدخل في الأزمات والصراعات، مع لعب أدوار أكبر في تطوير البنى التحتية الإفريقية.

استثمارات مصرية فى القارة

حسب إحصاءات وزارة الاستثمار المصرية فإن إجمالي الاستثمارات في القارة في العام 2022 وصلت إلى 10.2 بليونات دولار مقارنة بنحو 9 بليونات دولار في العام 2021 ويتوقع أن يرتفع الرقم بقوة حال التطبيق الكامل لمنطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية وهو مسار تدفع به القاهرة بقوة كبيرة وملحوظة وتعول عليه كثيرًا في المستقبل القريب لتعزيز روابطها بمختلف دول القارة.

وهكذا تركزت جهود مصر في مجال تعزيز صورتها الذهنية في إفريقيا في المجال الدبلوماسي والاستثمارات المباشرة في قطاعات مؤثرة اِجْتِمَاعِيًّا مثل الطاقة والزراعة إلى جانب التعاون الأمني الذي قطعت فيه أشواطًا بعيدة في دوائر حوض النيل والساحل الإفريقي وغرب إفريقيا.

بينما شهدت الجهود الثقافية والاجتماعية ركودًا ملحوظًا رغم أهميتها (وسرعة تأثيرها) في تعميق تعزيز صورة مصر الذهنية وسط المجتمعات والشعوب الإفريقية.

كيف يمكن تطوير صورة مصر؟

يحتاج تطوير صورة مصر إلى خطوات ضرورية، من ضمنها وضع برنامج مبدئي “نحو تطوير صورة مصر في إفريقيا” مع منح هذه العملية فضاءات سياسية وفكرية أرحب، وعدم فرض وصاية مسبقة من قبل مؤسسات أو أفراد على تفاعلات العملية ومخرجاتها.

وثانيا، تمكين الفاعلين من القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية والتنموية وغيرها من ابتكار أدوات وبرامج تستهدف تطوير صورة مصر في إفريقيا.

ثالثا، تعزيز التقارب الحقيقي والعملي مع الشباب الإفريقي ليس من بوابة التلقين أو التفاعل “المؤطر” في فعاليات محددة ووفق أجندات غير مرنة؛ ولكن ثمة حاجة ضرورية لتفهم المتغيرات الهائلة التي طرأت على “نخب الشباب الإفريقي” في الأعوام الأخيرة سواء داخل مجتمعاتها المحلية أو في ارتباطاتها بمجتمعات أخرى

رابعا، تعزيز حرية العمل الأكاديمي والبحثي المعنى بالشئون الإفريقية وتوفير ضمانات ودعم كاف لاستكشاف قضايا وملفات إفريقية- مصرية مشتركة برؤى نقدية متنوعة يمكن أن تسهم في منح عملية صنع القرار مدخلات متباينة وتطرح ربما في مرحلة أكثر تعقيد حلولًا واقعية لصاحب القرار في مقاربة هذه المسائل.

واجمالا، ثمة حاجة ملحة لاستكشاف حقيقة الرؤية الإفريقية لمصر، وعلى نحو واقعي تمامًا، والفصل الدقيق بين الرؤية التقليدية المثالية لتي يمكن توظيفها والبناء عليها في مسارات أكثر تطورًا بعد إعادة دراستها بشكل مكثف ووالتغيرات اللاحقة وتفهم طبيعة هذه التغيرات وأثرها على رؤية القارة لمصر.

وتحتاج جهود تفهم الرؤية الإفريقية لمصر وتطويرها والاستجابة لأسئلتها المستمرة إلى انفتاح سياسي وفكري كبير على دول القارة وملاحقة تحولاتها السريعة.