السؤال الذي نحاول الإجابة عنه في هذا المقال كمقدمة لملف أو مشروع بحثي هو: هل تشهد مصر أزمة قيادات ضمن ما تشهده من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية؟ وإذا كانت تلك الإجابة هي نعم فما أسباب هذه الأزمة بالذات ضمن بقية أزماتنا الكثيرة؟ وهل من الممكن أن توجد لها حلول في المستقبل القريب؟ على أن يكون مفهوما أننا نتحدث عن كل أنماط القيادات وليس القيادات السياسية فقط، وأننا نتحدث عن مختلف المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمهنية والاجتماعية على وجه العموم، الرسمي منها وغير الرسمي أو الأهلي، وعلى أن يكون مفهوما أيضا أن الحديث لا يقتصر على بضع السنوات الأخيرة التي توالت فيها المشكلات المستعصية تمسك برقاب بعضها البعض على الوطن والمجتمع المصريين .

الأزمة واضحة، ومظاهرها متعددة، فمثلا كان ولايزال من المآخذ الرئيسية على ثورة يناير 2011 أنها افتقرت إلى القيادة، ليس بمعنى الرمز أو الرموز ولكن بمعنى القيادة التنظيمية، وأن ذلك كان من أهم أسباب إخفاقها، وكمثال آخر ففي كل دورة انتخابات رئاسية -منذ إقرار الانتخابات الرئاسية التعددية عام 2005- تتكرر أزمة البحث عن مرشح مؤهل لمنافسة حقيقية مع الرئيس الذي يشغل المنصب .

واللافت أن مثل هذا يحدث في الانتخابات البرلمانية بما أنها تهندس أو تُخرج للإتيان بأعضاء مستسلمين مقدما، ولكن وسط صراعات بين المصالح والأجهزة والعائلات، كما أنه يحدث في انتخابات النقابات المهنية والعمالية، بل وفي أحزاب المعارضة، التي يؤدي تهميشها وتشويهها والتدخلات الأمنية فيها وضدها إلى اليقين بعدم قدرتها على صنع الفارق، وهو يقين يترسخ ليس فقط لدى المواطن العادي، ولكن أيضا لدى أعضاء وقيادات هذه الأحزاب، فتتضاءل عضوياتها، وتتفجر الصراعات داخلها، أو تصاب باليأس، مما يفقدها في نهاية المطاف القدرة على اجتذاب الكوادر المؤهلة والشخصيات الواعدة، كذلك تتكرر المأساة في انتخابات النوادي الرياضية، والمؤسسات التعاونية، والجمعيات الأهلية نزولا إلى اتحادات ملاك المساكن! بما أن ثقافة وتقاليد العمل الجماعي قد غابت أو غيبت طويلا، بل الأدهى أن الأزمة تظهر أيضا في ترشيحات المناصب التنفيذية، ولا يُستثنى من ذلك منصب رئيس الوزراء والوزراء، فما بالنا بالمحافظين ورؤساء المدن والأحياء، ومديري المصالح ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات إلخ، ويمتد هذا الخواء أيضا ليشمل المؤسسات الدينية، كلما خلا مثلا منصب شيخ الأزهر، أو بابا الأرثوذكس.

إذن فإن وجود أزمة قيادات في مصر ثابت ثبوتا قطعيا، ولسنا في حاجة إلى ذكر مزيد من مظاهرها، ولكننا نحتاج إلى فهم أسبابها، وبحث إمكانية التغلب على هذه الأسباب، لإيجاد الحلول، أو على الأقل السير في الطرق المؤدية في نهاية المطاف إلى هذه الحلول .

مبدئيا ليس من المتصور ولا من المقبول القول أن بلدا في حجم مصر، وفي خصب تطورها الحديث عقمت أو تعقم عن إنتاج قادة في شتي مجالات حياتها، خاصة أن التاريخ المصري القريب حفل بنماذج مبهرة من قادة السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة والعمل الأهلي وغيرها، من الميادين، ليس فقط في النصف الأول من القرن العشرين، كما يعتقد بحق وعلى نطاق واسع، فإن كانت هذه الفترة هي الأغزر في إنبات تلك النماذج، فمن ينكر الدور القيادي لرفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده وعلى مبارك وشريف باشا ورجال الثورة العرابية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؟، ومن ينكر أدوار عزيز صدقي في الصناعة، وصدقي سليمان في السد العالي، والنبوي المهندس في الصحة، وثروت عكاشة في الثقافة، ويحيى الرفاعي في القضاء، وممتاز نصار ومحمود القاضي في البرلمان، ومحمود أمين العالم ولويس عوض في الثقافة والفكر السياسي، بل والشيخ الشعراوي والبابا شنودة، كنماذج للشخصيات القيادية، كل في مجاله، وفي الحياة العامة، في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف .

وفي هذه الحقبة نفسها كانت الحركة الطلابية رافدا متدفقا سريع الجريان لإمداد المجتمع المصري وحياته السياسية والفكرية بعشرات -إن لم يكن مئات القيادات الشابة والواعدة- تقريبا في كل الجامعات، ورغم صعوبة حصر الأسماء والأدوار فمن ينسى أحمد عبد الله رزة ومحمد السيد سعيد وحمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان، وقبلهم عاطف الشاطر بل وعبد الحميد حسن؟ وهنا نكرر عبارة كل في سياقه وحسب اختياراته الفكرية بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف، وهو ما ينطبق أيضا على الحراك السياسي السابق لثورة يناير، والذي أفرز تيار استقلال القضاء، وقيادات حركة كفاية، وحركة استقلال الجامعات، وحركة 6 إبريل، والحركات الحقوقية، وحركة النقابات الحرة، ومنظمي الإضرابات العمالية والفئوية، ويفترض أن أسماء أعلام أو قيادات هذه الفترة لاتزال حية في الذاكرة الجمعية، من زكريا عبد العزيز، ومحمد البرادعي إلى محمد أبو الغار إلى جورج إسحق وعبد الجليل مصطفى، وغيرهم، فضلا عن الشباب، وخاصة الدور البارز للسيدات والفتيات، وهو ما كان أيضا من إيجابيات الحركة الطلابية في سبعينيات القرن الماضي، وللمرة الثالثة أقول بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع بعضهم، بما أننا نتحدث فقط عن ظاهرة الشخصيات القيادية، أو بمعني أكثر دقة نتحدث عن قدرة المجتمع المصري المؤكدة على إنتاج ذلك النمط من الشخصيات، ليس فقط في مناخ الحرية السياسية المفتوح، كما كان الحال في النصف الأول من القرن العشرين، ولكن حتى في ظروف أقل انفتاحا بدرجات متفاوتة، وإن كان تقييد حركة المجتمع بأي درجة خارج الدستور والقانون ليس مقبولا تحت أي عذر، ومن حيث المبدأ .

إذن فإن أزمة القيادة بمفهومها الشامل في مجتمعنا الحالى، وكما رصدنا مظاهرها في بداية المقال، ليست هي الوضع الطبيعي، فضلا عن تكون الوضع الأمثل، وإنما هي حالة استثنائية، مؤقتة، مهما يمتد وقتها، فماهي الأسباب؟

لا جدال في أن السبب الأهم والأعم هو طبيعة النظام السياسي الذي أقامه ضباط يوليو 1952 فهو نظام سلطوي شمولي معبأ حول شخص رئيس الجمهورية، بالنص الدستوري، وبالعرف فوق الدستوري، وبالتقاليد المستمدة من المؤسسة العسكرية، ومن ثم فإن عملية صنع السياسة واتخاذ القرار فيه تقوم على فلسفة الدوائر الضيقة، والأوامر والتوجيهات من أعلى، وانعدام المراجعة والمساءلة من أسفل، ولو في الهامش الضيق المسموح به دستوريا للبرلمان، ومن ثم فلا فرصة حقيقية لأدوار وسيطة مستقلة أو شبه مستقلة، حتى على مستوى المحليات بما أن المسئولين التنفيذيين يملكون كل السلطات المحدودة أصلا، في مواجهة المجالس المنتخبة (وهي غير موجودة أصلا الآن)، فإذا أضفنا إلى ذلك القضاء المبرم على التنظيمات الأهلية أو تدجينها، بدءا من الأحزاب السياسية فالنقابات المهنية والعمالية والاتحادات الصناعية والتجارية، وصولا إلى الجمعيات الأهلية (حتى جمعية الرفق بالحيوان كما اعتدت أن أتندر)، ثم الجمعيات العلمية والتعاونية والخيرية، بل والتحكم في البحث الأكاديمي في الجامعات، وفي الصحف ووسائل الإعلام، فالنتيجة الحتمية هي انكماش ديناميات ومساحات اكتشاف وتخريج وتدريب وبروز القيادات، وتأثيرها في محيطها إلى أدنى حد، وأحيانا انعدام هذه المساحات وتلك الديناميات بالكامل، بحيث تتحول هذه الجهات إلى مجرد مؤسسات بيروقراطية عقيمة شكلا وموضوعا .

ثم إن آليات ومعايير الاختيار في هذا النوع من النظم تتحدد وفق أولويات السلطة نفسها، فتصبح أجهزة بعينها هي المسئولة وحدها عن البحث والترشيح، وتنحصر المعايير في الولاء أو مهارة وانتهازية الاقتراب، ومن النادر أن تتطابق هذه المعايير مع الكفاية المهنية، والشخصية السوية، وكل هذا اختصرته أدبيات تلك النظم في العبارة أو المفاضلة الشهيرة بين “أهل الثقة وأهل الخبرة” فتكون الخلاصة هي أن تضيق دوائر الاختبارا، وأن تتوقف عمليات التفاعل والجدل الاجتماعي والسياسي التي تتخلق خلالها كوادر الثقة والخبرة معا، تلك التي نسميها بالقيادات .

 

قلنا قبل قليل إنه حدث في ظل هذا التضييق أن ظهرت قيادات وكوادر لفتت الأنظار، ودللنا بذلك على قدرة المجتمع المصري على أن يخّرج قيادات جديرة بالاحترام، فهل يوجد هنا تناقض بين هذا القول وبين ما ورد في الفقرتين السابقتين؟

لا تناقض في رؤيتنا، فقد كانت الأسباب التي تسمح بظهور مستويات معقولة من الكوادر والقيادات تفرض نفسها أحيانا كثيرة، مثل حاجة السلطة إلى ظهير سياسي شعبي في المرحلة الناصرية، وكذلك حاجتها إلى كوادر فنية وسياسية مؤهلة لإنجاز برامج تنموية مثل السد العالي والتصنيع، واجتماعية مثل الإصلاح الزراعي، أو ثقافية تعبوية، إلخ وكما احتاج أنور السادات إلى قيادات يمينية للانقلاب على الناصرية، وتحجيم اليسار، ولا جدال في أن حاجة حسني مبارك لتمرير مشروع التوريث أتاحت الفرصة لظهور كوادر وقيادات على مقاس المشروع، مما أدى إلى ظهور قيادات مناهضة على مستوى الحركة الشعبية، بل ومن داخل مؤسسات الدولة .

 

من المهم عند هذه النقطة أن نبادر إلى التنبيه إلى أننا نرصد ونحلل فقط، بما يعني أنه ليس على القارئ أن يستنتج خطأ أننا ندافع عن شيء مما سبق، فهي كلها أعراض متفاوتة في درجة حدتها لمرض السلطوية، ولكن يبقى كما تقول الحكمة القديمة أن بعض الشر أهون من بعضه، فمما لاشك فيه أن أول وأهم وأدوم الدروس التي استخلصتها السلطوية الجديدة من ثورة يناير 2011 هو الكفران المبين بكل تلك الأسباب التي رأينا توا أنها فرضت أو تفرض (أحيانا) السماح بظهور قيادات وكوادر تتطور إلى قيادات، بل وإبطال مفعولها، فلا ظهير سياسي للنظام، ولتكن البرامج التنموية والاجتماعية بالأمر المباشر وتحت الإشراف المباشر، ولا حاجة للفنيين لأننا لانحتاج دراسات جدوى، بل يصدر التفكير والتخطيط والمتابعة من مكان واحد، ولا يمين ضد يسار أو يسار ضد يمين، ولا وسط ضدهما، ولكن الجميع مرفوضون، بما أن النظام لا يؤمن أصلًا بالسياسة، بل يتبرأ منها بوصفها وصمة! ومن يحاول البحث عن مكان أو دور فالإدارة الأمنية جاهزة للعصف والوأد، ويسري ذلك على الأحزاب، كما يسري على الجمعيات الأهلية، بل وعلى الأفراد، فضلا بالطبع عن الطلاب والنقابات إلخ، فلا ندوات ولا مناظرات، ولا مؤتمرات جماهيرية، لافي العاصمة ولا في الأقاليم، وأخيرا وليس آخرا تمتد الملاحقة إلى العالم الافتراضي، وشبكات التواصل الاجتماعي .

…………………

لقد كانت الدوائر إذن تضيق وتتسع حسب الأحوال في الأطوار السابقة من نظام يوليو 1952، فتتفلت منها قيادات وأفكار وتيارات في السياسة وفي الاقتصاد والثقافة والفن، والعمل الاجتماعي، ولكن كل الدوائر طمست الآن بالكامل، عن وعي وعن قصد، لذا لا أرى داعيا للتساؤل حول تصورات حل هذه الأزمة حاليا، بما أن ذلك لن يكون أكثر من سفسطة نظرية، ومع ذلك فإن ذلك التشخيص السابق للأعراض، وذلك التقصي للأسباب يقولان لنا ماهو العلاج، وأين يوجد الحل، لمن يريد الحل، ولمن يريد الفهم .