عادة ما تحتاج الأعمال الكبرى لقراءات متعددة، وإعادة قراءات في حالات تاريخية ووجدانية مختلفة. هكذا تكتسب تلك الأعمال أهميتها من هذا التكنيك البسيط في القراءة وإعادة القراءة. وخاصة في ضوء التجارب التاريخية وتطورات الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وفي ضوء التراكمات الفنية- الجمالية للأدب نفسه. في هذا السياق تكتسب “إعادة قراءة” رواية “دكتور جيفاجو” أهمية كبيرة بعد الحرب الروسية الجورجية في أغسطس 2008، ومع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثاني.

من المعروف أن الشاعر بوريس باسترناك (1890-1960) كتب روايته “دكتور جيفاجو” نثرا في 505 صفحات (الطبعة الروسية عام 1988). وجاء الجزء الأخير منها “السابع عشر” شعرا. واستغرقت كتابتها حوالي عشر سنوات كاملة (1945-1955). وعندما رفضت السلطة السوفييتية في عهد نيكيتا خوروشوف نشر الرواية، استطاع المؤلف أن يرسل بنسخة مهربة إلى إيطاليا. وهناك صدرت طبعتها الأولى عام 1956، ثم رشح باسترناك بعدها مباشرة لجائزة نوبل، وحصل عليها عام 1958. وظلت الرواية ممنوعة في الاتحاد السوفييتي حتى مجيء ميخائيل جورباتشوف بسياستي “بيريسترويكا”” و”جلاسنوست”- إعادة البناء والعلانية- فطبعت رسميا عام 1988 وتم تداولها ضمن موجة “الأدب السري” التي عمت الاتحاد السوفييتي آنذاك.

رواية “دكتور جيفاجو” (بتعطيش الجيم الأولى ونطق الجيم الثانية كما تنطق الجيم المصرية) تدور عن الحرب الأهلية الروسية (1918- 1922). والغريب أن غالبية الذين فازوا بجوائز نوبل في الأدب، كانت غالبية أعمالهم تتناول الحروب الروسية أو نتائجها وتجلياتها التاريخية والاجتماعية ومغامرات النخب الحاكمة وسردياتها حول تلك الحروب وتبريراتها كميات الدم المراقة والفساد والتعسف والاستهتار بحياة الإنسان الفرد مقابل تحقيق الشعارات الكبرى والأفكار القومية المتطرفة وتحقيق مصالح نخب بعينها، بداية من أعمال إيفان بونين وانتهاء بشعر يوسف برودسكي، مرورا بأعمال باسترناك الشعرية والسردية وأعمال ميخائيل شولوخوف وألكسندر سولجينيتسين. والحديث هنا عن الكتاب الذين فازوا بجائزة نوبل في الأدب. علما بأن هناك غيرهم من الكتاب الروس والسوفييت قد كتبوا عن الحرب منذ نهاية القرن الثامن عشر حتى وقتنا هذا، وعلى رأسهم ليف تولستوي في ملحمته الخالدة “الحرب والسلام”.

باسترناك الأب

ولد ليونيد باسترناك (1862/ 1945) بأوديسا في عائلة يهودية، وكان أبوه صاحب خان حيث استأجر بيتا به ثماني حجرات راح يؤجرها إلى الفلاحين والرعاة. درس ليونيد باسترناك الطب في موسكو، ولكنه ما لبث بعد ذلك أن اتجه إلى دراسة القانون، وفي نهاية الأمر اختار الرسم عام 1882. وغادر ليونيد باسترناك روسيا السوفيتية في خريف 1921. وفي عام 1924 زار فلسطين بعد أن تلقى طلبا من أحد الناشرين بتحقيق رسوم لكتاب عن هذا البلد، وفي الثلاثينات فكر في العودة إلى الاتحاد السوفيتي على أثر تصاعد قوة النازيين في ألمانيا.

غير أن رواية دكتور چيفاجو لبوريس باسترناك الابن كانت عملا في غاية الأهمية. إذ سعى إلى إجمال كل محصلة إبداعه، والتعبير عن كافة الأفكار الأكثر أهمية بالنسبة له حول روسيا في تلك المرحلة التاريخية، وعن حالة روح الإنسان ككل. ووصف باسترناك هذه الرواية بأنها “أهم أعماله الرئيسية”، وأنها كتاب عن أهم الأشياء التي دفع عصرنا ثمنها دما وجنونا، ولذا يجب أن يَكْتُب بمنتهى الوضوح والبساطة. وكان هذا أهم الموضوعات المركزية لرواية “دكتور چيفاجو”. وهو ما أدى بالكاتب إلى التصادم- مع جميع التغيرات والتحولات- في البداية مع آراء أبيه حول الطابع المميز لليهودية (المطروحة في كراس عن ريمبرانت)، ومن ثم مع التصورات التقليدية لأصحاب النزعة الروسية حول الرسالة التاريخية والخواص المميزة للأمة الروسية والأدب الروسي.

شعب الله المختار

إن بوريس باسترناك يرى أن المعاناة والصبر سمات مميزة لروسيا، ففي “دكتور جيفاجو” روسيا هي التي تتعرض للكثير من المصائب والمآسي، لكن في رأي ليونيد باسترناك الأب، كل هذا من علائم تاريخ اليهود، على هذا النحو يسحب بوريس باسترناك من اليهود ما وصفهم به أبوه ويلصقه بالروس. ولكن من الضروري الإشارة إلى أن ليونيد باسترناك الأب قد رأى بدوره في اليهود وفي تاريخهم تلك السمات التي يعتبرها أصحاب النزعة السلافية في القرن التاسع عشر سمات روسية مميزة. فالميل نحو الآلام يمجده دوستويفسكي وغيره من الأدباء كسمة روسية صرفة. وهكذا كان موقفهم أيضا من الكيمياء الروحية المتميزة التي يستطيع الروس بفضلها تحويل المعاناة والعذاب إلى ما هو سام.

في هذه الرواية، نصطدم أيضا مع أحد جوانب الصراع التاريخي للروس مع اليهود على نفس الحق- أن يكونوا شعبا مختارا على أرض مقدسة. ويمكن أن يكون تاج هذه الأرض موسكو التي يمكنها، مثل روما الثالثة، أن تحل محل القدس الجديدة. ويصفهم ليونيد باسترناك، محافظا على النظرة التقليدية إليهم كشعب مختار، بأنهم مثل أطفال مرتبطين ارتباطا وثيقا بربهم، فهم أحيانا أشقياء وغير مطيعين، وأحيانا يطلبون الصفح والمغفرة في خضوع. أما في “دكتور چيفاجو” فالروس تحديدا هم الذين يملكون ارتباطا خاصا، ولكن ليس مع الله، إنما مع التاريخ، فروسيا هي درس تاريخي وروحي للبشرية كلها باعتبارها الأمة التي تحملت النصيب الأكبر من الآلام و”الدماء والجنون”، وروسيا التي أصبحت أول دولة اشتراكية وتحملت القهر والدمار، أظهرت بهزاتها الداخلية أن هذا هو ما يحدث لأولئك الذين يؤمنون أولا بالنظرية المجردة، والذين يفوزون بالسلطة أثناء عملية “إعادة تفصيل” المجتمع ويبدأون بإعادة تكوين البلاد دون النظر إلى الموقف الآخر النقيض نحو الحياة: تأملها وفرحها بالغموض والتضحية، وبالانبعاث والتجديد الأبديين. أما الصفات الأخرى التي يمتدحها ليونيد باسترناك لدى اليهود وتتحول في “دكتور چيفاجو” إلى الروس، هي العفوية البدائية والقرب من الأرض ونمط الحياة الأبوي العظيم، وهذه الصفات نجدها في الرواية ضمن صفات طبيعة جيفاجو ولارا وتونيا.

لقد عبّر الدكتور چيفاجو عن واحدة من أحب أفكار باسترناك عن روسيا. إذ رأى أن العفوية هي السمة الرئيسية للطابع القومي الروسي. وهذه هي نفس العفوية التي نعت بها ليونيد باسترناك اليهود في السابق. بعد ذلك يعبر چيفاجو عن أن عدم تساهل المراحل الأولية للثورة وصرامتها هما تقليد قومي روسي. والأكثر من ذلك- فإن التنويرية غير المتحفظة لبوشكين. والإيمان غير المراوغ بالواقع لتولستوي. وأن كل ذلك قد تم إيصاله حتى النهاية دون خوف. يعني هناك شيئا ما قوميا- قريبا معروفا منذ زمن بعيد حسب رأي چيفاجو عندما كان لا يزال منبهرا بتلك السمات التي خلقها النمط الروسي والرجعية الروسية النموذجية. ولكن بعد قليل تتشتت آماله في أن تقوم الثورة بتحقيق كل الأحلام القديمة. “فهل توجد في روسيا الآن حقيقة؟” يسأل. ويجيب هو نفسه: “أعتقد أنهم أخافوها لدرجة أنها تختبئ”.

في النصف الثاني من الرواية. أثناء وصف الحرب الأهلية تكتسب صورة روسيا مغزى مأساويا عميقا. إذ تصبح أرض المآسي التي ليس لها مثيل. وتصبح تحذيرا للعالم كله. فليونيد باسترناك كان يرى اليهود أمة استثنائية خفية مغلقة بالنسبة للأمم الأخرى. أما ابنه فيضفي هذه الصفات على الروس. وانطلاقا من دكتور چيفاجو فتاريخ الشعب الروسي، وتحديدا الروسي وليس الشعب اليهودي، هو المثال الذي لا سابق له من المحن خلال زمن قصير جدا. وهذا التاريخ بالذات هو الأكثر دقة في التعبير عن جوهر اليأس الكوني.

الرسالة الروسية

إن أفكار چيفاجو عن “لارا” توضح تصورات المؤلف عن روسيا. فعندما يهرب ليفيريا من الفدائيين ويصل إلى غرفة لارا في “يورياتينا”، يبدأ تأملاته حول، من هي لارا بالنسبة له، ومن كانت، الأمر الذي يغرقه في الأفكار حول روسيا، ومن ثم حول “لارا” ثانية: “ها هو مساء ربيعي في الخارج. الهواء مختلط كليا بالأصوات. أصوات الأطفال الذين يلعبون متناثرين في أماكن متباعدة. وكأنها ترمز إلى أن الفضاء كله مليء بالحياة. وهذا المدى الرحيب- روسيا المتفردة الصاخبة خلف البحار، الولادة العظيمة، الشهيدة، العنيدة، المتهورة، المشوشة، الخاشعة، ذات النزوات العظيمة القاتلة دائما، التي لا يمكن توقعها أبدا! آه. ما أحلى الوجود! ما ألذ الحياة في هذه الدنيا. وما أجمل حب الحياة! آه. ما أكثر ما أجدني دائما مندفعا لأقول شكرا للحياة نفسها. للوجود نفسه. لأقول هذا لهما ذاتهما وفي وجهيهما! إنها لارا: الكلام معها مستحيل. لكنها تمثلهما وتعبر عنهما. هي هبة السمع والنطق التي منحتها بداية الوجود الخرساء”.

أما لارا، فإنها تتحدث وكأنه لا يوجد في تاريخ البشرية إلا لحظتين (الزمن التوراتي والقرن العشرين في روسيا). لارا وچيفاجو يحتفظان في ذاكرتيهما بذكريات مرحلتين من مراحل التاريخ عندما كان الناس “عراة مشردين”. المرحلة الأولى كانت بداية العالم. والمرحلة الثانية في نهايته- في روسيا السوفيتية أثناء الثورة وفي بداية القرن العشرين. كلاهما يفهم هذا. وكلاهما يقدر للآخر الحب والاقتراب كذكرى، كشيء مقدس، كهبة، كتمثال لكل شيء عظيم صنعه الإنسان بين بداية العالم ونهايته. لقد سبق لچيفاجو نفسه أن عبر عن مثل هذه الأفكار عندما كان في المستشفى العسكري أثناء الحرب العالمية الأولى.. قبل أن يكتشف الكارثة. وكان الأمر مرتبطا بالإحساس بخطورة مهمة روسيا وبالامتياز الخاص والتفرد.

إن الأعمال الأدبية الروسية الكبرى التي تتناول الحروب الروسية تدور دوما حول “الرسالة الروسية” و”المسألة الروسية” عبر سردية لا تختلف على الإطلاق عن السرديات “الرسولية”، أو على نحو أدق “السرديات الدينية”، بما في ذلك مشاركة روسيا في الحرب العالمية الثانية، والتي تطلق عليها الأدبيات السياسية والعقائدية والدينية والثقافية الروسية “الحرب الوطنية العظمى” على الرغم من أن هذه الحرب كانت في زمن السلطة السوفيتية- الستالينية التي كانت تعلن عداءها الحصري للدين وللمؤسسات الدينية ولأي شكل من أشكال الغيبيات، لدرجة أنها هي نفسها حولت التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي إلى تجربة غيبية من الدرجة الأولى، وحولت كتب ماركس ولينين إلى كتب مقدسة.

ومع وجه لارا، وعيون لارا، وحب لارا.. ومع تماهي باسترناك نفسه مع كل من “الرسالة الروسية” و”السردية الروسية” تفتح رواية “دكتور جيفاجو” العيون والعقول على آفاق جديدة لإعادة فهم جوهر الكذب واحتقار الإنسان، وتدبيج “الرسالات” و”السرديات”، وفهم جوهر الحروب والدمار وصياغة التبريرات لصناعة الوهم الذي يتحول إلى حالة مادية عبر الدم والإبادة. في هذا المقام، تبدو رواية “دكتور جيفاجو” واحدة من ثلاث روايات روسية في غاية الأهمية إلى جانب “الحرب والسلام” لتولستوي و”الدون الهادئ” لشولوخوف، حيث القتل والدم والإبادة واحتقار الإنسان هي جوهر “الرسالة” عبر “السردية” الناعمة المسمومة التي تضم كل المتناقضات وتنطوي على أحط ما في الروح البشرية من رغبة في الاستحواذ والقمع والتسلط.

(لكتابة هذا المقال، تمت الاستعانة بدراسة للباحث الأمريكي جورج جيبيان تحت عنوان “ليونيد باسترناك وبوريس باسترناك: جدال الأب والابن”، وكانت مجلة “قضايا الأدب” الروسية قد ترجمتها من الإنجليزية في ثمانينيات القرن العشرين).